الخميس 20 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محنة الغزالى ومنحته.. قراءة فى «غواص» ريم بسيونى

حرف

يبدو أن السعى الطموح للمطلق هو الجذر الأساسى لمشروع الكاتبة الروائية والأديبة ريم بسيونى الإبداعى والأدبى، باعتباره المحرك الرئيسى لكل تجربة جديدة، فالكاتبة لديها نشوة الإبحار فى التاريخ لتفسير الواقع، وقد زودتنا عبر خمسمائة صفحة، سبعة أبواب، وواحد وعشرين فصلًا فى روايتها الجديدة «الغواص.. أبوحامد الغزالى»، بعشرات الأمثلة عن أبرز اللحظات الفائقة التى عاشها الغزالى.

وتعد رواية الغوّاص نموذجًا بديعًا للعمل الفنى الكلاسيكى، والذى يستحق مكانة مضافة للرواية التاريخية وتفسيراتها المعاصرة، وتدعونا الكاتبة ريم بسيونى فى هذه الرواية العميقة إلى التأمل الهادئ حول قضايا البشر على مر العصور، فتوظف طاقتها الإبداعية الفذة على تدفقها السردى والتلقائى فى بعث روح الفكر المستنير، كما تعتمد على التحليل الفكرى المستفيض للمواقف والمذاهب، فلا تترك مساحة للقارئ كى يستخلص النتيجة بذكائه، أو يستثمر الوصول لها، بل توردها فى أشكال متعددة وسياقات مختلفة، وقد استخدمت تيمة الراوى العليم فى السرد لتبادل الحكى بين أبوحامد الغزالى وزوجته، لنقرأ وجهتى نظر مختلفتين فى الرؤية لأحداث حياته، وقد حددت أهدافه فى بعض اللفتات المبكرة التى أخضعته للاستبطان والاستبصار العميقين، ليشعّ دلالة طاغية على بقية المنابع التكوينية منها، وعلى سبيل المثال لا الحصر: «تجربة إغارة لصوص على القافلة، وأخذ حقيبته، لكنه لـم يستسلم، وهو ابن الرابعة عشرة ليسترد أوراقه»، دلالة على التحدى والإصرار للوصول إلى أمنياته مهما كانت بعيدة، وكان اللص هو المعصرى لتظل علاقة مطردة خفية ومطردة، يرسل له خنجرًا تحت الوسادة فى نفس الموعد من كل عام.

وهكذا مضت ريم بسيونى فى استثارة وتفعيل مجموعة من العلاقات الدالة، والتى تتمثل فى قدرتها على تشكيل الوعى الحى بمنظومة القيم المعنوية، المحركة للشخوص والأحداث، وتفعل ذلك من خلال منظور إنسانى رحب، يلتقط الخواص المميزة للتاريخ ويكثّف دلالته الرمزية، ويجعله نموذجًا فى التعبير عن المشاعر الإنسانية النبيلة، فتكفله بأسرة عبدالله الذى قتل.

وتتنوع المحاور الدلالية بشكل متسق، حيث نجد الخلافة العباسية فى العراق، والسلطان السلجوقى فى بلاد فارس، والخلافة الفاطمية فى مصر، حيث احتدم الصراع الدموى بين السنّة والشيعة، وكل طرف يكفر الآخر.

وقد هيمنت الفلسفة والمنطق على عقل وفكر الغزالى، فكان يشك ويستريب فى كل شىء، وهذا منهج الفيلسوف الفرنسى ديكارت بعد٥٣٠ سنة. 

كان الغزالى شافعى المذهب، وخطيبًا مفوهًا، يجادل عتاة الفكر، فيهزمهم وكأنه يحارب نصل سيف، تتنوع المحاور الدلالية بشكل متسق فى الطموح الشخصى، ليصل إلى أعلى منصب فقهى، وهو إمام خليفة بغداد، تلك التى تعادل وزير الخليفة أو أعلى فى الشأن، شاهد موقفًا ليصمت بعده يجلس بين تلاميذه ولا يستطيع الحديث، فاختل ميزان النفس ليبحث عن السر خلف الصمت، وكأن لديه معركة داخلية بين العقل والقلب، «الظاهر ثابت والباطن تمزق وارتبك، صاح بأعلى صوته يحدث أخاه الغائب: دنست الدنيا ثوبى يا أحمد، وضاع القلب، وارتبك العقل كأننى أفقد عقلى وكل ثقتى فيه لم أملك غير عقلى فلم يخنى اليوم ويتمرد».

تبدلت أحوال الغزالى، فاتبع قلبه ليواصل رحلة أكثر عمقًا وإدراكًا، ويؤسس للفكر الصوفى المنظم والشامل، والذى ترك أثرًا فى كل علماء الصوفية من بعده، وكأن المحن والأزمات الروحية صارت جزءًا فى رحلة النمو الإنسانى. 

لجأت الكاتبة ريم بسيونى لنص موازٍ للنص الأصلى، فرافقتنا قصة الأسد والغواص، وعنونة الفصول والأبواب بعبارات لأبى حامد الغزالى وكأنها مقدمة أو افتتاحية لبعض الفصول وهذا نص آخر متقاطع مع الرواية. 

هكذا كانت رواية الغواص رسالة صريحة وجيّاشة لتوازى العقل مع القلب شرعًا حتى تستقيم حياة الإنسان.