التاريخ الذى ضيعناه.. عادل حمودة يفتح الملف الشائك على هامش ذكرياته عن أحمد زكى
- بيعت فساتين أفلام «سعاد حسنى» فى مزاد علنى لسداد ما عليها من ضرائب
- أهملنا مقتنيات نجوم الفيلم والكتاب والرواية والسيمفونية واللوحة التشكيلية ولم نحتفظ بها
التراث هو رصيد أمة من الفكر والفن.
رحم تكونّا فيه ونهر شربنا منه وفطيرة التهمناها قبل أن نتعلم صناعة الفطائر بأنفسنا.
كل منا له تراث ومن ينكره كمن ينكر أن له أُمًا.
لكن التراث ليس صنمًا نعبده أو قدرًا لا نحيد عنه.
التراث خبرة الماضى التى نستفيد منها ومرحلة الطفولة التى نعيشها ثم نتجاوزها إلى ما هو أهم وأرحب.
على أن من لا يعرف تراثه لا يعرف أصوله ويقطع جذوره ويصبح كائنًا عشوائيًا.
إننا نريد الوصول إلى المستقبل دون أن نبصق على الماضى.
لكننا نعرف الكثير عن الماضى البعيد ولا نعرف سوى القليل عن الماضى القريب.
نعرف الكثير عن الفراعنة ونحفظ سيرة الأنبياء ونذاكر قصائد شعراء الجاهلية وغيرها من محطات التاريخ البعيد الغارق فى القدم، لكننا فى الوقت نفسه نهمل التاريخ الحديث القريب منا والمؤثر فينا.
لدينا متاحف فرعونية وإسلامية وقبطية ويونانية ومَلكية ولكن ليس لدينا متاحف ثقافية أو فنية.
أهملنا مقتنيات نجوم الفيلم والكتاب والرواية والسيمفونية واللوحة التشكيلية ولم نحتفظ بها ليظلوا بيننا نتذكر صورهم ونشم رائحتهم ونتعلم من سيرتهم ونكشف ما خفى عن حياتهم لنتعلم منهم ولنكمل مشوارهم.
لم تشترِ الدولة فيلا «أم كلثوم» فى حى «الزمالك» لتحولها إلى متحف نرى فيه صورها وأوسمتها وثيابها وخطاباتها ونوتها الموسيقية وأثاث بيتها وأسلوبها فى المعيشة ولكن الفيلا هدمت وكل ما يخصها لم يعد له وجود.
وحدث الشىء نفسه مع «محمد عبدالوهاب».
وبيعت فساتين أفلام «سعاد حسنى» فى مزاد علنى لسداد ما عليها من ضرائب.
وصرّحت «رغدة» فى حوار تليفزيونى على شاشة برنامج «وائل الإبراشى»: «إنها وجدت صور وملابس وتذكارات أمينة رزق» عند بائع «روبابيكيا» واتصلت بنقيب الممثلين «أشرف زكى» ليتسلمها لكنه فضل أن تكون عندها حتى يفكروا فى طريقة للاستفادة منها.
وحدث الشىء نفسه مع صور وأوراق «أحمد مظهر» حتى جاءت ابنته «ريهام» وتسلمتها.
وتعددت الاقتراحات بتكريم «نجيب محفوظ» بعد وفاته، ولكن كل ذلك تبخر عملًا بجملته الشهيرة «آفة حارتنا النسيان».
واحتارت «معتزة» ابنه «صلاح عبدالصبور» ما الذى تفعله بكل ما ترك والدها الشاعر والكاتب والمفكر من مخطوطات نقدية وإبداعية بخط يده.
بالطبع لم ينجُ «أحمد زكى» من المصير نفسه بل ربما كان مصير ما تبقى منه أسوأ.
فى يوم الإثنين ٢٣ فبراير ٢٠٢٠ دخل «وائل الإبراشى» بكاميرات برنامجه إلى الشقة رقم «٤» فى الدور فوق الأرضى من العمارة رقم «٢٠٠» شارع «الأهرام» التى امتلكها «أحمد زكى» وكانت مكتبًا لشركة الأفلام التى كونها.
عرضت الكاميرا مقتنيات النجم الراحل الملقاة فى حالة من الفوضى والإهمال وكأنها تنتظر من يلقيها فى أقرب قمامة.
هذه الشقة فرح بها «أحمد زكى» أكثر مما فرح بشقة السكن فى حى «المهندسين»، والسبب أنها ستمنحه فرصة إنتاج ما يحلم من أفلام لا يغامر المنتجون بالدخول فيها.
حسب الصحفية «هانم الشربينى» فى كتابها «أوراق أحمد زكى» فإن الشقة اشتراها «أحمد زكى» يوم ٣٠ أكتوبر ١٩٨٤ مقابل ١٧ ألف جنيه فى وقت بدأ فيه نجمه يلمع بعد أن قدم أفلام «درب الهوى» و«النمر الأسود» و«أنا لا أكذب ولكنى أتجمل» وكان يستعد لتقديم «الصعاليك» لكن «داود عبدالسيد» اختار «محمود عبدالعزيز».
تتكون الشقة من ثلاث غرف وصالة ومطبخ وحمام، وأتذكر بعد شهر من شرائها دعيت إليها ليحتفل بها ووجدت فيها «هادى الجيار» و«على سالم» و«ممدوح وافى»، ويومها رفض «أحمد زكى» أن يشرب أحد كأسًا من زجاجة «الويسكى» التى أحضرها أحدهم «حتى يبارك الله فى الشقة»، ودعانا إلى نايت كلوب «سادول» فى فندق «مينا هاوس».
بعد وفاته آلت الشقة إلى ابنه «هيثم».
وفى يوم وجدت مكالمة من «أحمد زكى» اكتشفت أنها من «هيثم».
استنجد بى للرد على ما كتبه السيناريست «مصطفى محرم» ضد أبيه.
فجأة ودون مقدمات فتح النار عليه بعد وفاته بسنوات طوال، وتحولت حروف كلماته إلى أشواك ومخالب حين أنكر أن «أحمد زكى» أسطورة ولا يستحق تقديم قصة حياته فى مسلسل تليفزيونى.
ودون تردد أضاف: «أنا من صنعت منه نجمًا».
تعجبت من تأخره فى الكشف عما فى صدره تجاه «أحمد زكى» بعد أن وصفته بفارس الفرص الضائعة والساحات الخالية الذى اختار أن يقاتل خصمًا تحت الثرى ودون كيشوت الذى يحارب طواحين هواء لا وجود لها.
وطلبت «هيثم» لينشر الرد على لسانه لكنه لم يرد.
وطلبت «هيثم» تليفونيًا ليتلقى الرد ويرسله إلى جريدة «المصرى اليوم» لينشر على لسانه، لكنه لم يرد، وعاودت المحاولة أكثر من مرة حتى شعرت باليأس.
وبعد عدة أشهر صدمت بخبر وفاته فى يوم ٦ نوفمبر ٢٠١٩ قبل ثلاثة أيام من احتفاله بعيد ميلاده السادس والثلاثين.
كانت هناك صدمة أخرى عندما عرفت أن شقيقه من الأم «رامى عزالدين عبدالله» حصر الإرث الشرعى فيه ليحصل على سدس التركة فرضًا ويحصل على الباقى تعصبًا لعدم وجود وارث آخر، ولم تطعن شقيقات «أحمد زكى» من الأم فى صحة ذلك.
وهكذا آلت شقتا السكن والمكتب بما فيهما من مقتنيات إلى شاب يعيش فى لندن ولم يعرف الكثير عن قصة كفاح «أحمد زكى» والمعاناة التى مر بها.
لم يقدّر «رامى عزالدين» على ما يبدو أهمية الحفاظ على تراث نجم يجن الجمهور به مثل «أحمد زكى»، ولم يتردد فى أن يبيع شقة المكتب دون الاهتمام بما فيها من تذكارات وكأنه لم يبالِ بتراث زوج أمه الأول.
حسبما نشرت «هالة الشربينى» فإن الشقة اشتراها «عمرو هندى»، النائب عن دائرة «الوراق»، وإن كتب العقد وسجل باسم «محمد سامى».
بيعت الشقة بمبلغ ٨٥٠ ألف جنيه وإن كانت التقديرات المتواضعة ترفعها إلى مليون و٢٠٠ ألف جنيه، لكن يبدو أن «رامى عزالدين» أراد التخلص منها فى أسرع وقت ممكن حتى يعود إلى لندن حيث يعيش.
والحقيقة أن ما كان فى الشقة يتجاوز مقتنيات «أحمد زكى» إلى ما هو يعد جزءًا من تاريخ مصر.
عندما مثل «أحمد زكى» فيلم «السادات» لم تبخل عليه السيدة «جيهان» بشىء وسمحت بالتصوير فى البيت والمكتب، بل وسمحت باستخدام «البايب» الذى كان يدخن فيه زوجها التبغ، وسمحت أيضًا بالحذاء الذى كان ينتعله عند اغتياله.
أكثر من ذلك، وافقت أن يحتفظ بهما «أحمد زكى»، فما حدث لهما؟ وأين هما اليوم؟ وما هو مصيرهما؟ وهل بيعا مثل كثير من مقتنيات ملوك ورؤساء مصر إلى جهات ما فى الخارج بعد تهريبها؟
ربما يكون من المناسب هنا أن أذكر هذه الواقعة التى كان بطلها الرئيس الفرنسى «شارل ديجول»، ووزير الخارجية المصرية «عصمت عبدالمجيد» عندما كان سفيرًا لمصر فى باريس.
كتب «شارل ديجول» بخط يده رسالة تعزية يوم وفاة «جمال عبدالناصر» جاء فيها:
«سعادة عصمت عبدالمجيد سفير الجمهورية العربية المتحدة
٢٩ سبتمبر ١٩٧٠
السيد السفير
أشاطر من كل قلبى الحزن العميق الذى أصاب مصر، فبفضل صفاته الاستثنائية من ذكاء وإرادة وشجاعة قدم الرئيس جمال عبدالناصر لبلاده وللعالم العربى أجمع خدمات ليس لها مثيل. ففى مرحلة من التاريخ أكثر قسوة ومأساوية من أى فترة أخرى لم يتوقف عن النضال من أجل استقلال بلاده واستقلال الدول العربية، وكذلك من أجل شرفهم وعظمتهم، وقد كنا نحن الاثنان نبادل بعضنا البعض التفاهم والتقدير العميق ولذلك فقد استطعنا أن نعيد بين الجمهورية العربية المتحدة وفرنسا العلاقات الطيبة للغاية التى تمليها الصداقة الكبيرة والقديمة التى تربطهما ورغبتهما المشتركة فى تحقيق العدل والكرامة والسلام».
«وإذ أعبر من خلال شخصكم عن مشاعرى الراسخة أرجو سيدى السفير أن تتقبل فائق احترامى وأحر تمنياتى».
حصلت على نسخة من الرسالة من «هدى عبدالناصر» لكنها أضافت حزينة:
«إن عصمت عبدالمجيد باع الرسالة إلى أحد محلات العاديات».
ولم أصدق ما سمعت.
لكن ما إن اتصلت به حتى أكد ما عرفت، وكان مبرره أن الرسالة شخصية وليست رسمية، وهو مبرر فيه كثير من المغالطات، فما كان «شارل ديجول» يرسلها له لو لم يكن سفيرًا لمصر فى باريس.
ورغم أن الواقعة غير منتشرة رغم أننى نشرتها فى حياة بطلها إلا أنها على ما يبدو قد صارت قاعدة شائعة.
وعندما نقرأ مذكرات المسئولين فى مصر نجد كثيرًا من الوثائق التى حصلوا عليها بحكم مناصبهم وكأن ذلك من حقهم.
فى الوقت نفسه لا نجد أحدًا يحترم الحقوق الأدبية والمعنوية لما ينشر، ويأكل منها ما يتجاوز الشبع وكأنها حقل برسيم مستباح لكل ما يمر به من أغنام.
وتمتد المأساة إلى المبدعين.
لم نجد قيمة لمتعلقات نجم مثل «أحمد زكى» تصور أن الجمهور الذى أسعده حيًا سيدافع عن تذكاراته ميتًا.
لكن البعيد عن العين بعيد عن القلب.
لقد أسقطت من على الجدران صور من أحبهم فى حياته مثل «هيثم» و«هالة فؤاد» و«نجلاء فتحى» و«سعاد حسنى».
هل شعر «أحمد زكى» فى هذه اللحظة بخنجر يخترق ضلوعه؟
وبدت ألبومات الصور التى التقطت فى كواليس أفلامه ووسط أصحابه ومع مبارك وزوجته بمناسبة تكريمه بعد فيلم «السادات» وكأنها أشياء قديمة لا قيمة لها.
لم يتصور الذين كنسوها أن كل صورة منها وراءها حكاية، وكل حكاية بها كثير من الحزن وقليل من الفرح.
إنها ليست مجرد برواز معلق فى مسمار مدقوق على الحائط.
ما كل هذا الاستهتار بالمشاعر؟
إنه وجع أشد من وجع السرطان.
وتصور لتذكارات مصنوعة من المعاناة وكأنها «بذور بطيخ».
وتجريد مما تجاوز به مشاعر اليتم ليعود يتيمًا مرة أخرى.
تجدد اليتم بعد أن فقد الأوسمة والنياشين التى نالها، مثل وسام «العلوم والفنون» من الطبقة الأولى عام ٢٠٠١، ومثل شهادة تكريم مهرجان قرطاج فى العام التالى، وقبلها جائزة أحسن ممثل عن فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة» من جمعية الفيلم عام ١٩٩٩ بمناسبة اليوبيل الفضى لجمعية الفيلم.
تجدد اليتم عندما تكومت مكتبته فى صناديق الصابون بعد أن جمعها كتابًا كتابًا، وكان من بينها كتبى التى لم أهدها له وإنما اشتراها بماله، مثل «النكتة السياسية- كيف يسخر المصريون من حكامهم؟» ومنها «بنات العجمى- الحب على شاطئ سياسى».
وكانت هناك كتب سياسية ونفسية وروائية وتاريخية أخرى. وتشهد الوثائق على أنه كان يدفع الضرائب بانتظام، وإن لم يستطع السداد من أول مرة استأذن فى التقسيط، وكان ملفه الضريبى، كما ذكرت «هالة الشربينى»، ٧٦٠ـ١٤ـ٦٠٤٤، أما رقم بطاقته الشخصية فكان «٩٩١٣».
وما يلفت النظر أن الثروة تتجاوز العقارات والسيارات إلى أشياء صغيرة كان يحبها، منها صندوق وضع فيه عملات فضية تذكارية، ومنها مغرفة من الفضة بدا أن لها مناسبة عاطفية.
لكن الأهم هو نيجاتيف الأفلام التى أنتجها.
إنها بقرة ثمينة تدر مالًا مع كل مرة تعرض فيها، من استولى عليها؟
والحقيقة أن التحقيق التليفزيونى الذى قدمه «وائل الإبراشى» كان ضربة مهنية متميزة أثارت اهتمام وزير الثقافة وقتها «إيناس عبدالدايم» فأعلنت أنها شكلت لجنة لجمع مقتنيات «أحمد زكى» تمهيدًا لوضعها فى مكان يليق بها.
لكن يبدو أن اهتمامها لفت نظر مشترى الشقة إلى أهمية المقتنيات التى لم يحسبها بهذه القيمة، فقرر أن يتحفظ عليها ويساوم من يريدها، كما سمعت من الوزيرة فيما بعد.
لم يشترِ الشقة بمحتوياتها كما تحدث والد «رامى عزالدين» على الهواء مع «وائل الإبراشى» فى حضور «رغدة» ووعد بإحضارها للتصرف فيها باحترام يليق بصاحبها.
بل وعد بأن يحضر مقتنيات «أحمد زكى» التى لم تمس فى شقة سكنه فى ٦ شارع «الجزائر»- «المهندسين».
ولكن بقى الحال على ما هو عليه.
وأغلب الظن أننا سنجد مقتنيات «أحمد زكى» قد بيعت لثرى عربى أو سنجدها عند باعة «الروبابيكيا»، لكن فى النهاية لن نراها فى مكان يليق بها.
وفى هذه الحالة سيصدق قول «رغدة»:
«إن روحه ستلعننا ألف مرة».
«لقد انتهكنا شرفه الشخصى وشرفه المهنى».