السبت 02 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مصطفى نصر: أحد مُصوِّتى جوائز الدولة قال لزميل: «سأعطيك صوتى» رغم أنه لم يقرأ له حرفًا

مصطفى نصر
مصطفى نصر

- الجوائز ظلمتنى وأنصفت غير المستحقين

- فى شبابى سقطت من الدور الثالث وكدت أموت فابتعدت عن الأدب والأدباء

- كتبت أولى رواياتى فى «تانية إعدادى» وقرأها التلاميذ ليس لجودتها بل لمشاهدها الجنسية

لا يزال جيل الستينيات مليئًا بالكنوز التى لم يطلع عليها الكثيرون، والروائى مصطفى نصر أحدها، ليس فقط من أجل رواياته الكثيرة المؤثرة والفريدة فى أسلوب كتابتها بل بتأريخها مرحلة مهمة فى تاريخ مصر وامتلاكها جماليات أدبية من نوع خاص، وهو ما جلعها باقية حتى يومنا هذا. ولأنه عاشق للإسكندرية، آثر البقاء فيها على الانتقال إلى القاهرة، حيث بؤرة الأحداث وبوابة النشر والحضور الإعلامى والشهرة، وهو ما حرمه من الكثير من الامتيازات التى حصل عليها رفاقه أو حتى من هم أقل منه موهبة وتأثيرًا، وكان أبرز تجليات ذلك على مسيرته- حسبما يرى- عدم حصوله على جوائز الدولة حتى الآن. وأهم ما يميز تجربة مصطفى نصر أنه كتب عن العديد من المناطق الشائكة فى الحياة الاجتماعية المصرية، متناولًا جوانب حساسة للغاية منحت رواياته زخمًا كبيرًا فى ظل جرأتها وأسلوبها الأدبى الفريد ولغتها العميقة. عن بداياته فى الكتابة ومسيرته فى الحياة الأدبية وتجربته مع النشر وذكرياته مع أعلام الأدب فى مصر، أجرت «حرف» مع مصطفى نصر الحوار التالى.

■ بداية.. هل ظلمتك جوائز الدولة؟

- طبعًا، وأذكر أن صديقًا أرسل إلى أرقام تليفونات من لهم حق التصويت فيها، لكننى لم أتصل بأى منهم، لأننى لا أطيق هذه الطريقة فى التعامل، فقد حضرت لقاءً فى مكتبة الإسكندرية، ورأيت هناك مسئولًا مهمًا يقول لزميل سكندرى حصل على جائزة الدولة التقديرية: «أنا أعطيتك صوتى فى التقديرية وحاديهولك فى جائزة النيل»، وكلى ثقة أن من له حق التصويت هذا لم يقرأ حرفًا لزميلنا هذا. ولا يستحق زميلنا أى جائزة من جوائز الدولة.

■ ما ذكرياتك مع أول كتاب لك؟ وكيف نشرته؟

- سؤال جميل جدًا، لأننى أعتز بهذا الكتاب، وهو روايتى «الصعود فوق جدار أملس»، كتبتها على الآلة الكاتبة، ثم عشت ظروفًا صعبة فى حياتى، حيث وقعت من الدور الثالث ونحن نبنى بيتنا، وكدت أموت، فابتعدت عن الأدب والأدباء، ثم عدت لحضور الندوات، وناقش البعض روايتى هذه، فأثنى عليها الأستاذ الدكتور السعيد الورقى بطريقة جعل الكل يرغب فى قراءتها، فاقترحت عواطف عبود المشرفة على الندوة أن تطبع الرواية فى عدد خاص من مجلة الكلمة التى يصدرها قصر الثقافة، لكن بعض الزملاء عارضوا هذا، والزميل سعيد سالم سلمها رواية لكى تطبعها له. فقررت أن تلغى روايتى تمامًا، فقد أحست أن نشر رواية لى سيفسد ندوتها، وأنا لم أكن من المؤثرين فى الندوة، وقال لى محمد غنيم مدير عام الثقافة فى الإسكندرية، أمامها: «هى التى ترفض أن تنشر الرواية لك»، فنشرتها على حسابى.

■ بالتأكيد خضت رحلة طويلة قبل النشر؟

- نعم بالطبع، الرحلة بدأت بكتابة أول رواية وكنت حينها فى الصف الثانى الإعدادى، ومعظم تلاميذ الفصل كان يقرأها، ليس لجودتها إنما لكمية الإيجاءات والمشاهد الجنسية التى تحتويها، فقد كنتُ متأثرًا فيها بالأفلام العربية التى كنت مغرمًا بها، فكتبت عن شابين يسكنان حجرة فوق سطح بيت، ويقيم أحدهما علاقة جنسية مع ساكنة الشقة التحتانية، ورواية أخرى باسم امرأة فى الوحل، وأخرى عن مقاومة المصريين للإنجليز قبل ثورة يوليو ٥٢.

وبعد سنوات رميت كل هذه الأوراق غير آسف عليها، ثم عرفت مدرسة «روز اليوسف»: إحسان عبد القدوس وفتحى غانم وعبدالله الطوخى وأحمد بهاء الدين وفوزية مهران ومصطفى محمود ومحمود السعدنى وصبرى موسى وغيرهم. ما زلت أذكر شعورى وقتذاك، عالم سحرى جعلنى أذوب داخله، وأبحث عن كل أعداد مجلة «صباح الخير» التى فاتتنى، كنت أحصل على مصروف قرش صاغ كل يوم «مصروفى» فأذهب إلى محطة مصر وأشترى عددين من المجلة.

وبدأت أقلد حكايات إحسان عبدالقدوس، كتبت عن أحداث حدثت فى بيتنا، وعن حياتى: موت أمى فى طفولتى وزواج والدى من فتاة جاءوا بها له من الصعيد، وعن تعاستى لهذا. وكتبت عن حبى لفتاة كانت تسكن معنا فى نفس الشقة. 

كنا نسكن حجرتين من الشقة والحجرات الثلاث الباقيات يسكنها ثلاث أسر أخرى، لم أكن أعرف الأبنية الثقافية، وعندما مررت على قصر ثقافة الحرية ظننته صالة أفراح، إلى أن نصحنى صديق بحضور الندوات فيه وكان هذا فى أواخر عام ١٩٦٧. كان نبيل فرج يدير الندوات، ويحضرها الدكتور على نور ومحمد حافظ رجب والدكتور حسن ظاظا وحسنى بدوى ونيقولا يوسف وحسنى نصار وغيرهم. وقرأت أمامهم قصة مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية فنصحنى الدكتور على نور ألا أكتب لمدة عام وأتفرغ فيها للقراءة، كُنت أكتب يومياتى فى ذلك الوقت، فقد تعاملت مع نفسى على أننى كاتب كبير، فصدمنى رأى الدكتور على نور، وكتبت فى يومياتى عن صدمتى ونكستى، فقد كانت كلمة نكسة تذكر كثيرًا فى ذلك الوقت. 

أعجبت بطه حسين ككاتب قصة، قلدته فى طريقته فى كتابته لرواية «الحب الضائع»، فتحدثت بطلة قصتى «القديسة» للقرطاس عن سرها الذى لا يمكن أن تحكيه لأحد. أمها الأرملة الجميلة جدًا التى رفضت عمدة قرية مجاورة لكى تربى أولادها، فسموها بالقديسة، لكن الحقيقة تعرفها ابنتها، وهى أن رجلًا يأتيها كل مساء. أرسلت القصة إلى مجلة القصة، فرد على الكاتب ثروت أباظة قائلًا: «أسلوبك يتسم بالشفافية والرهافة، لكن موضوع القصة مبتذل، أرجو أن تستخدم أسلوبك الجيد فى أعمال يتكامل لها المضمون الجيد».

بعدها تعرفت على صديق لى مسيحى يسكن فى حى غيط العنب ويعمل فى إذاعة الإسكندرية، كان سعيدًا وفخورًا لأنه يعمل فى الإذاعة. فإذا قابل شخصًا، يبدأ بتعريفه بعمله الذى يعتز به، حكى لى عن شاب مسيحى يسير بجوار مقابر الأقباط فى الشاطبى مساءً، فقابلته فتاة ليل قريبة الشبه بخطيبته التى ماتت ودفنت فى هذه المقابر، وقد أحست الفتاة بالبرد، فخلع لها سترته وأعطاها لها لتلبسها، لكنها اختفت فجأة، فدخل المدافن يشكو لقبر حبيبته، فوجد سترته فوق شاهد القبر فعرف أن الفتاة التى كانت معه هى خطيبته التى ماتت. هذه حكاية من الحكايات التى انتشرت بعد هزيمة يونيو٦٧، فبعد الهزائم العسكرية يلجأ الناس إلى الغيبيات.

وكتبت هذه القصة وسميتها «دميانة»، فقد كان صديقى هذا يحكى لى عن «دميانة» التى تسكن غيط العنب حيهم المزدحم بالمسيحيين، وكانت صديقة لرجل دين، يفرضها على المدارس المسيحية الكثيرة فى الحى لتدرس لهم حصة الدين.

وذهبت بالقصة إلى ندوة جماعة الأدب العربى التى تعقد فى جمعية ذوى المعاشات وأصدقاء الشيوخ فى عمارة قديمة بشارع طوسون، مواجهة للبنك العقارى، وكان يُشرف عليها محمد الصاوى، قابلت فيها الروائى الكبير عبدالوهاب الأسوانى هناك فقرأ القصة التى كنت أصدرها بأبيات للشاعر اللبنانى نسيب عريضة:

لماذا السفينة تطلب ريحًا ومن حولها أبحر هائلة 

وفى القفر عطشى وريح السموم بهم نازلة 

لماذا نحب لماذا نحس لماذا نعيش بلا طائل؟

فنقل الأبيات، ونصحنى بألا أصدّر القصة بأى شىء. وقال لى: «أنت أفضل من كثيرين يجلسون معنا الآن»، ومن يومها بدأت علاقتى به.

■ بمن تأثرت فى بداياتك؟

- تأثرت بمحمد حافظ رجب، وأعجبت بقصصه التى كتبها عن حى «غربال» مثل «أصابع الشعر والبطل ومارش الحزن والأب حانوت» وغيرها، وهى فى رأيى أفضل وأنضج من قصته «الكرة ورأس الرجل» التى أحدثت ضجة وقتذاك. 

وكان صديق لى يتابع أعمالى منذ أن بدأت ويلح علىّ بأن أكتب عن «غربال» حينا، وأنا غير مقتنع، وعندما اقتنعت حاولت أن أفعل ما فعله حافظ رجب وأكتب عن الحى الذى أعيش فيه بلا فائدة.

■ تنشر الكثير من الذكريات والكتابات على صفحتك الشخصية على «فيسبوك».. ألم تفكر فى جمعها فى كتاب؟

- جمعت هذه المقالات، كل مجموعة مع بعضها، وسوف أقدمها للنشر فى القريب.

■ بخلاف «غوانى الإسكندرية».. لماذا لا تعيد نشر باقى إنتاجك الكبير مرة أخرى؟

- كأنك تحس بى وتعرف ما أفكر فيه، فأنا أحلم بإعادة نشر أعمالى القديمة، روايتى الأولى «جبل ناعسة» التى نشرت فى طبعتين الأولى فى المجلس الأعلى للثقافة والثانية فى هيئة الكتاب ونفدت كل نسخها. وروايتى «الهماميل» التى صدرت عن روايات الهلال وعدد كبير من المخرجين رغبوا فى تحويلها لمسلسل تليفزيونى لكن يحيى العلمى طلب رأى وزارة الداخلية التى رفضت ذلك للمغالاة فى إظهار سلبيات الشرطة. ورواياتى «الجهينى والمساليب وليالى غربال» وغيرها.

■ حدثنا عن ذكرياتك مع الكتاب الكبار

- أكثر اثنين اختصرا لى الطريق، عليهما رحمة الله، هما جمال الغيطانى وعبدالوهاب الأسوانى. فقد ارتبطت بعبدالوهاب الأسوانى ارتباطًا وثيقًا، عندما كان يعيش فى الإسكندرية، وانتقل للقاهرة وكان يحضر ندوة أسبوعية فى قهوة بباب اللوق اسمها سوق الحميدية، وقرأ روايتى «جبل ناعسة»، فتحدث عنها فى هذا اللقاء، فجعل الكل راغبًا فى قراءتها. وأراد أن يكتب عنها حكاية مرتبطة بـ«جرير» الشاعر العربى العظيم عندما تقابل مع الشاعر عمر بن أبى ربيعة»، وحينها قال لى عبدالوهاب الأسوانى: «أردت أن أكتب عن تناولك لهذا الموضوع، لكننى خفت أن أغضب من كتبوا روايات قبلك فى الإسكندرية».

■ ماذا عن جمال الغيطانى؟

- جمال الغيطانى أكثر أديب وقف بجانبى ونصرنى، وأعتقد أن كل الأدباء يعرفون هذا، فقد أعطيته روايتى «الهماميل» مكتوبة على الآلة الكاتبة، فأعجب بها وأعطاها لصديقه يوسف القعيد لكى يسلمها لمصطفى نبيل، رئيس تحرير مجلة وروايات الهلال، وجاء لمصر الكاتب الجزائرى الطاهر وطار، ومعه رواية «عرس بغل» لكى ينشرها فى روايات الهلال، فذهب جمال الغيطانى وجلال السيد مع الطاهر وطار لمساعدته، وقتها قال جلال السيد لجمال الغيطانى: «عايز رواية أنشرها مسلسلة فى جريدة الجمهورية» فقال جمال الغيطانى بحماس شديد، «رواية مصطفى نصر الهماميل، وإحنا لسه حانبعت له فى الإسكندرية، هى موجودة عندهم هنا»، ونظر جمال الغيطانى لمحمود قاسم المسئول عن روايات الهلال قائلًا: «هات الرواية يا محمود، فقام محمود ليأتى بالرواية، لكن مصطفى نبيل سار خلفه وقال له: ما تدهلهمش إحنا أولى بيها، أنشرها الشهر الجاى»، فأرسل لى محمود قاسم رسالة قائلًا فيها: «ستصدر روايتك الهماميل الشهر المقبل».

وفى لقاء مع جمال الغيطانى فى وجود مصطفى عبدالله، قال الأول «بفكر أصدر الصفحة الأدبية كلها فى جريدة الأخبار عن مصطفى نصر»، فاندهش مصطفى عبدالله وظنه يمزح، لكن «جمال» أكد ذلك. وبالفعل نشر عنى صفحة كاملة فى جريدة الأخبار. 

والأمر الأهم أننى فكرت طويلًا فى كتابة روايتى «الجهينى» عن تجربة انتخابات حدثت فى منطقتنا عام ١٩٥٧، وكنت خائفًا من التجربة لكن ما إن فرغت من قراءة رواية جمال الغيطانى «وقائع حارة الزعفران»، بدأت فى كتابة روايتى، ولم أتركها إلا بعدما انتهيت من كتابتها.

■ انتهيت من روايتك «معاش مبكر» وهى قيد النشر.. ما الكتاب المقبل لمصطفى نصر؟ 

- بدأت منذ سنوات فى كتابة رواية عن العلاقة بين الملكة فريدة زوجة الملك فاروق بامرأتين، الأميرة شويكار الزوجة السابقة لأحمد فؤاد قبل أن يكون حتى ولى عهد، والملكة نازلى أم الملك فاروق، وبنيت الرواية عن إعجابى الشديد بالعلاقة النقية بين «فاروق وفريدة»، علاقة بريئة وطاهرة، فغارت شويكار منها فاستغلت أموالها لكى تفسد العلاقة بينها وزوجها فاروق، كما أن «نازلى» هى الأخرى غارت منها، فـ«فريدة» شريفة وطاهرة وهى لا، لدرجة أن المظاهرات كانت تهتف «يا ملكنا يا زين.. أمك مرافقة اثنين.. على ماهر وأحمد حسنين». 

وبنيت روايتى عن المنافسة بين الطهر والعهر. لكن صدمتنى معلومات أفسدت روايتى وجعلتنى أتوقف عن تكملتها، فـ«فريدة» كانت على علاقة بضابط إنجليزى يجيد الرسم وهى تجيد الرسم، فتدخلت «الخارجية» الإنجليزية ونقلت هذا الضابط للسودان، وعلم «فاروق» واشتكى لأطفالها وطلقها، أريد أن أعود ثانية لهذه الرواية.

■ عاصرت وزاملت أبناء «الستينيات».. كيف تقيّم هذا الجيل؟

- جيل الستينيات كان هو الأهم: جيل نبع من نجيب محفوظ ويوسف إدريس وصلاح عبدالصبور وسيد حجاب وعبدالرحمن الأبنودى، جيل جبار، لذا ظهر فى القصة والرواية وشعر الفصحى والعامية، عباقرة.