الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أنا ذئب.. «CIA» تعترف بـ«الفشل الكبير»: السادات خدعنا فى حرب أكتوبر

السادات
السادات

- مؤرخ: السادات قام بعمل رائع فى تضليل الإسرائيليين والاستخبارات الأمريكية

- الرئيس المصرى الراحل استخدم أشرف مروان لإيهام الموساد بأنه «لا حرب»

- هنرى كيسنجر وصف 6 أكتوبر بأنها «تتويج لفشل أداء المخابرات الأمريكية»

لم تتوقف المخابرات الأمريكية والإسرائيلية فى أى وقت طيلة الـ51 عامًا الماضية منذ انتصار مصر فى حرب أكتوبر 1973، عن البحث عن إجابات أو أسباب للفشل الذريع الذى يصل إلى حد الإذلال الذى لحق بأقوى أجهزة استخبارات فى العالم، كما يروجون.

وتُصدر الولايات المتحدة وإسرائيل بشكل متواصل تحليلات ودراسات وكتب، وترفع السرية عن آلاف من الوثائق فى محاولة منهما لمعرفة سر نجاح الرئيس الراحل محمد أنور السادات فى خداع جواسيسهم وعملائهم ووكالاتهم.

ولعل كتاب «الرئيس نيكسون ودور الاستخبارات فى حرب 1973 بين العرب وإسرائيل»، أو « President Nixon and the Role of Intelligence in the 1973 Arab-Israeli War»، الصادر عام 2013، أبرز تلك المحاولات التى أجرتها الـ«سى آى إيه» لفهم ما حدث فى حرب السادس من أكتوبر. 

الكتاب أنتجته شعبة المجموعات التاريخية «HCD» التابع لخدمات إدارة المعلومات التابعة لوكالة المخابرات المركزية، وهو المسئول عن تنفيذ برنامج المراجعة التاريخية للوكالة، ويسعى إلى تحديد وإزالة السرية عن مجموعات الوثائق التى تستخدم فى تحليلات الوكالة وفحص أنشطتها المتعلقة بمواضيع وأحداث ذات أهمية تاريخية.

والإدارة مسئولة أيضًا عن توسيع نطاق الوصول إلى الدروس المستفادة، وتقديم المواد التاريخية التى تعطى فهمًا أكبر لنطاق وسياق إجراءات الوكالة السابقة، حيث يجرى مؤرخو المخابرات الأمريكية فى شعبة المجموعات التاريخية أبحاثا حول جميع جوانب أنشطة الوكالة، كما يعملون مع مؤرخى مجتمع الاستخبارات الآخرين لإنتاج كتب وأفلام وثائقية وتحليلات ودراسات دقيقة.

وتعاون فى إنتاج الكتاب عدد من المتخصصين فى التاريخ الاستخباراتى والتابعين لوكالة المخابرات الأمريكية المركزية، وهو يتكون من 3 أجزاء من تأليف 3 مؤرخين رئيسيين، هم ماثيو بينى وهارولد فورد وبيتر نايرن، وهو يؤكد بوضوح أن حرب أكتوبر بالنسبة للمؤرخين المتخصصين فى الحروب والعملاء الأمريكيين مرادفة تقريبًا لكلمة «فشل الاستخبارات».

ويمثل الكتاب اعترافًا من الأمريكيين والإسرائيليين والاستخبارات الغربية أيضًا بأنهم فشلوا جميعا فشلًا ذريعًا، بعدما ضللهم الرئيس السادات فى أكبر عملية خداع استراتيجية لمجتمع الاستخبارات العالمى.

ويحلل الكتاب أسباب فشل مجتمع الاستخبارات الأمريكى فى التنبؤ بحرب أكتوبر، ويكشف كيف تحالف العرب بقيادة مصر وشنوا هجومًا مفاجئًا على إسرائيل، بعدما اطمأنت وكالة المخابرات المركزية إلى أن العرب لن يشنوا حربًا، لكن فاجأ الهجوم صناع السياسات الأمريكيين وكذلك الإسرائيليين، بشكل يعكس حالة العجرفة والفشل التى عاشتها أجهزة الاستخبارات الغربية.

كما يظهر كيف أن أيًا من عملاء الاستخبارات الأمريكية لم يستكشف إمكانية شن حرب وحتى احتمالية خسارتها إن وقعت، وكانت تقديرات الـ«CIA» ومجتمع الاستخبارات الغربى بشكل عام معطلة بسبب الأفكار المسبقة والمضللة حول القدرات العسكرية العربية، وغيرها من الأسباب.

وبمناسبة ذكرى نصر أكتوبر، تستعرض «حرف» فى السطور التالية، ملامح من الجزءين الأول والثانى من هذا الكتاب الخطير.

تخدير الأعداء

يكشف الجزء الأول من الكتاب الذى يحمل عنوان «الاستخبارات وحرب أكتوبر ١٩٧٣ بين العرب وإسرائيل» «Intelligence and the ١٩٧٣ Arab-Israeli War»، وكتبه ماثيو بينى المؤرخ والمحلل الاستخباراتى فى «CIA»، كيف أن محللى وعملاء الوكالة لم يدرسوا بشكل صحيح الحالة والإمكانات العسكرية للجيشين المصرى والسورى.

كما يكشف أن المحللين لم يفحصوا الأدلة التى تشير إلى أن الحرب قد تندلع فى أى لحظة، ويبين أن وثائق الأرشيف تظهر أن مجتمع الاستخبارات تلقى تقارير حول التحركات والمناورات المصرية والسورية وناقشها وكتب عنها، ولكنه اعتقد أنها ربما لا تكون أكثر من مجرد استعراض.

وبحسب الكتاب، اقتنع المحللون بفكرة مفادها أن الرئيس محمد أنور السادات لن يبادر إلى إشعال صراع كان يعلم أنه سيخسره عسكريًا، وخلص مجتمع الاستخبارات الأمريكية آنذاك بأنه لن يحدث أى هجوم.

وقال ماثيو بينى إن مجتمع الاستخبارات الأمريكى عكف سنوات طويلة على التحقيق حول فشله، وحاول الكثير من الدراسات والتحليلات المتعمقة فحص أحداث السنوات التى سبقت الحرب والتسلسل الزمنى للحرب نفسها، وكان «الافتقار إلى التحذير» إحدى الملاحظات الرئيسية فى تلك التقارير، وهى الملاحظة التى لا تزال مستمرة وتؤخذ على التحليلات التى تجرى فى الوقت الحاضر.

ونقل ماثيو بينى عن إدوارد شيهان، مؤلف أحد الكتب التى حاولت معرفة أسباب الفشل الاستخباراتى الأمريكى، تحت عنوان «العرب والإسرائيليون وكيسنجر» «The Arabs. Israelis. and Kissinger» الذى صدر عام ١٩٧٦، قوله إن «حرب أكتوبر كانت بمثابة مفاجأة لوزير الخارجية الأمريكى آنذاك هنرى كيسنجر والذى كان أيضًا مستشار الأمن القومى، ولإسرائيل أيضًا، رغم أنه ما كان ينبغى لها أن تكون كذلك، وأن وزير الخارجية مثله مدير وكالة الاستخبارات المركزية وقادة إسرائيل، قد أساء تفسير الأحداث».

ووفقًا لماثيو بينى، فإنه مع مرور الوقت أظهرت المواد التى كانت فى السابق سرية هذا الفشل الاستخباراتى الثقيل، وحتى مع توفر بعض الروايات حول القرارات الجيدة فى الحرب، ظلت تلك القرارات محل خلاف، ومنذ ذلك الحين ظلت أحداث الحرب موضوعًا للمراجعة وإعادة التفسير، ولم يتم الكشف عن جميع وثائق الحكومة الأمريكية، على الرغم من أنها قد تساعد على فهم ما حدث إلى حد ما، ولا يزال معظم الوثائق الإسرائيلية أيضًا غير متاحة للباحثين والمحللين.

واستشهد ماثيو بينى بتقرير أحد الخبراء الغربيين فى عام ٢٠٠١، حيث قال: «ما زال من المبكر للغاية فهم ما حدث»، مضيفًا: «رغم وصولنا إلى الألفية الثانية، إلا أن بعض المحللين الاستخباراتيين يرون أن الوقت مبكر لمعرفة لماذا فشلت أمريكا وإسرائيل والغرب فى تحديد وتقييم ما إذا كانت مصر وسوريا ستقومان بشن هجوم فى السادس من أكتوبر ١٩٧٣».

وقال «بينى»: «لأن قدرًا كبيرًا من الدراسات والعديد من الوثائق التى تم رفع السرية عنها حديثًا تشهد على فشل الاستخبارات، فإن هذا الجزء يركز على تلك النقطة، وكما يعلم المؤرخون فإن فشل الاستخبارات يمكن أن يتخذ أشكالًا مختلفة».

وأضاف: «الاستنتاج الصادر من مجتمع الاستخبارات الأمريكى فى السادس من أكتوبر كان فشلًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومنذ ذلك الحين، جرت محاولات عديدة لفهم السبب وراء تلك الاستنتاجات، سواء الأمريكية أو الإسرائيلية الخاطئة وكيف توصلا إليها».

وقال إن أحد الأسباب فى ذلك الفشل هو الاعتماد المفرط على إسرائيل، حيث لم تتوقع الـ«سى أى إيه» أن الاستخبارات الإسرائيلية لن تكون على علم بأى هجمات كبرى مخطط لها ضد أراضيها، بل وأيضًا وتتوسل للحصول على مساعدة الولايات المتحدة لمواجهة مصر، مضيفًا أنه كان من الصعب على المحللين الأمريكيين أن يخالفوا تحليلات إسرائيل بشأن أمنها.

وتابع أن أحد أكثر أسباب الفشل أيضًا هو غياب المعارضة للمسلمات التى تم إقرارها لدى إسرائيل، ومن بينها أن حرب ١٩٦٧ أثبتت تفوق إسرائيل العسكرى وضعف العرب العسكرى إلى الحد الذى يجعل العرب يتجنبون الحرب بأى ثمن، وفكرة أخرى أن العرب غير مؤهلين تكتيكيًا واستراتيجيًا للحرب الحديثة ولن يتمكنوا من خداع المحللين بشكل جيد بما يكفى لشن هجوم مفاجئ.

ومن أهم الأسباب التى ذكرها ماثيو بينى، أن الخطاب العدوانى الذى تبناه الرئيس محمد أنور السادات قبل الحرب كان تكتيكًا تفاوضيًا لإجبار إسرائيل على التوصل إلى حل دائم، قائلًا: «لقد «صاح السادات: هناك ذئب» فى العديد من المواقف خلال العامين السابقين للحرب، مهددًا بعبور القناة إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل، وكان تفسير المخابرات الأمريكية حينها لتلك التهديدات بأنها مجرد خدعة.

وقال «ماثيو» إن ما فعله «السادات» يشبه قصة الصبى الذى كان يسخر من أهل قريته الذين يبحثون عن الذئب الذى يأكل ماشيتهم، فكذب عليهم وأوهمهم أنه رأى ذلك الذئب مرتين، وحين كان أهل القرية يركضون إليه كانوا يتفاجأون بأنه لا يوجد أى ذئب فى المكان، لكن فى المرة الثالثة حين جاء الذئب بالفعل صرخ الصبى عليهم فلم يصدقه أحد، وأكل الذئب الماشية بالفعل.

بطولة أشرف مروان

وربما وبدون قصد من المؤرخ ماثيو بينى، أشار إلى أن الخداع كان أداة من أدوات «السادات» وقتها لتضليل الإسرائيليين، حيث استخدم أشرف مروان، الذى صاح فى الإسرائيليين قائلًا: هناك ذئب، وفعل ذلك مرتين على الأقل، الأولى فى نوفمبر ١٩٧٢ ثم الثانية فى أبريل ١٩٧٣، وحينها لم يحدث أى هجوم، وخسرت إسرائيل تكاليف الاستنفار العسكرى، لذلك عندما صاح «مروان» فى المرة الثالثة: هناك ذئب، لم يصدقه الإسرائيليون.

هذه السردية يؤكدها المؤرخ الإسرائيلى أهارون بيرجمان فى كتابه «الجاسوس الذى سقط على الأرض»، حيث وصف «مروان» نصًا بأنه «اليد اليمنى» للرئيس محمد أنور السادات والذى أطلقه لخداع الإسرائيليين وأجهزة مخابراتهم.

وأشار أيضًا إلى أن الولايات المتحدة كانت تتوقع أن الدبلوماسية والجمود العسكرى من شأنهما أن يمنعا اندلاع حرب أخرى، وبعد سلسلة من المفاوضات التى نجحت على ما يبدو فى تفادى هجوم مصرى فى مايو ١٩٧٣، توقعت الولايات المتحدة أن الأطراف المتحاربة ستستسلم، وكان المحللون الاستخباراتيون الأمريكيون والإسرائيليون والغربيون، يميلون إلى الاستنتاج بأنه لا «السادات» ولا حافظ الأسد سيبادران إلى شن حرب كان يتوقعان خسارتها.

وقال ماثيو إن نموذج «الفاعل العقلانى» الذى تبناه محللو المخابرات الأمريكية قد يفشل لأن ما يبدو عقلانيًا للمحلل- أو عقلانيًا عمومًا فى ثقافة ذلك المحلل- قد لا يكون عقلانيًا بالنسبة للفاعل المعنى، فبالنسبة لـ«السادات والأسد» على سبيل المثال، ربما كان من غير العقلانى مهاجمة إسرائيل على أساس عسكرى بحت، ولكن ربما كان من العقلانى أن يفعلا ذلك لاستعادة هيبة العرب أو إجبار بلدان أخرى على التدخل والضغط من أجل التوصل إلى تسوية أكثر ملاءمة للجانب العربى.

وأرجع جزءًا من فشل الاستخبارات الأمريكية إلى تغييرات تنظيمية كبرى حدثت قبل الحرب مباشرة، حيث كان مدير المخابرات المركزية الجديد، ويليام كولبى، قد بادر إلى إعادة تنظيم كبرى فى الوكالة، والتى كانت لا تزال فى حالة من الفوضى فى أوائل أكتوبر عام ١٩٧٣، وفى الوقت نفسه، غادر العديد من المحللين والمديرين الأكثر دراية بالشرق الأوسط فى وكالة الاستخبارات المركزية إلى وكالات أخرى وتم استبدالهم بأشخاص جدد لا يعرفون الملف جيدًا.

وكشف عن أن المحللين فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية اعتقدوا أنه لن يكون هناك هجوم قادم، مشيرًا إلى أنه فى الرابع من أكتوبر ١٩٧٣، قالت مذكرة استخباراتية «ما زلنا نعتقد أن اندلاع أعمال عدائية كبرى بين العرب وإسرائيل لا يزال غير مرجح فى المستقبل القريب»، موضحًا أن الفقرة الأكثر إحراجًا بشكل خاص فى هذه المذكرة، تقول «لا يبدو أن أيًا من الجانبين عازم على بدء الأعمال العدائية».

وقالت نفس المذكرة: «بالنسبة لمصر، فإن المبادرة العسكرية لا معنى لها فى هذه المرحلة الحرجة، وبالنسبة للرئيس السورى، فإن المغامرة العسكرية الآن ستكون انتحارية».

وأكد أنه لا تحسم أى من الوثائق والمذكرات والتحليلات التى تم رفع السرية عنها ماذا حدث داخل وكالة المخابرات الأمريكية ومجتمع الاستخبارات قبل حرب أكتوبر ١٩٧٣، بالإضافة إلى أنه لم يتم رفع السرية عن العديد من الوثائق بسبب الحساسيات المستمرة، وفى نفس الوقت لا تكشف المواد الواردة فى الوثائق التى رفع عنها السرية عن المصادر الأجنبية التى حصلت منها الوكالة وغيرها من كيانات مجتمع الاستخبارات على معلوماتها. 

وبين أنه حتى خلال الحرب وبعدها، لم تكشف الوثائق الاستخباراتية التى تم رفع السرية عنها، كل أسرار لقاءات وزير الخارجية هنرى كيسنجر مع رؤساء الدول الأجنبية أثناء سعيه إلى تهدئة الأزمة، كما أنها لا تحسم مسألة ما إذا كانت إسرائيل قد نشطت ترسانتها النووية أم تظاهرت بذلك.

وكشف عن أن هناك وثيقة واحدة تعود إلى التاسع عشر من أكتوبر ١٩٧٣، والتى تعتبر جزءًا مهمًا من وثائق الحرب، وتنص على أن «حرب السادس من أكتوبر عززت إلى حد كبير الموقف السياسى للرئيس السادات فى مصر والعالم العربى عمومًا، وأن السادات كان يتمتع باحترام وشعبية غير مسبوقة، وكانت هذه المكانة التى اكتسبها هى التى أدت فى النهاية إلى التوصل إلى اتفاقية سلام».

وقال: «التحليلات الاستخباراتية الأمريكية بشكل عام، تثبت أنه لطالما كان الشرق الأوسط لغزًا بالنسبة لصناع السياسات الأمريكيين، ومنذ البداية تقريبًا، حذرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية من العواقب التى قد تترتب على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل فى الشرق الأوسط».

وأشار إلى مقال تحليلى أصدرته الـ«سى آى إيه» فى ٢٨ نوفمبر ١٩٤٧، أى بعد عدة أسابيع فقط من إنشائها، وجاء فيه: «فى حال فرض التقسيم على فلسطين، فإن الصراع الناتج عن ذلك سيزعزع الاستقرار الاجتماعى والاقتصادى والسياسى فى العالم العربى بشكل خطير، وستتعرض المصالح التجارية والاستراتيجية الأمريكية للخطر بشكل كبير».

وقال إنه بالنسبة لوكالة المخابرات المركزية، فقد كانت حرب أكتوبر ١٩٧٣ واحدة من سلسلة من الأحداث التى كلفت الوكالة كثيرًا من سمعتها فى واشنطن وجعلتها تعانى فترة مضطربة وتم الكشف عن مخالفات الوكالة، الأمر الذى أدى إلى توقف العديد من برامجها فى الخارج لعدة سنوات.

واختتم المؤرخ «ماثيو بينى» الجزء الأول من الكتاب، قائلًا: «ربما تكون إحدى أكثر المذكرات التى حاولت من خلالها وكالة المخابرات الأمريكية المركزية رفع الخزى عنها بسبب فشلها فى التنبؤ حرب أكتوبر، ما أصدرته فى ديسمبر ١٩٧٣».

وقالت المذكرة: «ما حدث يظل لغزًا، وهذه الحقيقة لا بد أن يكون لها مكان فى أى مراجعة لأحداث حرب أكتوبر، وأى مراجعة تتعلق بدور الاستخبارات الأمريكية».

الوهم الكبير

أما الجزء الثانى من الكتاب فحمل عنوان «وليام كولبى مديرًا للمخابرات المركزية الأمريكية من ١٩٧٣ إلى ١٩٧٦»، وكتبه المؤرخ المتخصص فى شئون الاستخبارات «هارولد فورد»، والذى أكد أيضًا نفس الفكرة التى طرحها «ماثيو بينى» فى الجزء الأول، حول الفشل الاستخباراتى فى الأسابيع التى سبقت اندلاع حرب أكتوبر.

وأوضح «فورد» أن «البحث الدقيق فى المواد الصادرة عن وكالة المخابرات الأمريكية قبل ٦ أكتوبر ١٩٧٣، فشلت فى العثور على أى بيان رسمى من أى مكتب أو ضابط مخابرات يشير إلى إمكانية اندلاع الحرب»، مضيفًا: «الاستنتاجات الرئيسية التى توصل إليها وكررها المسئولون عن تحليل الاستخبارات كانت خاطئة، وبشكل صارخ».

وشدد على أن «فترة ولاية وليام كولبى كمدير للاستخبارات المركزية الأمريكية بدأت بفشل استخباراتى رهيب، فبعد أقل من شهر على توليه المنصب، شُن الهجوم المصرى السورى فجأة، ولم ينبه كولبى وجهاز استخباراته صناع القرار بأن حربًا متجددة على وشك الاندلاع»، مشيرًا إلى أن «سوء تحليل وكالة المخابرات الأمريكية بشأن اندلاع حرب السادس من أكتوبر أدى إلى تفاقم استياء البيت الأبيض من الوكالة، ومجتمع الاستخبارات بشكل عام، ولم يمنح كولبى بداية طيبة كمدير CIA». 

وأضاف المؤرخ الأمريكى: «بلا شك فاجأت حرب أكتوبر مجتمع الاستخبارات وصانعى السياسات فى الولايات المتحدة»، مشيرًا إلى ما كتبه الرئيس الأمريكى الأسبق (ريتشارد نيكسون) فى مذكراته، التى قال فيها: «وكالة الاستخبارات المركزية كانت قد أفادت فى اليوم السابق بأن الحرب فى الشرق الأوسط غير مرجحة، وفسرت التحركات الضخمة وغير العادية للقوات المصرية باعتبارها مناورات سنوية».

وواصل: «نيكسون أكد أيضًا أنه لا يتذكر أى شخص فى أى مكان فى مجتمع الاستخبارات، كان قد شعر بأن الحرب ستحدث قريبًا، وكان من الواضح أن المخابرات فشلت بشكل ملحوظ»، لافتًا إلى اتفاق هنرى كيسنجر مع ما قاله «نيكسون»، من خلال تصريحات وصفت السادس من أكتوبر بأنها «تتويج لفشل أداء المخابرات الأمريكية»، مع تأكيده أن «سوء التقدير لم يقتصر على وكالتى الاستخبارات المركزية والدفاعية، بل إن الفشل شمل كل صانع سياسات فى الولايات المتحدة، وسط أداء استخباراتى ضعيف».

وأكمل «فورد»: «فى غياب أى آراء معارضة، اتفقت وكالات الاستخبارات الأمريكية على أن حملة السادات المتمثلة فى تهديداته المتزايدة كانت نفسية فقط، مع وجود يقين أمريكى بأن القدرات العسكرية المصرية محدودة للغاية، وإن مشاركة قوات عربية أخرى، مثل القوات السورية، لن تكون ذات أهمية تذكر من الناحية العسكرية»، معتبرًا أن «هذا كان خطأ كبيرًا وفشلًا واضحًا لتقدير الاستخبارات الأمريكية».

ونبه إلى أن التقييمات التى أعدها «كولبى» ومجتمع الاستخبارات الأمريكى، كانت قائمة على فكرة «عدم شن هجوم من قبل مصر وسوريا»، مع عدم طلب تقديم أى تقديرات أو تقييمات استخباراتية وطنية خاصة، فى الفترة بين تقدير الاستخبارات فى مايو حتى نهاية سبتمبر ١٩٧٣، وهو ما يعكس وجهة النظر المستريحة إلى حد ما إلى «عدم اندلاع حرب».

وكشف «فورد» عن تحليل لوكالة المخابرات الأمريكية، صدر فى صباح يوم حرب أكتوبر، جاء فيه «أن التوجه الكامل لأنشطة الرئيس السادات، منذ الربيع الماضى، كانت فى اتجاه استخدام القوة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية للضغط على إسرائيل، فى اعتراف ضمنى بعدم استعداد العرب لشن الحرب».

وخلصت «CIA»، فى تحليلها سالف الذكر، إلى أنه «على الرغم من إجراء تدريبات عسكرية كبيرة فى مصر، فإن المصريين لا يبدو أنهم يستعدون لهجوم عسكرى ضد إسرائيل»، معتبرة أن «أى جولة أخرى من الأعمال العدائية من شأنها أن تدمر جهود السادات المضنية لتنشيط الاقتصاد، وتتعارض مع جهوده الرامية إلى بناء جبهة سياسية عربية موحدة، خاصة بين الدول النفطية. كما أنه بالنسبة للرئيس السورى، فإن المغامرة العسكرية الآن ستكون بمثابة انتحار».

وفى وقت لاحق من يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣، وحتى بعد وصول أنباء عن اندلاع الحرب إلى وكالة المخابرات المركزية، لم تتمكن لجنة المراقبة التابعة لها من العثور على أدلة دامغة بشأن وجود هجوم مصرى سورى كبير ومنسق، فى كل من قناة السويس ومرتفعات الجولان، بل ذكرت أنه «من المحتمل أن يكون المصريون أو السوريون، خاصة السوريون، نفذوا غارة أو أى عمل آخر صغير النطاق».

ومن المؤشرات الدالة على أن الاستخبارات الأمريكية لم تنبه صناع السياسات إلى اندلاع الحرب الوشيكة، وفق «فورد»، أن هنرى كيسنجر كان فى مقر الأمم المتحدة بنيويورك، والرئيس «نيكسون» فى جزيرة كى بيسكاين، عندما وقع الهجوم المصرى السورى، يوم السبت ٦ أكتوبر ١٩٧٣.

وأضاف «فورد»: «فى المجمل، كان هذا الفشل فى التحذير بمثابة بداية غير موفقة لمدير المخابرات المركزية، وليام كولبى، وعلى الجانب الآخر، تمكن العقل المدبر لحرب أكتوبر، وهو الرئيس السادات، من القيام بعمل رائع فى تضليل الإسرائيليين والاستخبارات الأمريكية».

نيكسون

وواصل: «سمعة كولبى والمخابرات الأمريكية تضررت أكثر، بسبب حقيقة مفادها أنه بحلول أكتوبر ١٩٧٣، كانت الأزمة السياسية الشخصية للرئيس نيكسون قد وصلت إلى مرحلة متقدمة، وتضاءلت قدرة الحكومة على الوصول إلى البيت الأبيض، وكان اهتمام نيكسون مشتتًا إلى الحد الذى جعله لا يشارك بشكل مباشر فى القرارات المتخذة بشأن التوترات بين مصر وإسرائيل».

وأكمل: «بالإضافة إلى ذلك، كانت أجهزة الاستخبارات وصناع القرار فى الولايات المتحدة آنذاك، يركزون على العديد من القضايا الأخرى غير التوترات الإسرائيلية العربية، مثل حرب فيتنام المستمرة، ومفاوضات السلام فى باريس، والتقارب مع جمهورية الصين الشعبية».

وتابع «فورد»: «السبب الأكثر أهمية لفشل المخابرات، كان سوء تقدير ضباط ومسئولى CIA للنوايا العربية، فقد مالوا إلى التقليل من شأن القدرات العربية، وافتراض أن أنماط السلوك العسكرى العربى السابقة ستستمر»، مشددًا على أن «بعض هؤلاء المحللين ارتكبوا خطأً كبيرًا فى تقديرهم أن شن السادات للهجوم لن يكون لتحقيق نصر عسكرى، بل لتعزيز القضية العربية سياسيًا، وهو ما اعترف به كولبى نفسه، فى عام ١٩٧٥».

ووفقًا لـ«فورد»، أقر «كولبى»، أيضًا فى عام ١٩٧٥، بأن حرب السادس من أكتوبر أظهرت المخاطر الكامنة بشأن ميل معظم أجهزة الاستخبارات لتحويل الحقائق إلى تصورات مسبقة قائمة، وجعلها متسقة مع ما هو متوقع.

وأشار إلى أن لجنة التحقيق التابعة لمجلس النواب أكدت أن جزءًا من «مشكلة أكتوبر» تمثل فى التحيز التحليلى الذى بدا واضحًا فى دليل وكالة المخابرات المركزية لعام ١٩٧١، والذى جاء فيه: «الرجل العربى المقاتل يفتقر إلى الصفات البدنية والثقافية اللازمة لأداء الخدمات العسكرية الفعّالة».

وذكر روبرت موريس، وهو موظف سابق فى مجلس الأمن القومى، أسبابًا مماثلة لفشل توقع الهجوم المصرى السورى على إسرائيل، من بينها قوله: «كان أسوأ عيب مشترك فى قراءة المعلومات الاستخباراتية هو الازدراء الثقافى، وربما العنصرى، للمواقف السياسية ومهارات القتال لدى العرب».

وعلى الرغم من الدعم الذى قدمته «CIA» لإدارة الأزمة، بعد اندلاع حرب ١٩٧٣، أدى فشلهما فى التنبؤ باندلاع الحرب إلى ترسيخ قناعة «نيكسون» و«كيسنجر» بأن الاستخبارات الأمريكية كانت مقصرة فى كثير من النواحى، وهو ما ألحق المزيد من الضرر بسمعة وليام كولبى كمدير للمخابرات الأمريكية.

ولذلك، ظل دور «كولبى» بعد ذلك يتمثل فى كونه «إخصائيًا كبيرًا فى هيئة الموظفين»، يحصل البيت الأبيض منه على بيانات الاستخبارات فقط، وليس تفسيرات أوسع نطاقًا أو توصيات سياسية، وفق «فورد»، الذى أضاف: «فى معظم القضايا، كان على كولبى أن يتعامل مع نائب كيسنجر، برنت سكوكروفت، وموظفى مجلس الأمن القومى، وكان محرومًا من أى وصول مستمر ذى معنى إلى القادة السياسيين الرئيسيين».