تحت الاختبار.. جولة داخل أقدم متاحف الأجنّة البشرية المحنطة فى العالم
- «متحف نجيب باشا محفوظ» الأول من نوعه فى الشرق الأوسط والثالث على مستوى العالم
- الأديب «نجيب محفوظ» حصل على اسم صاحب المتحف بعد أن أنقذه وأمه أثناء ولادته المتعسرة
- د. أحمد المناوى: المتحف يضم 3000 عينة لأجنّة مشوهة عمر أغلبها يتخطى 100 عام تسهم فى تطور البحث العلمى الطبى
لا شك أن سياحة المتاحف تمثل أرقى أنواع الرحلات التى يمكن للأشخاص خوضها والاستمتاع بها، خاصة فى مصر، حيث تُعرَض القطع التاريخية والفنية النادرة والمميزة للحضارة المصرية بمختلف عصورها، ما يتيح للزوار التعرف على تاريخ وثقافة وفنون مصر الفريدة من نوعها، لكن بعيدًا عن المتاحف التقليدية، هناك مجموعة من المتاحف الغريبة، والتى تُقدم تجربة فريدة من نوعها، فأثارت دهشة كل من زارها أو سمع عنها، ويزخر العالم بالكثير من تلك النوعية من المتاحف الغريبة، كمتحف الطعام المحترق فى هايد بارك فى الولايات المتحدة الأمريكية، ومتحف الكانكون الغارق تحت الماء بالمكسيك، ومتحف الفن الردىء بولاية ماساتشوستس فى الولايات المتحدة، ومتحف علاقات الحب الفاشلة فى العاصمة الكرواتية زغرب، ومتحف مصاصى الدماء فى العاصمة الفرنسية باريس، ومتحف القطط بين أغرب متاحف فى العالم فى مدينة كوتشنج الماليزية.
وفى مصر هناك بعض المتاحف الغريبة والمثيرة للجدل، يُعد أشهرها متحف نجيب باشا محفوظ للأجنة المشوهة، الذى يوجد داخل مستشفى قصر العينى، ويضم الآلاف من العينات البشرية لأجنة لم تولد، أو لأطفال حديثى الولادة، تم حفظها منذ ما يقرب من 120 عامًا مضت، وتحديدًا منذ عام 1905، والذى يُعد الأول من نوعه فى الشرق الأوسط وإفريقيا، ولا مثيل له فى العالم سوى فى هولندا وفرنسا فقط، ويعود سبب إنشائه إلى الدكتور محفوظ، الذى طلب منه مدير مدرسة الطب بقصر العينى إلقاء بعض المحاضرات لطلبة مدرسة الطب فى أمراض النساء والولادة، ولكنه كان يحتاج إلى نماذج إيضاحية ليشرح عليها للطلبة فى المحاضرات.
لكن السؤال هنا، مَن هو الدكتور نجيب باشا محفوظ، والذى يُعد أحد أهم الأطباء المصريين المؤثرين فى مصر والعالم، ورائد طب النساء والتوليد فى مصر؟، فقد ولد الطبيب الفذ نجيب باشا محفوظ بمدينة المنصورة، وذلك فى الخامس من يناير من عام ١٨٨٢ ميلادية، والتحق بمدرسة الطب بقصر العينى فى عام ١٨٩٨، وبعد تخرجه فى عام ١٩٠٢، تخصص كطبيب تخدير، وتعين كطبيب تخدير فى قصر العينى عام ١٩٠٨، وخلال عمله ساعد فى كثير من عمليات الولادة، وقد لاحظ ارتفاعًا فى نسبة الوفيات بين النساء أثناء الولادة فى ذلك التوقيت، لذا قرر أن يتخصص فى حالات الولادة المتعسرة، وذلك عن طريق دراسة الكتب والمراجع الأجنبية الخاصة بها، علمًا بأن مصر فى هذا التوقيت لم يكن بها مستشفى واحد متخصص فى أمراض النساء والولادة، لذا كان يجد نفسه مضطرًا لإسعاف المتعسرات فى الولادة فى منازلهن، دون أن يتقاضى أى أجر مقابل هذه الولادات.
وفى عام ١٩٠٥، طلب الدكتور نجيب محفوظ من الإنجليزى كيتنج مدير مستشفى قصر العينى إنشاء عيادة لأمراض النساء داخل الكلية، واقترح استخدام مبنى ملاصق لمستشفى قصر العينى مكون من ثلاثة طوابق لهذا الغرض، وخصص الدور السفلى للعيادة الخارجية لأمراض النساء والطابق الأول للولادة الطبيعية والطابق الثانى للولادة المتعسرة، ورغم أنه لم يكن متوقعًا أن تُقبل السيدات على الكشف فى تلك العيادة الأولى من نوعها، إلا أنه فى السنة الأولى من عمله كطبيب استقبل أكثر من ٨١٠ حالات، وفى السنة الثانية وصلت الحالات إلى ١٣١٠، وطيلة العقدين الأول والثانى من القرن العشرين، اكتسب الطبيب نجيب باشا محفوظ شهرة كبيرة فى مجال الولادة المتعسرة، وكان من أشهر تلك العمليات المتعسرة، ولادة الأديب العالمى نجيب محفوظ عام ١٩١١، والذى استعان به والد الأديب العالمى لإنقاذ حياة الأم والطفل خلال عملية الولادة المتعسرة، وتيمنًا بنجاح الولادة المتعسرة أطلق والد الطفل اسم الطبيب على اسم ابنه، تقديرًا لدوره فى إنقاذ حياة ابنه، ليصبح الطفل فيما بعد الأديب الكبير نجيب محفوظ (المُركّب)، وبعد سنوات قليلة، وكنتيجة طبيعية لكفاءته فى هذا التخصص، قام الملك أحمد فؤاد الأول باستدعائه ليحضر ولادة الملكة نازلى، كما استدعاه أيضًا الملك فاروق فى ولادة الملكة فريدة.
تأسيس المتحف
فى أحد أيام صيف عام ١٩٠٥، تلقى الدكتور نجيب باشا محفوظ استدعاءً عاجلًا من الطبيب الأساسى يطلب مساعدته فى قسم الولادة، وعندما ذهب إليه وجد أن تلك الحالة فى غاية الصعوبة، فقد كان رأس المولود داخل رحم الأم، وباقى الجسد خارج الرحم، أما الأم فقد كانت فى حالة يرثى لها، وبعد الكثير من المحاولات لإخراج الجنين باءت بالفشل، انفصل جسد الجنين عن رأسه، وظل ذلك الرأس داخل الرحم، وهو ما أدى إلى وفاة الأم أيضًا، تلك الحادثة المؤلمة كانت السبب الرئيسى فى زيادة اهتمام الدكتور نجيب باشا محفوظ بتلك الحالات المتعثرة، وهو ما أدى إلى اتخاذه قرارًا بتغيير تخصصه من التخدير إلى النساء والتوليد، ثم بتجميع عدد كبير من العينات والأدوات المختلفة لدراستها بشكل دقيق.
طيلة سنوات طويلة قام الدكتور نجيب باشا محفوظ بعمل الكثير من الولادات المتعثرة والنادرة، فقد رأى الكثير من الحالات الغريبة للأجنّة والأطفال حديثى الولادة فى ذلك العصر، لذا انصب اهتمامه على ضرورة الحفاظ على تلك العينات، والتى كانت تمثل حالات نادرة لمختلف الأجنة التى ماتت فى أثناء الولادة، أو وُلدت بتشوهات غريبة ونادرة، بالإضافة إلى عينات لحالات إجهاض لأطفال لم يكتمل نموهم لأى سبب، وقد كان يحتفظ بتلك العينات فى أوعية خاصة من الزجاج مُخصصة لهذا الغرض، ثم يقوم بحفظها بسوائل كيميائية كان يصنعها بنفسه، وكان دكتور نجيب محفوظ يحضر تلك المواد الكيميائية على نفقته الخاصة من فرنسا، وبعيدًا عن ميزانية الكلية، وعندما لاحظ زيادة تلك الأوعية الزجاجية أنشأ مكانًا مخصصًا لعرضها على الطلبة بالكلية.
طيلة عقدين كاملين واجه الدكتور نجيب باشا محفوظ الكثير من الحالات النادرة والغريبة، وقد نجح فى إقناع أهالى الأجنة أن يتبرعوا بها لصالح أغراض بحثية، ولتعليم طلاب الطب، حتى تمكن من تجميع أكثر من ١٣٠٠ عينة من الأجنة المشوهة، وحالات الإجهاض، وفى عام ١٩٢٧، وهو العام الذى احتفلت به كلية طب قصر العينى بمرور ١٠٠ عام على إنشائها، قام الدكتور نجيب باشا محفوظ بعرض تلك العينات التى احتفظ بها خلال الاحتفالية، وقد وجد قبولًا وتشجيعًا كبيرًا من الأطباء المصريين والأجانب لما لها من قيمة علمية، وفى عام ١٩٣٢ وصل عدد العينات إلى حوالى ٣٠٠٠ عينية مختلفة، ما جعله يؤسس المتحف بشكل رسمى ليضم جميع العينات والأدوات التى قام بجمعها طيلة رُبع قرن، كما أنه تبرع ببعض العينات إلى جامعات فى الإسكندرية، وأسيوط، والسودان.
أهم ما ضمه متحف الدكتور نجيب باشا محفوظ للأجنة المشوهة، الكثير من الأدوات الطبية مثل الخيوط المستخدمة فى عملية الجراحة والإبر، بالإضافة إلى قناع التخدير الذى اخترعه، وكثير من الأشياء التى لها علاقة بأمراض النساء والتوليد، وقام بوضع رسم توضيحى أسفل كل عينة بشرية أو أداة من هذه الأدوات، ليوضح من خلالها تلك العينات وطبيعتها والغرض منها، لتتسنى للطلبة معرفتها والاستفادة منها، وقد ظل متحف الأجنة المشوهة فى قصر العينى يعمل على توفير المعلومات لطلاب الجامعة، لكن بمرور الوقت أصاب المتحف بعض الإهمال، حيث خسر المتحف الكثير من العينات، خاصة بعد أن قام البعض بتبديل السوائل التى وضعها الدكتور نجيب محفوظ بسوائل أخرى من صنعهم، ففسدت الكثير من العينات، وكان للدكتور نجيب مساعد علمه صناعة المحاليل، وهو ما أسهم فى إنقاذ الكثير من العينات من خلال إعادة تركيب محاليل أخرى فى أوعية زجاجية لحفظها.
يتميز متحف الدكتور نجيب محفوظ باشا للأجنة المشوهة بقصر العينى بعدد كبير من العينات الغريبة والمثيرة للجدل، وكان أشهر تلك العينات، العينة التى تؤكد على إجراء أول جراحة لتغيير الجنس فى العالم، وذلك عندما وصلت للدكتور نجيب محفوظ حالة ولادة لامرأة تعانى تشوهًا عضويًا، فقد كانت تعانى من عدم وجود فتحة المهبل كباقى النساء، وبعد فحصها تم التأكد من أنها ذكر وليست أنثى، حيث وجد بها خصيتين أصابهما الضمور داخل بطنها، ولم يتمكن من العثور على المبيضين، وأجرى لها عملية جراحية استأصل فيها الخصيتين، وفتح لها فتحة للمهبل.
هناك أيضًا حالة الأنثى الكاذبة، وهى حالة لامرأة تزوجت منذ سنوات، تزوجت كأنثى رغم أنها ذكر، ولكنها تشعر بكل المشاعر التى تؤكد أنها أنثى، وكانت هى الأخرى تملك خصيتين، وقد قام الدكتور نجيب محفوظ باستئصال الخصيتين وجزءًا من البظر، وعاشت حياتها مرة أخرى أنثى، بالإضافة إلى عينة راصد الكواكب، هى عينة لطفل مشوه حديث الولادة، كانت عيناه تنظران لأعلى كأنه يتأمل أو يراقب النجوم، لذلك سُميت العينة بهذا الاسم، وعينة أحلى واحد، وهى لجنين بسبب التفاف الحبل السرى حول رقبته، لكنه احتفظ بجماله وبراءته، لذلك سُمى بأحلى واحد، وعينة حورية البحر، وهى لولادة طفل وُجد مشوهًا، وكانت قدماه ملتصقتين بوضع جعله يشبه ذيل حورية البحر.
متحف للباحثين والطلاب
«متحف نجيب باشا محفوظ ليس مجرد متحف لعرض عينات للأجنة المشوهة، ولكنه أكبر وأضخم مركز للمعلومات والرصد العلمى لكل الباحثين».. بتلك العباراة بدأ الدكتور أحمد المناوى أستاذ النساء والتوليد وأمين متحف نجيب محفوظ للنساء والتوليد حديثه معنا، موضحًا أن تلك الأجنة المعروضة بالغة الأهمية للطلاب والباحثين فى كلية الطب، خاصة أن كل عينة من العينات داخل المتحف تضم رمز QR Code، وبمجرد أن يقوم الطالب أو الباحث بمسح الكود بواسطة الموبايل أو التابلت يظهر له تشخيص الحالة وتاريخها، مبينًا فى الوقت نفسه أن بعض حالات الأورام لها فيديوهات مصورة داخل غرفة عمليات قصر العينى، والأهم أن أكواد العينات تمت إضافتها بكتب قسم أمراض النساء والتوليد، وهو ما يساعد الطلاب والباحثين أثناء إطلاعهم على الفصل الخاص بتشوهات الأجنة، ليتمكن من معرفة جميع تفاصيل كل حالة على الفور من خلال هاتفه المحمول وهو فى منزله، بل ومشاهدة الفيديوهات التفصيلية عن كل الحالات والتى توضح أسباب الإصابة وأنواعها وكيفية تشخيصها، وهو ما يجعل الباحث فى كلية الطب قادرًا على تلقى معلومات ثمينة فى أى وقت ومن أى مكان.
أما عن باقى معروضات متحف الأجنة المشوهة، فقد أظهر الدكتور أحمد المناوى، أن المتحف يضم عددًا كبيرًا من الأدوات الطبية المستخدمة فى الولادة فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بالإضافة إلى الكتب العلمية وكتب الطب القديمة، سواء التى ألفها الدكتور نجيب باشا محفوظ، أو الكتب التى كان يستعين بها، وكرسى الولادة الذى كان يستعمله بنفسه، والأهم أنه يضم جميع طرق التحنيط التى كان يستخدمها نجيب باشا محفوظ فى حفظ العينات، مؤكدًا أن كلية الطب بقصر العينى تمكنت من تطوير المتحف، وإعادة تكوين مواد التحنيط التى كان يستخدمها الدكتور نجيب باشا محفوظ من مساعده الشخصى «عم حنفى»، والذى كان يحتفظ بسر تحنيط الأجنة المشوهة الخاص بالدكتور نجيب محفوظ، وقد قامت إدارة المتحف بتصويره أثناء قيامه بملء الأوانى بالمحلول، وهى العملية التى كانت تستغرق عدة أيام لتجنب ظهور شوائب.
«من الصعب فتحه للجمهور، وعائلات الذين تبرعوا برفات أبنائهم لخدمة العلم لن يقبلوا أن يصبح أبناؤهم مادة للسخرية من البعض».. كانت تلك هى الإجابة المنطقية للدكتور أحمد المناوى حول الأسباب الحقيقية التى تمنع من فتح كلية طب قصر العينى متحف الأجنة المشوهة للجمهور من غير المتخصصين، وجعله يقتصر على الطلاب والباحثين فقط، خاصة أن هناك اتفاقًا بين إدارة المتحف وأهالى الأجنة المشوهة بعرضها للبحث العلمى لاكتشاف أسباب التشوه أو المرض الوراثى، موضحًا أن المتحف استمر سنوات طويلة فى تلقى عينات الأجنة المشوهة، وأن آخر تلك العينات التى انضمت للمتحف تم التبرع بها قبل ما يقرب من ١٥ عامًا فقط، وكانت لجنين عمره ٨ شهور يطلق على حالته «حورية البحر»، وهو جنين ذو قدمين ملتصقتين بشكل جعله يشبه ذيل وزعانف حورية البحر الأسطورية.