الأربعاء 04 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

توحش الكاميرات.. الحقائق الغائبة من صور أسود قصر النيل إلى فيديو الهرم الأكبر

حرف

- لقد تحولت كاميرات الهواتف المحمولة فى أيدى الناس إلى أدوات هدم  وتشويه وشوشرة وشائعات

بعد أيام من أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١ قرأت على أحد الحسابات بالفيسبوك ما كتبه أحدهم من أنه كان يمر بالقرب من أحد معسكرات الأمن المركزى فى منطقة الدراسة، ووجد حركة غريبة وتحركات مريبة، وتواجدًا كثيفًا فى محيط المعسكر وتواجد عدد كبير من الجنود الغاضبين، الذين قرروا التمرد، وختم من كتب منشوره بقوله: استر يا رب.. يا رب استر. 

عرضت المنشور على زميلى المسئول عن تغطية أخبار وزارة الداخلية، فوجدته يقول لى: سأنشر خبرًا حالًا على الموقع بهذه المعلومات. 

استوقفته وأنا أقول له مندهشًا من سرعة استجابته: هتنشر خبر عن إيه؟.. فين الخبر أصلًا؟ 

ودون أن يسمعنى، قال لى: سيكون العنوان «تمرد فى معسكر الأمن المركزى بالدراسة». 

قلت له بهدوء: طبقًا للقواعد.. فنحن فعليًا ليس لدينا أى خبر من الأساس. 

كنت وما زلت أتعامل مع معظم المعلومات التى تنشر على شبكات التواصل الاجتماعى على أنها «معلومات لقيطة» لا أب لها.. ولا أم.. ولا حتى إخوة. 

وكنت وما زلت لا أعترف بما يتم الترويج له على أنه صحافة المواطن. 

فهذه أكذوبة كبرى من الأكاذيب التى أصبحت تسيطر على المجال العام والمجال الخاص فى عالم الإعلام. 

فالأمر ببساطة أن مواطنًا ما، يرى حدثًا أمامه، فيكتب ما رآه على صفحته، وعندما تطورت الهواتف المحمولة وأصبح كل مواطن يحمل فى يده كاميرا يلتقط بها صورًا لما يراه، أصبح يرفع هذه الصور على صفحته، متعاملًا مع نفسه على أن أصبح صحفيًا ينقل الأخبار، ويسبق بها وسائل الإعلام التى تَوافق المجتمع على أن يطلق عليها «وسائل الإعلام التقليدية». 

يظل المواطن مواطنًا.. ويظل الصحفى صحفيًا. 

وإذا سألتنى: وماذا تسمى ما يقوم به المواطنون؟ وكيف تتعامل مع المعلومات التى ينشرونها، والصور التى يرفعونها على صفحاتهم بشبكات التواصل الاجتماعى؟ 

سأقول لك ببساطة: إنهم يجيبون بما يفعلونه عن سؤال واحد فقط من أسئلة المنظومة الخبرية، وهو سؤال: ماذا حدث؟ ويتوقف الأمر بالنسبة لهم عند هذا الحد، ليبدأ عمل الصحفى الذى يتولى البحث عن إجابات لبقية أسئلة المنظومة الخبرية، فحتى يكتمل الخبر فلا بد أن نعرف أين.. ومتى.. وكيف.. ولماذا؟ 

وجهت الزميل الصحفى للبحث ولتدقيق المعلومة التى قرأناها سويًا عن معسكر الأمن المركزى بالدراسة، وبعد حوالى ساعتين كان قد ذهب إلى المكان الذى أشار له المواطن، وأجرى مجموعة اتصالات مع مصادره فى وزارة الداخلية، وكانت النتيجة أنه لم يجد شيئًا غريبًا ولا مريبًا، فلم تكن هناك تحركات ولا غضب ولا قرار بالتمرد. 

علّق الزميل الذى قام بعمله الطبيعى جدًا على ما رأى بقوله: دول بيشتغلونا يا ريس. 

شكلت هذه الواقعة التى كانت خبرة عملية فى التعامل مع معلومات شبكة التواصل الاجتماعى- بجانب الخبرة النظرية فيما يتعلق بمنظومة الأخبار فى الصحافة- نموذجًا لمنهجى فى التعامل مع المعلومات، فالمواطن يمكن أن يمنحك طرف الخيط وعليك أنت من موقعيتك الصحفية أن تبحث وتدقق وتراجع ولا تنقل ما تراه أمامك أو تردده إلا بعد أن تعرف بنفسك من خلال أدواتك الصحفية. 

الأمر نفسه تكرر معى بعد سنوات. 

كنت أستعد للظهور على الشاشة فى إحدى حلقات برنامجى «آخر النهار»، على شاشة تليفزيون النهار، وقبل حوالى ساعة من الهواء وجدت صفحات الفيسبوك تشتعل بفيديو لشاب عشرينى يقف أمام إحدى دور الرعاية التابعة لوزارة التضامن، يصرخ ويهدد بأنه سينتحر لأن الدار طردته ولا تريد أن تعيده إلى مكانه مرة أخرى، وأنه لا يجد مكانًا يعيش فيه، وليس أمامه إلا أن يسكب على نفسه بنزينًا ويحرق نفسه أمام الدار حتى يشهد الجميع على ظلم وتوحش المسئولين عن الدار. 

لم يكن قد مر على رفع الفيديو على الفيسبوك إلا دقائق، لكننى وجدت الآلاف يعيدون نشره ويعلقون عليه متضامنين مع الشاب، ولاعنين المسئولين الذين نُزعت من قلوبهم الرحمة، فماذا فعل هذا الشاب المسكين حتى يكون هذا مصيره؟ 

على الفور تواصلت أنا وفريق البرنامج مع المسئولين بوزارة التضامن، وطلبت منهم ردًا وافيًا على هذه الواقعة، قلت لهم: أريد الملف الكامل لهذا الشاب، وتاريخ علاقته بالدار التى يصرخ من أمامها. 

بعد أقل من نصف ساعة جاءتنى الأوراق، وعرفت القصة الكاملة، وكانت مناقضة تمامًا لما رواه الشاب، فقد كان يمارس نوعًا من الابتزاز العلنى، فسيرته ومسيرته فى الدار كانت تقتضى ضرورة إبعاده عنها، فهو ليس ملتزمًا بالقواعد، وأتى من المخالفات والجرائم ما يجعل إبعاده أمرًا ضروريًا حتى لا يلحق الضرر بالآخرين، بل وهذا ما لم يلتفت له كثيرون، كان الشاب قد تجاوز السن القانونية التى تسمح له بالبقاء فى الدار. 

لم يكن الشاب مظلومًا من أى وجه من الوجوه، لكنه استعان بالكاميرا ليسجل جانبًا واحدًا من قصته، وأخفى بقية التفاصيل، وكانت النتيجة أن الناس تعاطفوا مع نصف أو ربع الحقيقة، لأن من تحدث استغل العزف على عاطفة الناس. 

كانوا يقولون إن الصورة بألف كلمة، وإن الفيديو يكشف الحقائق المخفية، فالواقعة أمامنا صوتًا وصورة، فلماذا لا يصدق الناس؟

لكن الحقيقة أن الكاميرا ليست أمينة ولا صادقة ولا تتعامل بشفافية، بل هى كاذبة ومضللة وتمارس نوعًا من التشويش والشوشرة على الحقائق تلك التى لا بد من جهد كبير حتى نصل إليها. 

استحضرت هذه الوقائع وأنا أتابع الفيديو الذى شاهده الملايين لمجموعة من العمال الذين وقفوا على الهرم الأكبر وفى أيديهم أدوات حدادة ويقومون ببعض الأعمال غير محددة الملامح ولا التفاصيل فى جسم الهرم الأكبر. 

الفيديو وحده لا يقول لنا شيئًا، نرى عمالًا يعبثون فى جسم الهرم. 

فسّرها من شاهدهم على أنه هدم للهرم الأكبر. 

وبدأت التعليقات تتوالى، والتفسيرات تتعاقب، وبدأ البعض يهيلون التراب على الدولة المصرية كلها وعلى ما تقوم به، بل ذهب البعض إلى أن هذا يتم لصالح أحد رجال الأعمال الذين يستثمرون فى منطقة الهرم. 

تحركت غدة نظرية المؤامرة لدى الجميع، ووصلت المبالغة فى تفسير الصورة المتحركة الصامتة التى شاهدها الناس دون أن يحيطوا بتفاصيلها إلى مندبة كبرى على الحال الذى وصلنا إليه. 

كان تحرك وزارة السياحة والآثار سريعًا، صدر عنها بيان وضع تفاصيل ما يجرى أمام الناس. 

فالفيديو الذى يسجل ظاهر الواقعة- فقد رأينا ما يجرى على السطح- يخفى أن هؤلاء العمال يقومون بإزالة مواد بناء حديثة «مونة»، وهى بطبيعة الحال ليست مادة أثرية. 

أما كيف وصلت مواد البناء الحديثة غير الأثرية إلى جسم الهرم الأكبر؟ 

فتجيب الوزارة بأنه تم وضعها قبل عقود مضت بهدف تغطية شبكة الكهرباء الخاصة بإنارة الهرم، وأن المجلس الأعلى للآثار يقوم بإزالة هذه المواد ضمن مشروع تحديث شبكة الإنارة بالهرم الأكبر دون المساس بجسم الهرم أو أى جزء من أحجاره الأصلية. 

هنا لا بد أن نقيس الفارق الكبير بين ما رسخه الفيديو الصامت لدى الجمهور من قناعات تم بناؤها على تفسيرات لا تستند إلى معلومات، والمعلومات التى قدمها بيان وزارة السياحة والآثار، وهى كافية لأن يقتنع الناس بأنه لا أساس لكل ما قالوه وروّجوه وتبنوه عما يحدث، وكافية لأن يعرف من أقاموا حلقات البكاء والنواح على الدولة التى لا تقدّر قيمة الآثار أنهم تم تضليلهم تمامًا. 

وحتى نكون منصفين، فإن التضليل الذى جرى يمكن اعتباره نوعًا من «التضليل الإرادى»، فمن قام بتصوير الفيديو لم يقدم للجمهور معلومة واحدة، وضع أمامهم فقط صورة صامتة متحركة، ولأن الجمهور عندنا يعانى من حالة كسل هائلة، فقد استسلم لما رآه، لم يفكر ولم يحاول أن يبحث عن حقيقة ما رأى، ولم ينتظر حتى أن يصدر بيان عن الجهة المسئولة حتى يفهم ما يراه رأى العين، لكن من قال إن العين وحدها كافية لأن تدرك الحقيقة. 

إننا نعيش عصر توحش كاميرات المحمول التى أصبحت فى يد الجميع، يعتقدون أنهم بمجرد امتلاكها وإجادة استخدامها أنهم أصبحوا صحفيين، وأنهم قادرون على نقل الأحداث حتى يعرف الناس ما يجرى حولهم، دون أن يعرفوا أنهم يتحولون بما يفعلون إلى أدوات تضليل وليس أدوات تنوير. 

لا يمكن أن نعزل هذه الواقعة عما جرى قبلها فى أيام فيما يخص أعمال صيانة أسود كوبرى قصر النيل.

عن نفسى، ومنذ بدأت حياتى الدراسية والعملية فى القاهرة قبل ما يقرب من ثلاثين عامًا، رأيت عمليات صيانة أسود كوبرى قصر النيل أكثر من عشرين مرة على الأقل، وعندما رأيت الصور التى نُشرت مشفوعة بأن ما يحدث عبث بهذه الأسود، تعجبت من رد الفعل، وسألت: أين ذهبت عقول الناس؟ ولماذا نتعامل مع الأحداث المعتادة المكررة التى رأيناها أكثر من مرة ونعرف تفاصيلها وكأنها تحدث لأول مرة، ونريد لها تفسيرًا؟ 

المؤسف أننا لا ننتظر التفسير، بل نسارع إلى الاتهام والقذف والسب فى حق من يقومون بما نراه أمامنا دون أن نمنح أنفسنا فرصة لأن نعرف حقيقة ما يحدث بعيدًا عن سطوة الصور الثابتة وتوحش الصور المتحركة. 

أعرف أننا نعيش ظرفًا استثنائيًا، وأن هناك من يسعون إلى التشكيك فى كل شىء من حولنا، بل وهناك من يتلكك حتى يهاجم الدولة، ويصور كل ما تفعله على أنه أمر سيئ ولا مصلحة فيه للدولة على الإطلاق، وهؤلاء نعرفهم ونعرف أدواتهم فى الترويج لمثل هذه الأحداث، لكننى أتوقف عند المواطنين الذين يؤمنون بمشروع الدولة، وهؤلاء يقعون أسرى بسهولة تحت أنياب هذه الحملات المسعورة المقصودة والمخطط لها بعناية. 

من يفعلون ذلك عن قصد نعرف دوافعهم. 

لكن من يفعلون ذلك عن غير قصد يجب أن ينتبهوا إلى أنه ليس كل ما يقال يمكن أن يكون حقيقيًا. 

لا يمكن لى ولا لك ولا لأحد أن ينكر فضل التكنولوجيا الحديثة، فلها فوائد لا تحصى، لكننا للأسف الشديد نأخذ من التكنولوجيا أسوأ ما فيها. 

لقد تحولت كاميرات الهواتف المحمولة فى أيدى الناس إلى أدوات هدم وتشويه وشوشرة وشائعات، وذلك لأننا نستخدمها بصورة سطحية، نكتقى بما توثقه من الظاهر والسطحى، ولا نمنح أنفسنا فرصة أن نعرف وندقق ونحقق، ونمنح الصحافة وقتًا وفرصة لتقوم بعملها. 

أعرف أبعاد ما يحدث على الأرض، فالتقاط الصور وتصوير الفيديوهات التى تستخدم فى إرباك المشهد فى مصر الآن سبقتها مرحلة مهمة، وهى التشكيك فى الإعلام بكل أشكاله، سواء الذى يعمل فى خانة الدولة أو حتى يقف على يسارها، وذلك لإفقاده أى مصداقية فيما يقوم به من عمل أو ما ينشره من معلومات. 

الحل- إذا كنا نريد حلًا- بسيط للغاية. 

فليس علينا أن نتعامل مع الفيديوهات المنشورة التى لا نعرف لها مصدرًا على أنها معلومات أو حقائق، هى بالكثير طرف خيط علينا أن نمسك به حتى نصل إلى نهايته. 

لن أقلل من غرائز الناس ورغباتهم فى المعرفة، وما يسكنهم من نزعات تطفّل حتى يفسروا ما يرونه أمامهم، ويدلون بآرائهم فيه، لكن على الأقل يمكن أن تكون هناك مرحلة سابقة للرأى والتفسير، وهى مرحلة السؤال. 

فأنت كمواطن- مثلًا- من حقك أن تعرف ما يدور فى الهرم. 

ما رأيته كان غائمًا لا يخبرك بشىء، فلن يحدث شىء إذا انتظرت من يفسر لك ما يحدث، ويقول لك الحقيقة. 

وبعد أن تقرأ أو تستمع إلى المعلومات من مصدرها يحق لك أن تناقش وتحاور وتختلف وحتى ترفض. 

لكن ما أحذر منه هو النقاش على دماغ فاضية. 

لأن المناقشة على دماغ فاضية أول الطريق للتضليل والإرباك والارتباك.

ونحن لا نريد ذلك لا لنا.. ولا لك.. ولا للدولة المصرية.