السينمائى الثائر جودار.. المخرج الفرنسى الذى هاجم الإسرائيليون أفلامه بـ«الفئران»
لا يوجد شك أن المخرج الفرنسى جان لوك جودار «1930-2022» واحد من أهم وأعظم الفنانين والسينمائيين فى تاريخنا الإنسانى، فهو صاحب مسيرة لا يمكن تجاوزها، وصاحب نقلة فى تاريخ السينما، باعتباره مؤسسًا لـ«السينما الجديدة»، ليس فقط فى فرنسا، ولكن على مستوى العالم.
بعد عرض فيلمه «Breathless» أو «نفس لاهث»، عام 1960، رأى العالم كله سينما جديدة وغير معتادة ومغايرة لكل ما سبق، لكن ماذا عن موقف «جودار» من السياسة والأفكار الاستعمارية؟ وما موقفه من قضية الإنسانية كلها، القضية الفلسطينية؟
Godard Mon Amour
كان «جودار» داعمًا وبقوة للقضية الفلسطينية، وكمواطن يعيش فى دولة داعمة للكيان الصهيونى، تسبب دعمه هذا فى التضييق عليه ومحاصرته لأكثر من مرة.
فى فيلمه «Godard Mon Amour» أو «جودار حبيبى»، الذى قدمه فى ٢٠١٧، روى «جودار» سيرته الذاتية، والمواقف التى تعرض لها فى حياته، وتحولاته الفكرية.
نرى فى أحد مشاهد هذا الفيلم «جودار»، وهو يقف داخل اجتماع به بعض صناع السينما الأوروبية والسياسيين، ثم يقول بصوت عالٍ: «يجب أن نقف فى صف الفلسطينيين، وعلينا أن نقول إن اليهود هم نازيو هذا العصر»، فما كان من المسئولين إلا أن سحبوا منه «الميكروفون» لمنعه من مواصلة حديثه.
هذا الفيلم يعتبر من الأفلام الأخيرة فى مسيرة «جودار»، فقد أخرجه وعمره يقترب من التسعين. ومع ذلك لم يتخل فيه عن الأفكار التى آمن بها فى مراحل شبابه وصباه.
ولم يكن «جودار» ثوريًا فقط على مستوى الآراء السياسية، أو فى التقنيات السينمائية كمخرج، بل أثناء عمله كناقد سينمائى، فى مطلع خمسينيات القرن الماضى، كان منتقدًا بشدة لكل الأفلام النمطية التى لا تضيف جديدًا للسينما والحياة، ليضف آنذاك قواعد جديدة للنقد السينمائى، ولحركة الكاميرا والصوت وكتابة السيناريو.
Le Petit soldat
لأنه ضد فكرة الاستعمار بشكل عام، هاجم «جودار» الاستعمار الفرنسى للجزائر بقوة، فى فيلمه «le petit soldat» أو «الجندى الصغير»، فأقدمت السلطات الفرنسية على منع عرض الفيلم عام ١٩٦٠، واستمر هذا لمدة ٣ سنوات كاملة، قبل أن يعرض العمل فى ١٩٦٣.
وحتى يومنا هذا، إذا ما كتبنا اسم «جودار» على محركات البحث، سنرى أن هذا الفيلم وأفلامًا أخرى سياسية للمخرج نفسه، لا أحد يعرف عنها شيئًا، لأن هذه المحركات البحثية، والمواقع التى كتبت السيرة السينمائية للمخرج الكبير، لم تذكر هذه الأفلام، وكأنها لم تكن.
Ici et Ailleurs
من هذه الأفلام الفيلم الوثائقى الذى تعاون فيه «جودار» مع منظمة التحرير الفلسطينية، وحمل عنوان « Ici et Ailleurs» أو «هنا وفى مكان آخر»، والذى زار معسكرات التدريب الفلسطينية لتصويره، بعد أن أصبح على وعى كامل بالقضية، بعد نكسة ١٩٦٧.
وبالرغم من أن «جودار» كفنان وإنسان فعل كل ما فى وسعه لمناصرة القضية، سبق أن صرح بأنه «كمواطن أوروبى يشعر بأنه متورط مباشرة فى الوضع الاستعمارى بالشرق الأوسط بشكل عام، وفى فلسطين خاصة».
وجلب الدفاع الدائم عن القضية الفلسطينية للمخرج الفرنسى اتهامات متكررة بـ«معاداة السامية»، وهو الاتهام الذى يلحق بكل من يقول الحقيقة، أو كل من يحاول الخروج عن الإطار الذى فرضه الإعلام الغربى، رغم أنه لم ينكر تعاطفه مع الشعب اليهودى، ومحنته فى أوروبا النازية.
وفى الفيلم سالف الذكر، وضع «جودار» رئيسة الوزراء الإسرائيلية، جولدا مائير، جنبًا إلى جنب مع الزعيم النازى، أدولف هتلر، وبالطبع لم يصمت اليهود، وأقدمت جماعة تسمى «العين بالعين» على إطلاق قنابل غاز وعدد مهول من الفئران والقوارض فى قاعات العرض التى خصصت وقتًا للفيلم فى باريس. هذا الفعل الهمجى المعتاد من جانب الصهاينة لم يلق إعجاب أحد أصحاب دور العرض اليهود آنذاك، والذى صرح قائلًا: «إن ما يفعله هؤلاء شبيه بما يفعله النازيون».
وفى فيلم «Weekend» أو «نهاية الأسبوع»، الذى قدمه «جودار» عام ١٩٦٧، تسخر الشخصيات بوضوح من النفاق الذى يعيش فيه المجتمع البرجوازى، مع إظهار الحرب الطبقية العنيفة التى يخوضها العالم فى طريقه إلى الرأسمالية. الفيلم عُرض قبل عام واحد من الاضطرابات الطلابية الشهيرة والغضب الشعبى، الذى انفجر فى مايو ١٩٦٨ تجاه المؤسسة الحاكمة فى فرنسا، احتجاجًا على السياسات القائمة.
الأوسكار
عام ٢٠١٠ عندما أعلن مسئولو «الأوسكار» إمكانية منح «جودار» الجائزة، ثارت الجماعات المؤيدة لإسرائيل، ودعت «المنظمة الصهيونية الأمريكية» إلى إلغاء «الأوسكار» من الأساس، واصفة المخرج الفرنسى من جديد بأنه «متحايل.. خبيث.. معادٍ للسامية». وكلما أُتهم بـ«معاداة السامية»، كان «جودار» يرد بوضوح قائلًا: «أنا معادٍ للصهيونية فقط ولست معاديًا للسامية».
وعندما نظم المعهد الثقافى الفرنسى مهرجانًا لـ«تبادل الثقافات مع إسرائيل»، قال إسرائيليون مشاركون فيه: «الهدف من إقامة هذا المهرجان هو إعادة الاعتبار إلى الثقافة الإسرائيلية، التى شوهها الفلسطينيون»، وجاء رد «جودار» واضحًا: «ما شوه ثقافة إسرائيل هو سياستها المتشددة بشكل متزايد تجاه الفلسطينيين»، وتضامن معه فى ذلك المخرج الإسرائيلى إيال سيفان، الذى أعاد السبب فى كل ذلك لـ«الوضع الاستعمارى والقاتل الذى ساد لأكثر من خمسين عامًا فى فلسطين».
وفى فيلمه «A Married Woman» أو «امرأة متزوجة»، الذى قدمه فى ١٩٦٤، سخر «جودار» بوضوح من المعتقدات اليهودية، وقال إن «لعب دور الضحية بشكل مستمر من قبل اليهود هو مجرد لعبة سياسية»، وإن «اليهود هم السبب فى كل ما تعرضوا له عبر التاريخ»، معلنًا فى الوقت ذاته تعاطفه مع ما حدث لهم فى «الهولوكوست». ثم واصل ذلك فى فيلمه «Film Socialisme» أو «فيلم الاشتراكية»، فى عام ٢٠١٠، الذى أعاد فيه ما قاله قبل حوالى ٥٠ عامًا، لكن بتنويعة مختلفة.
فى النهاية، الفنان الحقيقى هو هذا الإنسان الذى ينتصر للحقيقة، والذى يقول إن خيوط الشمس صفراء أو ربما برتقالية، وليس من ينضم إلى القطيع الذى يؤمن أن الشمس زرقاء أو خضراء، حتى ولو هناك ألف كتاب مقدس يقول ذلك،، فالحقيقة جلية.. وبلا شك كان «جودار» مناصرًا للحقيقة، وهى أن القضية الفلسطينية هى قضية كل إنسان، وقضية الوجود البشرى.