السبت 05 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

لم تُنشر منذ صدورها قبل 79 سنة.. المقدمة المحذوفة لرواية «مزرعة الحيوان»

جورج أورويل
جورج أورويل

- الناشرون رفضوا طباعة رواية تتحدث عن «خنازير» تحكم جزءًا من العالم الذى كان يحتفل بانتصاره على النازية

كل الحيوانات سواسية، لكن بعضها «أكثر سواسيةً» من غيرها!

هذه العبارة اللامعة، التى أنهت عملى فى جريدة «الأهالى» ذات يوم، هى بمثابة المدخل لرواية «مزرعة الحيوان» الشهيرة للكاتب البريطانى جورج أورويل، الصادرة فى طبعتها الأولى 17 أغسطس 1945. وهى إحدى الروايات القلائل فى الأدب الغربى، المكتوبة بأسلوب الحكاية الساخرة، أحد أصعب الأساليب فى الكتابة على الإطلاق.

ورغم مرور 79 سنة على صدور الرواية، التى اعتُبرت واحدة من «أفضل مئة رواية» بالإنجليزية، ودخلت فى عداد كلاسيكيات الأدب الغربى، قد لا يعرف الكثيرون أن هناك «مقدمة مجهولة» للرواية رفض الناشر طباعتها، حتى لا تؤثر على المبيعات، أو تحرفها مغزاها عن خانة «معاداة الشيوعية» التى وُضعت فيها منذ صدورها، حتى الآن! 

نُشرت تلك المقدمة المحذوفة لأول مرة فى أغسطس 1972 بصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، إذ قادت الصدفة أحد محررى الجريدة إلى اكتشافها تلك المقدمة، حين كان يقوم بالتنقيب فى مكتبة قديمة خلّفها مهاجر من إيرلندا. 

مع اكتشافها منذ ذلك التاريخ، لم تُطبع هذه المقدمة فى معظم طبعات الكتاب باللغة الإنجليزية، ولا فى الترجمات العربية العديدة، حيث شُغف بها المترجمون العرب بشكل «مُريب»، إلى درجة أنها تُرجمت ١٦ مرة منذ عام ١٩٥١، وصدرت ست ترجمات منها خلال فترة «وباء كورونا» فقط!

كيف يمكن لرواية استغلتها المخابرات الأمريكية فى حربها ضد الشيوعية، ومُنعت زمنًا فى الدول الاشتراكية، وما زالت ممنوعة فى الصين وكوريا الشمالية وكوبا، أن تُترجم للغة العربية ١٦ مرة حتى وقت قريب؟، تفسير ذلك دون اللجوء إلى «نظرية المؤامرة» ليس عندى!

تحكى «مزرعة الحيوان» عن ثورة متخيّلة قامت بها الحيوانات ضد مالك المزرعة «السيد جونز»، ونجحت بذلك فى الفكاك من إسار سيطرة البشر عليها، لتبنى عالمها الخاص، وتحكم نفسها بنفسها، سعيًا إلى تحقيق «العدالة والمساواة» فيما بينها. 

ولكن رياح الأحداث تأتى بما لا تشتهى الحيوانات الثائرة، حيث يظهر التناقض الحاد بين «الشعارات الثورية» المرفوعة وممارسات الحكام بعد الثورة، ويحول الفساد والتسلط وقصر النظر دون أى أمل فى وجود عالم «اليوتوبيا» الذى تسوده «العدالة والمساواة» حقًا. 

وكما قال الشاعر الفرنسى المشهور جان آرثر رامبو، الذى كان أورويل نفسه يقدّره بشكل خاص، فإنه «عدم وهباء كل الثورات الممكنة، وحتى المحتملة». تفشل الثورة، كالعادة، وتأكل أبناءها فى النهاية!

«خنازير» تحكم العالم 

نظر عموم القرّاء حول العالم إلى الرواية منذ صدورها بشكل أحادى، إذ اعتبروا أنها كما صورتها الدعاية الغربية عشية الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالى والشيوعى، تصوير للحياة الرهيبة داخل أسوار «الاتحاد السوفيتى» السابق، خصوصًا فى عهد جوزيف ستالين، بهدف تخويف العالم من الشيوعية.

لكن الحقيقة كما أرادها المؤلف فى المقدمة غير المنشورة، أن «مزرعة الحيوان» ربما تمثّل أى مجتمع بشرى، سواء كان رأسماليًا أو اشتراكيًا، فاشستيًا أو شيوعيًا. صحيح أن نقد تجربة حكم جوزيف ستالين هو الأساس الذى بُنيت عليه الرواية، غير أنها «أمثولة روائية» مكتفية بذاتها، وظلت مقروءة بقوة، حتى بعد اختفاء الأساس الذى قامت عليه.

والدليل على أن مؤلف الرواية لم يقصد بها نقد الشيوعية عمومًا، لأنه هو نفسه كان شيوعيًا بشكل ما، أن من بين الناشرين الذين رفضوا الرواية، الشاعر المعروف ت. س. إليوت، وكان مدير دار نشر وقتها. فقد امتدح إليوت الرواية بشدة، وأشاد بالسرد الذكى الممتع، لكنه رفض نشرها لأنه رآها نازعة إلى «التروتسكية»، وهى فصيل شيوعى أكثر راديكالية من البلاشفة أنفسهم، كان معاديًا لحكم ستالين. 

المقدمة المجهولة عبارة عن شكوى تقطر مرارةً كتبها «أورويل»، حكى فيها عن الصعوبات التى واجهت عملية طباعة الرواية، بعد أن قدمها إلى عشرات الناشرين، لكنهم رفضوها بحجة أن «الظرف السياسى» لا يسمح بنشرها، خصوصًا أن «الاتحاد السوفيتى» كان لا يزال حليفًا وثيقًا للغرب فى المعركة ضد ألمانيا وإيطاليا واليابان. ولم يكن من المنطقى- وفق الناشرين- طباعة رواية صغيرة تتحدث عن «خنازير» تحكم جزءًا من العالم الذى كان يحتفل وقتها بانتصاره على النازية!

وللمفارقة، فقد استخدمت أجهزة الدعاية الغربية، والأمريكية على وجه الخصوص، الرواية لشن حرب أيديولوجية ضد المعسكر الاشتراكى بعد ذلك، فى سياق تصوير الجانب المعتم من التجربة الشيوعية. وذلك على الرغم من أن «أورويل» هو القائل: «إن كل سطر من سطور أعمالى الجادة التى كتبتها منذ عام ١٩٣٦ كُتب، مباشرة أو بشكل غير مباشر، ضد النزعة الاستبدادية، ومن أجل الاشتراكية الديمقراطية كما أفهمها». 

واستخدمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «مزرعة الحيوان»، كأداة فى حرب الدعاية الواسعة ضد دول الكتلة الشيوعية. وبين عامى ١٩٥٢ و١٩٥٧، نظمت الوكالة عملية إطلاق بالونات «مناطيد» من ألمانيا الغربية، أسقطت خلالها آلاف النسخ المترجمة من الرواية فى دول ما كان يُعرف بـ«الستار الحديدى»، ومنها دول ألمانيا الشرقية وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا. 

وضمن هذا الاستخدام السياسى المكشوف للرواية، وصل الأمر إلى حد أن مفكرى تيار «المحافظين الجدد» فى الولايات المتحدة، استخدموها كسلاح مزدوج ذى حدين منذ الخمسينيات من القرن الماضى، وحتى نهاية حكم الرئيس الأمريكى الأسبق جورج دبليو بوش؛ تارة ضد الاتحاد السوفيتى، وتارة أخرى ضد حركات الليبراليين الجدد «النيو- ليبرالية الأمريكية»، فأصبحت الرواية بمثابة سلاح مُشرع ضد أى حركة سياسية تفكر فى الثورة على الوضع القائم.

«رُهاب فكرى» جماعى

شن أورويل، فى المقدمة، هجومًا لاذعًا على معاصريه، واتهم جموع البريطانيين بالخضوع لحالة من الخنوع الفكرى، متذمرًا فى الوقت نفسه من حالة «الرقابة الذاتية» المفروضة على الفكر الغربى آنذاك. ووصف عملية الرقابة الداخلية هذه بأنها باتت «مسألة تطوعية» بحتة، يتسابق الكثيرون إلى أدائها «حبًا وكرامة». 

وجاء فى المقدمة التى نشرتها «نيويورك تايمز»، بقلم أورويل: «فكرت فى الفكرة الرئيسة لهذا الكتاب عام ١٩٣٧. ولكنى بدأت التدوين الفعلى أواخر عام ١٩٤٣ تقريبًا. وبحلول الوقت الذى تمت فيه كتابته، وهو ذروة الحرب، كان من الواضح أنه ستكون هناك صعوبة كبيرة فى الحصول على دار نشر، على الرغم من أن النقص الحالى فى الكتب الصادرة بسبب الحرب، قد يضمن أن أى شىء يمكن وصفه بأنه كتاب، سيبيع».

يضيف الكاتب: «تم رفض الرواية من قبل أربعة ناشرين. واحد فقط من هؤلاء كانت لديه دوافع أيديولوجية. وكان اثنان منهما ينشران كتبًا معادية لروسيا منذ سنوات، والآخر ليس له لون سياسى محدد. بدأ أحد هؤلاء الناشرين بالفعل بقبول الكتاب، ولكن بعد اتخاذ الترتيبات الأولية قرر الرجل فجأة استشارة وزارة الإعلام، التى يبدو أنها حذرته من النشر».

ورأت وزارة الإعلام البريطانية وقتها، حسب المقدمة، أنه «من غير المستحسن نشر ذلك الكتاب فى هذه الآونة، خصوصًا أن السرد القصصى فى الرواية يتعقب مجريات المسار الروسى السوفيتى، واختيار الخنازير على اعتبارها الطائفة الحاكمة ضمن السرد القصصى يوحى بالكثير من الإساءة لدى العديد من القراء، لا سيما طائفة من الشعوب ذات الحساسية المفرطة مثل الشعب الروسى الصديق»!

وتابع المؤلف: «إذا بذل الناشرون والمحرّرون جهدهم لإبعاد بعض المواضيع عن المطبوعات، فليس ذلك لأنهم يخشون الملاحقة القضائية، ولكن لأنهم يخافون من الرأى العام. وفى هذا البلد، فإن الجُبن العقلى، وإن شئت الرُّهاب الفكرى الجماعى، هو أسوأ عدو يمكن أن يواجهه الكاتب»!

ورأى المؤلف أن «أى شخص منصف يتمتع بخبرة فى المجال الصحفى، سيعترف بأنه خلال هذه الحرب الأخيرة لم تكن الرقابة الرسمية مزعجة بشكل خاص. ولم نتعرض لهذا النوع من (التنسيق) الشامل الذى ربما كان من المعقول توقعه. الصحافة لديها بعض المظالم المبررة، ولكن بشكل عام، تصرفت الحكومة بشكل جيد وكانت متسامحة تجاه آراء الأقليات». 

ووفق الكاتب، فإن: «الحقيقة المشئومة حول الرقابة فى إنجلترا هى أنها طوعية إلى حد كبير. يمكن إسكات الأفكار غير الشعبية، وإخفاء الحقائق المزعجة، دون الحاجة إلى أى حظر رسمى. فأى شخص عاش لفترة طويلة فى الخارج، سيدرك على الفور الحالات التى تظهر فيها الأنباء المثيرة على سطح الأحداث، وأعنى بها تلك الأنباء التى سرعان ما تجد سبيلها إلى صدارة عناوين الصحف والمجلات، والتى يجرى استبعادها حاليًا على نحو واضح من الصحافة البريطانية. ولا يرجع ذلك إلى التدخل الحكومى بأى حال، كما قد يظن البعض، وإنما السبب فى ذلك هو الاتفاق الضمنى غير المعلن بأنه لا جدوى تُذكر من عناء نشر تلك الحقائق»!

إن الصحافة البريطانية، حسب أورويل، «ذات طبيعة مركزية للغاية، وأغلبها مملوك لزمرة من الأثرياء الذين يملكون كل الدوافع لأن يتسموا بعدم الأمانة إزاء الموضوعات ذات الأهمية. بيد أن نفس النوع من الرقابة المخفية لها أصابعها التى طالت المطبوعات والكتب والدوريات، تمامًا كما كان الحال فى المسرحيات، والأفلام، والمسلسلات الإذاعية». 

وفى أى لحظة، يقول المؤلف: «هناك تلك الكتلة المعتبرة من المعتقدات التقليدية، التى تقف كحائط صدّ فى وجه الكاتب. وهى مجموعة الأفكار التى من المُفترض بالشخص البريطانى ذى التفكير السليم، القبول بها دون تشكيك. فليس من المحظور على نحو خالص التفوّه بهذا، أو ذاك. ولكن ليس من المقبول إطلاقًا التفوّه به»!