السبت 02 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حب رغم الهزيمة.. يوسف شاهين فى أسر عبدالناصر

جمال عبدالناصر
جمال عبدالناصر

- عبدالناصر ورغم أخطائه كان صادقًا معنا لذلك أرتبط به وأحببته وعشت معه الأحلام الكبيرة

ربما سيأتى فى ذهنك حين ترى اسم المخرج يوسف شاهين مقترنًا باسم الرئيس السابق جمال عبدالناصر، مشهد بهية التى لعبت دورها الممثلة القديرة محسنة توفيق فى فيلم «العصفور» وهى تصرخ بعد سماع خطاب التنحى لعبدالناصر: «لا أبدًا.. هنحارب.. هنحارب».

ولكنك ربما لا تعلم أن هذا المشهد أو الفيلم ككل الذى عبر شاهين من خلاله عن رؤيته لأسباب الهزيمة، حيث وضع عبدالناصر كسبب من أسباب الهزيمة وليس متحملًا للمسئولية كاملة، لأن السبب كما نرى فى الفيلم يعود للفساد الذى ورثته ثورة يوليو والفساد التابع للثورة والمتمثل فى قصة أبوخضر والكثير من النماذج التى بلور شاهين من خلالها أسباب الهزيمة. فضلًا عن فيلمين آخرين يعتبران من أكثر أفلام شاهين شاعرية هما «الاختيار» و«عودة الابن الضال»، وهذا الأخير هو الفيلم الذى روى فيه شاهين بالتعاون مع صلاح جاهين- وهو ابن آخر لثورة يوليو- حكاية النكسة فى شكل غنائى مأساوى شاعرى.

وفى الثلاثة أفلام لم يقدم شاهين إدانة لعبدالناصر كشخص، لم يهاجم النظام الناصرى أو الدولة ككل كما نرى البعض يفعلون فى كل عصر، بل قدم درسًا أظنه أحد أهم الدروس فى مسيرة شاهين وهو طريقة نقد نظام الحكم، أو الطريقة التى يجب أن ينتقد بها المثقفون الحكم، فهو لم يهاجمه هجومًا غوغائيًا، بل قدم نقدًا فلسفيًا للشكل الذى يجب أن يكون عليه الحكم، ذاكرًا الإيجابيات والسلبيات، ونقاط القوة ونقاط الضعف فى النظام. لا يقدم عبدالناصر بصفته المستبد الطاغية الذى يلقى بالأبرياء فى السجون كما فعل مخرجون آخرون.. ولا يعيد كل المشاكل إلى ثورة يوليو، باعتبارها السبب فى كل ما آلت إليه الأمور كما فعل بعض المثقفين عقب وفاة ناصر، ومنهم أسماء كبيرة فى عالم الأدب. ولكنه حلل بمنهجية وبرؤية سينمائية هذا الخلل.

فى أسبوع واحد تحل ذكرى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وكذلك ذكرى رحيل يوسف شاهين فى يوم ٢٧ من الشهر نفسه، ولكن هل تعرف أن يوسف شاهين منذ ثانى أفلامه «ابن النيل» إنتاج ١٩٥١، أى قبل الثورة بعام، تنبأ بالثورة المنتظرة، تلك الثورة التى كان المجتمع المصرى يستعد لها كما أوضح الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل فى كتابه «ملفات السويس» حين قال:

«إن نشوء الحالة الثورية يجىء نتيجة أوضاع اجتماعية واقتصادية تتراكم فوق بعضها، ثم تجرأ حادثة أو أحداث تقنع الكل بأن الأمر الواقع قد تردى إلى حد لا يرجى إصلاحه، وأنه وصل بما لا يقبل الشك إلى طريق مسدود».

وربما هذه الحادثة التى وقعت قبل ثورة يوليو والتى جعلت الجميع يؤمنون بأن الأوضاع وصلت إلى طريق مسدود هو حريق القاهرة الذى وقع فى بداية عام الثورة، فهذا فى نظرى هو القشة التى قصمت ظهر النظام الملكى.

وهذا هو الوضع بالضبط الذى أوضحه شاهين فى «ابن النيل» وهو مجتمع يعانى من الجهل والتخلف والفقر، ينظر من يعيشون فى ريف وأقاليم هذا المجتمع إلى العاصمة باعتبارها ليس فقط مركز الحكم، ولكن باعتبارها هى البلد كلها، ويعتبرون أنفسهم غير منتمين إلى هذه البلاد.. فالقاهرة هى مصر، أما من يعيش خارجها فيغرق تحت فيضان الجهل والفقر قبل أن يغرق فى مياه الفيضان.

كلنا نتذكر مشهد الفيضان فى الفيلم، نتذكر تنويه شاهين بحاجة المصريين إلى شىء يحميهم من خطر الفيضان الذى يهدد حياتهم وبيوتهم وأمنهم، ولذلك وبعد الثورة وحين يأتى عبدالناصر ويضع مشروع السد العالى على قائمة أولوياته نظرًا لتوجه الدولة آنذاك نحو سياسة التصنيع، ورؤية النظام الناصرى أن السد العالى سيفيد مجال الصناعة، كان شاهين هو من أخرج الفيلم الوحيد الذى يؤرخ لحياة العاملين بالسد، ويؤرخ لقيمة السد ورمزيته السياسية والاقتصادية، بل هو من سيعطى عبدالناصر شخصيًا إشارة البدء فى بناء السد.. وهذا الفيلم هو فيلم «النيل والحياة» ١٩٦٨. 

بعد يوليو ظل شاهين كما أشرنا مؤمنًا بالثورة، تنبأ بصعود نجم عبدالناصر فى فيلمه «نساء بلا رجال» ١٩٥٣ فى الوقت الذى لم يعرف فيه أغلب الشعب الأفراد الذين قاموا بهذه الثورة، ولا يعرف أحد هؤلاء الضباط باستثناء محمد نجيب الذى تصدر المشهد آنذاك. حتى أن الصحفى مصطفى أمين حين نشر مقالًا بعنوان «سر الضباط التسعة»؛ وضع فيه صورًا لضباط الثورة، غضب الضباط بشدة مما فعله الصحفى.

يوسف شاهين 

بالرغم من كل هذا قدم شاهين فى الفيلم عبدالناصر بصفته زعيم الثورة الحقيقى، عن طريق شخصية جمال بطل الفيلم، الشخص الذى قاد ثورة أخرى، بداية من المشاهد الأولى التى يقف فيها جمال مع الفقراء فى مواجهة الأثرياء، وحياتهم المترفة، ومطالبه بالتغيير ومواكبة الواقع، ثم الخطب التى يلقيها جمال فى الانتخابات أمام الجماهير. هنا نرى شاهين يقول معتبرًا الفيلم:

«بالنسبة لى أعتبر الفيلم محاولة للمطالبة بالانتخابات الحرة».

أى أنه كان يرى بعين الفنان وإحساسه أن هذه الشخصية التى تحمل اسم جمال والتى يقال إنه صاحب أو المسبب فى تلك الثورة، هو الذى سيأتى إذا أقيمت انتخابات حرة.

وحتى آخر أفلامه «هى فوضى» ٢٠٠٧ ظل شاهين محبًا لناصر ومخلصًا لأفكاره وثورته؟، حيث كان هناك ظهور لصورة عبدالناصر وقتها داخل الفيلم، بالتحديد فى بيت بهية.. وكلنا نعلم أنه فى عام ٢٠٠٧ وقت عرض الفيلم أو حتى فى ٢٠٠٥ العام الذى تجرى فيه أحداث الفيلم لم يكن أحد يقوم بتعليق صور لعبدالناصر داخل بيته، ولذلك كان هذا المشهد وهذه اللقطة التى تظهر فيها صورة عبدالناصر داخل بيت بهية مميزة. ومن لا يعلم فشخصية بهية فى أفلام شاهين هى رمز وإشارة لمصر. فشاهين كان يرى أننا لسنا بحاجة لاستعادة النظام الناصرى، ولكننا بحاجة لتكوين رؤية جديدة خاصة بعصرنا ولكن تعيد اكتشاف التجربة الناصرية والتعلم من دروسها المستفادة، يقول شاهين:

«أتمنى وجود رؤية وحلم ومشروع جديد، نتفق جميعًا عليه، وعلى مواصفاته، وعلينا أن ندرك أن المشروع القومى ليس مشروعًا للنخبة، وإنما هو مشروع الجاهل والمثقف، وحتى الصبى الذى يجرى وراء الجاموسة، فالكل ينبغى أن يحتشد من أجل المشروع، ليصبح قوميًا بحق».

ويجب أن يشعر المواطن بأنه غير مهمش، بل يشعر بأنه مشارك فى كل ما يحدث، وهذا يتطلب توسيع الهامش الديمقراطى، فنقطة البداية تتمثل فى النضال من أجل الديمقراطية، التى لا وجود لإصلاح حقيقى بدونها.

والديمقراطية بدورها ترفض وتواجه أشكال القمع والرقابة، وكبت الحريات، وفرض القيود على الإبداع، وكل هذه أشياء كانت من أسباب الهزيمة.

لم أشعر بأننى قصرت فى الإعلان عن رؤيتى وإحساسى بعبدالناصر، حتى عندما تعرضت لسلبياته وسلبيات نظامه فى فيلم «العصفور»، فعلت ذلك بحب شديد، وضحه مشهد بهية وهى تصرخ وتطلب منه البقاء بعد تنحيه.

فى أوقات كثيرة تمنيت لو أن لحظات الحرب هذه استمرت، وأقول فى نفسى.. خسارة أننا لم نعد نحارب مجددًا حيث يقتلنا الصمت، والبلاد العربية تنشد السلام، ولكن أى نوع من السلام؟

ورفضت إخراج فيلم عن السادات لأنى لم أكن أحبه.

وأتذكر عند سماعى خبر وفاة ناصر، أول ما فكرت فيه أخذ الكاميرا والتوجه إلى منزله بمنشية البكرى، لتسجيل ما بعد الوفاة لحظة بلحظة، وتسجيل الزحام الرهيب.

فأغلبنا ربما لا يعرفون أن المشاهد التى أرخت لجنازة عبدالناصر، التى تعتبر الجنازة الأشهر لزعيم حتى الآن، هى بعين ورؤية يوسف شاهين، الذى رأى ضرورة التأريخ لهذا الحدث الهام.

ويرد شاهين على اتهامه بأنه كان من المحسوبين على نظام ناصر أو أنه صنع فيلم «صلاح الدين» تمسحًا فى الزعيم قائلًا:

أنا صنعت «الناصر صلاح الدين» عشان أوضح مفاهيم معينة، وأطرح أسئلة زى الحرب والإنسانية والأديان، لكن مش عشان حبى لعبدالناصر، كنت بحب عبدالناصر عشان إرادته وإنجازاته من الجلاء والسد العالى وحتى أحلامه ورؤيته، وحتى الآن أحبه، لكن لم أرد التمسح به فى أى وقت، ولا حتى بفيلم الناصر.

ولذلك ظن البعض أن صنعى للفيلم وموافقتى عليه هو تمسح فى عبدالناصر، وهذا خطأ فقررت الابتعاد، وسافرت لبنان.

خارج مصر كنت يتيمًا، لا أدرى ماذا أفعل؟ كأننى تركت عقلى والإلهام فى مصر، لو أن هناك شيئًا اسمه موهبة يوسف شاهين فستكون هذه الموهبة مكتسبة من الحياة فى مصر، من النظر إلى وجوه الناس فى الشارع، والسماع لحكايتهم، من هنا أكتسب موهبتى، ومن هنا تتشكل وتزداد ثقافتى، أما فى الخارج فقد كنت أفتقد لكل هذا.

ولذلك وأثناء ابتعادى وافقت على عمل أى شىء من أجل المال، كنت فى لبنان ومفلس، لاقيت اللى بيعرض عليا عمل أغنية مقابل ألف دولار، وبالطبع وافقت، فى مصر مستحيل أن يحدث هذا، مستحيل أن أقبل عمل لا يعجبنى من أجل المال، لأننى فى مصر أستمد قوتى من الموهبة التى أكتسبها من الشارع والناس، وأشعر بالقوة، يكفى أننى رفضت إخراج أغنية لأم كلثوم وهى أم كلثوم.

فيلم الناصر أنقذنى من الجوع والفقر، بعد «باب الحديد» بصق فى وجهى أحد المشاهدين، وهذا جعلنى أنهار تمامًا، وأرفض أى سيناريو يعرض علىّ.

عبدالناصر كان بيحب السينما، ولذلك الفترة دى وفى الستينيات تحديدًا كان فيها أفلام بجد ليها قيمة، ويمكن الأفلام اللى اتعملت فى الفترة دى هى اللى شكلت التاريخ السينمائى المصرى، مش أفلامى بس، أتحدث عن أفلامى وأفلام غيرى، كلها أعمال فضلت مكملة لسنين طويلة ولحد دلوقتى لسه الناس فاكرة أفلام الستينيات، لكن الرؤساء اللى بعده أضروا السينما، ومكنوش بيحبوها.

وفى الأخير يقول شاهين واصفًا إحساسه بتلك الفترة الهامة التى كان من أهم مؤرخيها وهى الفترة التى شهدت ثورة يوليو والسنوات التابعة لها:

«عبدالناصر ورغم أخطائه كان صادقًا معنا، لذلك أرتبط به وأحببته، وعشت معه الأحلام الكبيرة التى افتقدتها بعد ذلك، وخفت من إخراج فيلم عنه لأن من كثر افتقادى وحبى له كنت أخاف أغلط، بحيث أقدمه كما تراه عيونى.. عيون المحب».