الأربعاء 04 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

كتابان جديدان لنصر حامد أبو زيد

نصر حامد أبو زيد
نصر حامد أبو زيد

- لست أدَّعى هنا أننى أقوم بأى مهمة تبشيرية لصياغة نسخة محدَّدة من الإسلام

أعلنت مؤسسة هنداوى للنشر ترجمة كتابين للغة العربية للمرة الأولى من مؤلفات المفكر الراحل د. نصر حامد أبوزيد؛ الأول: «نظرة جديدة للقرآن: نحو تأويل إنسانى»، والثانى «إصلاح الفكر الإسلامى: تحليل تاريخى نقدى».

«حرف» تحتفى بالإصدارين، وتنشر مقتطفات من العملين، وذلك فى إطار إثراء المعرفة وإتاحتها للناطقين باللغة العربية فى كل أنحاء العالم.

صدر للمرة الأولى فى 2004.. إصلاح الفكر الإسلامى: تحليل تاريخى نقدى

على الرغم من أن موضوع إصلاح الفكر الإسلامى أُثير على نحوٍ صاخب، واشتد الترويج له فى الإعلام الغربى فى أعقاب ١١ سبتمبر ٢٠٠١، فإنه ليس موضوعًا جديدًا بالمرة. وكان من مبررات الإدارة الأمريكية للتوسُّع فى حربها على الإرهاب بغزو العراق الحاجة المُلِحَّة لإدخال الإصلاح السياسى والاقتصادى— والثقافى أيضًا— فى العالم العربى أجمع بالقوة. يشمل هذا المشروع الأمريكى للإصلاح التعليمَ الدينى؛ حيث تُحذف من المناهج المدرسية العناصر الدينية التى تعكس أىَّ نوع من التفرقة، سواء كانت دينية أو أخلاقية أو جنسية. فالمفترض بالتعليم الدينى، بموجب الإصلاح الأمريكى المقترح، أن يُعزِّز قيم الحرية والمساواة والعدالة والازدهار. وفرض قيم بعينها ليس جديدًا هو الآخر بالطبع. فهذا المنهج يُعيد إلى الأذهان مطالبَ شبيهةً لقُوًى استعمارية سابقة فى الدول المسلمة خلال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر.

إن العلاقة بين العالمَين الإسلامى والغربى حاضرة بقوة فى التاريخ الحديث للفكر الإسلامى. فى واقع الأمر، كانت بداية المواجهة بين العالمَين هى التى جرَّت تحدِّى الحداثة— بكل قيمها على غرار «التقدم» و«القوة» و«العلم» و«العقل»— لتخترق المجتمعات التقليدية، وتنتهك بالتالى هُويَّاتها الراسخة.

إلا أن رد الفعل لم يكن سلبيًا على الدوام، ركَّز أى رد فعلٍ سلبى على الغزو العسكرى، واحتلال الأرض، واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية.

إنه لأمرٌ واقع أن التوجه الأصولى والإقصائى للفكر الإسلامى هو السائد فى أغلب المناقشات، بل هو الطاغى فى الإعلام، لا سيما منذ أحداث ١١ سبتمبر. على العكس، سيكون التركيز الرئيسى لهذا البحث رد الفعل الإيجابى والليبرالى والاستيعابى المتضمَّن فى كتابات مفكِّرين مسلمين سَعَوا لإعادة قراءة التراث الإسلامى وتناوُله بنظرة جديدة، وفى ذلك النصَّان الإسلاميان التأسيسيان؛ أى الكتاب المقدس، القرآن، وكذلك السنة النبوية «أى سنن النبى من أقوال وأفعال». ومن ثَم فإن السؤال المحورى فى هذه الدراسة هو: لأى درجةٍ أسهم هؤلاء المفكرون الليبراليون الإصلاحيون فى تجديد الفكر الإسلامى تجديدًا حقيقيًا؟ وهل وُفقوا فى تفنيد الصورة السلبية للغرب التى يقدِّمها التقليديون؟

بطرح هذا السؤال والسعى لتحليل البيانات التى سيمليها، تشير هذه الدراسة أيضًا للأثر السلبى المحتمل للحالة السياسية الراهنة؛ أى احتلال العراق، والصراع الإسرائيلى الفلسطينى العالق، وأجندة الإصلاح المفروضة الكامنة فى المشروع الأمريكى «الشرق الأوسط الكبير». فمن المؤسف أن الحالة الراهنة للأوضاع العالمية تعطى كلًا من التقليديين والمتطرفين، ناهيك عن الراديكاليين والأصوليين، موقفًا أقوى لم يكونوا ليحلُموا به قط.

يسير منهج البحث المعتمد هنا على النحو الآتى: تنقسم باقى هذه الدراسة إلى أربعة فصول؛ الثلاثة الفصول الأولى منها مرتَّبة ترتيبًا زمنيًا، وتتناول فترة ما قبل الاستعمار؛ أى القرن الثامن عشر «الفصل الثانى»، والتاسع عشر «الفصل الثالث»، والقرن العشرين «الفصل الرابع». واختيار مفكِّرين من دولٍ شتَّى، مثل مصر والهند وباكستان وإندونيسيا يعكس التنوُّع العريض للعالم الإسلامى، ويربط بين أسلوب التفكير والسياق التاريخى والاجتماعى السياسى. وتركيزنا الرئيسى هنا بالأساس على أولئك المفكرين الذين كانوا مجدِّدين بحق، بأن أضافوا رؤًى جديدة للموضوعات قيد المناقشة، فأتاحوا بذلك المجال للنقاش شيئًا فشيئًا. يناقش الفصل الرابع نشأة الإسلام السياسى. كما أنه يقدم دراستَى حالة عن الفكر الإسلامى فى إندونيسيا «القسم ٤-٧» وفى إيران «القسم ٤-٨». تقدم إندونيسيا حالةً مثيرة للاهتمام للفكر الإسلامى فيما يتعلق بالتعددية الدينية والتعددية الثقافية باعتبارهما من أسس الديمقراطية. وفى إيران، أسفَرَت معايشة الإسلام السياسى فى ظل حكم دينى عن جدلٍ عميق بين المفكِّرين المسلمين بشأن العلاقة بين الدين والدولة. ويركِّز الفصل الخامس على الطرق التى يتناول بها مفكرون مختارون من خارج العالم الإسلامى موضوعاتٍ مثل الشريعة والديمقراطية وحقوق الإنسان. ثم أُنهى هذه الدراسة بخاتمة.

صدر للمرة الأولى فى 2006.. نظرة جديدة للقرآن: نحو تأويل إنسانى

لقد أصبح العالَم بالفعل— سواء أكان ذلك جيدًا أم سيئًا— قرية صغيرة واحدة لا يمكن لثقافة منغلقة منعزلة أن تواصل الحياةَ فيها، هذا إن كان لمثل هذه الثقافة وجودٌ فى الأساس. على الثقافات أن تتفاوض، عليها أن تعطىَ وتأخذ، عليها أن تُعِير وتستعير، وليس ذلك بظاهرة جديدة أو مبتدَعة فى سياق العولمة الحديث. يخبرنا تاريخ ثقافات العالَم أنَّ موجة الحضارة قد وُلدت على الأرجح فى مكانٍ ما حول أحواض الأنهار، ربما فى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أو مصر أو العراق، ثم انتقلت إلى اليونان، وعادت بعدها إلى الشرق الأوسط فى صورة الثقافة الهيلينية. ومع ظهور الإسلام، بزغت ثقافةٌ جديدة استوعبت عناصرَ الثقافة الهيلينية وكذلك الهندية والإيرانية، وأعادت صياغتها، ثم انتقلت هذه الثقافة الجديدة إلى العالَم الغربى الجديد عبر إسبانيا وصقلية.

هل لى أن أذكرَ هنا الفيلسوف المسلم ابن رشد، الذى يُعرَف فى السياقات اللاتينية باسم أفيروس، وأهمية كتاباته فى التوليف بين الإرث الأرسطى والإرث الإسلامى، لينتشر بذلك نورًا فكريًّا جديدًا فى خِضم عصور الظلام فى أوروبا؟

أودُّ أن أنتهزَ هذه الفرصة للتعبير عن امتنانى إلى مؤسسة «سقراط» الإنسانية، ومنظمة التنمية الإنسانية، والمعهد الإنسانى للتعاون الإنمائى «هيفوس»، ومجلس محافظى جامعة الإنسانيات بأوترخيت، وذلك لمبادرتهم المهمة جدًّا المتمثِّلة فى تأسيس كرسى أكاديمى للدراسات الإسلامية والإنسانية بالاسم العربى، ابن رشد، بدلًا من الاسم اللاتينى أفيروس. وإننى ليشرفنى للغاية أن أكونَ أولَ باحث يَشغل هذا الكرسى؛ واتساقًا مع فكر ابن رشد، فإننى أرجو ألا يقتصر جهدى اليوم على تقديم تلك المحاضرة التى ألقيها بمناسبة قبولى لهذا الكرسى، بل آمُل أن يمتدَّ إلى المساهمة فى عملية بناء جسور متينة بين الإسلام والمذهب الإنسانى.

لماذا يُعد تناوُل القرآن بنظرة جديدة أمرًا فى غاية الأهمية للمسلمين اليوم؟ فى سياق رُهاب الإسلام الذى نشهده فى الغرب اليوم، لا سيَّما بعد أزمة الحادى عشر من سبتمبر، وما تلتها من عمليات إرهابية فى كل مكان بالعالم الإسلامى وغير الإسلامى أيضًا، ما اختزل الإسلام فى الأصولية والعنف والإقصاء، ينبغى للمرء أن يركِّز على أهمية هذه الدعوة إلى «النظرة الجديدة للقرآن» بالنسبة إلى المسلمين فى العموم، والمسلمين الذين يعيشون فى أوروبا على وجه الخصوص. ولست أدَّعى هنا أننى أقوم بأى مهمة تبشيرية لصياغة نسخة محدَّدة من الإسلام، وإنما أقدِّم موقفى التأويلى فحسب.

غير أنَّ آلية «النظرة الجديدة للتراث» والتفاوض بشأن «معنى» القرآن فى العالَم الإسلامى لا يزالان يشهدان تطورًا منذ القرن الثامن عشر. إننى لن أدعوَ هنا إلى استمرارية آلية هذه النظرة الجديدة فحسب، بل أدعو أيضًا إلى تطويرها نحو صياغة منهجية بنَّاءة للمسلمين، أينما كانوا، لكى ينخرطوا بفاعلية فى تشكيل «معنى الحياة» فى العالَم الذى يعيشون فيه.

فى عام ٢٠٠٠، شرُفت بأن اختارتنى اللجنة المسئولة فى جامعة لايدن لاعتلاء كرسى كليفرينخا للقانون والحرية والمسئولية، لا سيما حرية الدِّين والضمير، ذلك الكرسى الذى يشغَله صاحبه مدة عام واحد. وفى محاضرتى الافتتاحية التى ألقيتها قبل ثلاثة أعوام ونصف بالضبط، فى يوم الاثنين الموافق السابع والعشرين من نوفمبر لعام ٢٠٠٠، قدمتُ مفهومَ القرآن بوصفه مجالًا للتواصل بين الإله والإنسان. جاءت المحاضرة بعنوان «القرآن: التواصل بين الله والإنسان»، وقد حاولتُ أن أقدِّم فيها قراءةً جديدة، ومن ثَم تفسيرًا جديدًا، لبعض الافتراضات الأساسية الموجودة فى المجالات الكلاسيكية المعروفة باسم «علوم القرآن»، لا سيَّما تلك العلوم التى تتناول طبيعة القرآن وتاريخه وبِنيته.

فى هذه القراءة الجديدة وذلك التفسير الجديد، استخدمتُ بعضَ النُّظم المنهجية، مثل علم الدلالة وعلم العلامات «السيميوطيقا»، إضافةً إلى النقد التاريخى وعلم التأويل «الهرمنيوطيقا»، وكلها من المجالات التى لا تُطبَّق بصفة عامة فى الدراسات القرآنية التقليدية فى العالم الإسلامى، ولا تحظى بالتقدير الملائم لها. وقد ركَّزتُ فى تحليلى على البُعد «الرأسى» للوحى؛ أى عملية التواصل بين الله والنبى محمد التى أنتجت القرآن. ولما أنتج هذا التواصل الرأسى، الذى استمر على مدار أكثر من عشرين عامًا، مجموعةً متعدِّدة من الخطابات (فى صورة آيات وسور قصيرة وطويلة)، فقد كان لهذه الخطابات ترتيبٌ زمنى.

فى عملية تدوين القرآن وجَمْعه التى انبثقَ منها النص المقدَّس فى صورة «المصحف»، لم يُحفظ هذا الترتيب الزمنى، بل استُبدل به ما يُعرَف الآن ﺑ«ترتيب التلاوة»، بينما صار الترتيب الزمنى يُعرَف الآن ﺑ«ترتيب النزول». وفقًا للنظرة التقليدية، فإنَّ القرآن قد حُفظ على نحوٍ تام شفويًّا منذ البداية، ثم دوِّن خلال حياة النبى محمد أو بعد وفاته بفترة قصيرة حين «جُمِع» ورتِّب للمرة الأولى على يد صحابته. ويُعتقد أنَّ النص الثابت الكامل تأسَّس فى عهد الخليفة الثالث، عثمان (٦٤٤–٦٥٦)، بينما استقر النص المُشكل النهائى فى بدايات القرن الرابع الهجرى/العاشر الميلادى. ومن المهم لنا— حتى إذا تبنَّينا النظرةَ السلفية دونما نقد— أن ندركَ وجود بُعد بشرى آخر فى عملية تدوين القرآن وجمعه هذه، استدعى عمليةَ إعادة الترتيب التى جرَت مبكرًا، والتطبيق المتأخر لعلامات التشكيل على النص الثابت.

واليوم، أودُّ أن أُطوِّر أكثرَ أطروحتى عن الجانب البشرى من القرآن، منتقِلًا من البُعد الرأسى إلى البُعد «الأفقى». وما أعنيه بالبُعد الأفقى يتجاوز عمليةَ التدوين والجمع، أو يمكن القول إنه يتجاوز ما يعرِّفه بعضُ الباحثين الآخرين بأنه فِعل الإبلاغ التدريجى من جانب النبى محمد لرسالة القرآن بعد تلقيها، أو نشر الرسالة عبر «النص التفسيرى»، وفقًا لمحمد أركون. ما أقصده هو البُعد «الأفقى» المضمَّن فى بنية القرآن، والذى تجلَّى خلال عملية الاتصال نفسها. ولا يمكن إدراكُ هذا البُعد الأفقى إلا إذا حوَّلنا إطارنا المفاهيمى من النظر إلى القرآن بوصفه «نصًّا»، ونظرنا إليه بوصفه «خطابًا».