شبابيك.. أغنية الأحزان الكبرى

- كتبها مجدى نجيب من سجن طرة والنوافذ تحجزه عن العالم
تتجاوز الشبابيك حيزها المكانى، يكتب مجدى نجيب أغنية شبابيك من سجن طرة، تحجزه الشبابيك عن العالم، يجلس الآن فى ركن مظلم، ينيره القمر شاحبًا، حزينًا، يبدو قمرًا غبيًا مر فوق الحرب لم يركب له الأطفال خيلًا. يتمشى مجدى فى زنزانته، يسترجع أوجاع الماضى، يشاهد أشباحًا، يخطب جمال عبدالناصر، تُهزم مصر فى عام ١٩٦٧، يتخلى الوطن عنه، يشعر بأنه منبوذ فى العراء، يعانى الوحدة والحزن.
«واللى كان خايف عليك انتهى من بين إيديك»
ما يجسده الفقد فى أغنية «شبابيك»، هو فقد الأمل والحلم، هى حالة فجيعة، كأن العيون تبصر من وراء الشبابيك، ما لم تره قبل ذلك، حالة حنين لمصير يظن جيل مجدى نجيب أنه فقد بوصلته، هل هذا حقيقى؟
يتلاقى مجدى نجيب ومحمد منير وأحمد منيب فى حالة واحدة من الشتات، يحسّون بأنماط مختلفة، مشاعر الغربة والتهميش، سواء السياسى أو الفنى أو الوجودى، وما يفعله الهامش حقًا، هو شعور عميق بالانطواء عن العالم، المادى والمعنوى، بالسجن أو الحرية الزائفة.

مجدى نجيب ينتمى لجيل الستينيات، أى الجيل الذى عانى مرارة الهزيمة، شهد قهر كل الأحلام والطموح، تركت الهزيمة وموت جمال عبدالناصر المفاجئ، هذا الجيل يترنح، وبعد النصر واستعادة الأرض، وتحول مصر من اشتراكية عبدالناصر إلى رأسمالية السادات المستمرة إلى الآن، أظن أن هذا الجيل شعر داخله بالضياع، كأن هذا الجيل شعر بحالة من اليتم، سواء بموت عبدالناصر نفسه، أى الأب الروحى، أو موت العديد من الآباء فى هزيمة ٦٧ وحروب الاستنزاف إلى نصر أكتوبر المجيد.
وكان أحمد منيب يشعر طوال مشواره، بأن عليه رسالة عظمى، بالحديث عن وطن لم يعد موجودًا، فأحمد منيب من مواليد أوائل القرن العشرين فى النوبة، أى أنه مر بتجربة التهجير كاملة.
ويتشارك معه محمد منير فى هذه الحالة، لكن منير ولد فى أسوان، واغترابه هنا فى القاهرة وعدم الاعتراف به، كأن يحدث قلبه ألمًا وتمزقًا، كانت بالنسبة له القاهرة بلادًا غريبة، لا يعرف إذا كانت عدوة أم حبيبة، لا يشعر بأنها مكانه، يعانى اغترابًا أليمًا. كأن صوت محمد منير يجسد تعقيدًا إيذاء الغربة والصداقة والحب والحرية.
«سرقت عمرى من أحزانى سرقته لكن ما جانى ولا حد شاف فين مكانى ورا الشبابيك»
يمكننا أن نفهم الآن عبر التجربة الشخصية للثلاثة، ما يعنيه هذا البيت، فأحزانهم غائرة فى الروح، عظيمة الأثر فى القلب، تترك آثارها العطبة داخلهم، لكنهم مع ذلك يحاولون التحرر منها، ومع هذا يشعرون بأن عمرهم قد غاب عنهم، ويمكن أن نربط هذا مع شاعر آخر هو عبدالرحيم منصور من خلال بيت فى أغنية شجر الليمون: «وكل شىء بينسرق منى، العمر م الأيام، والضى م الننى». لكن هذا كلام آخر ذو شجون ليس مقامه الآن.
«أنا بعت الدموع الدموع والعمر طرحت جناينى فى الربيع الصبر»
كان التطلع للحرية، والنظر للأمام، ورمى الماضى وراءنا، نقطة تحول لا تزال حاضرة بقوة تعطى للأغنية حضورًا دائمًا، هى نقطة وسط، بين الماضى والحاضر والمستقبل، إن الصبر يقبع فى قلب الحاضر، يحيطه الانتظار الشاق والمؤلم.
يقول نجيب محفوظ فى رواية الحرافيش: «الانتظار محنة، فى الانتظار تتمزق أعضاء النفس. فى الانتظار يموت الزمن وهو يعى موته، والمستقبل يرتكز على مقدمات واضحة، ولكنه يحتمل نهايات متناقضة. فليعب كل ملهوف من قدح القلق ما شاء».
«وقولت أنا عاشق سقونى كتير المر ورا الشبابيك»
إنها رغبة نبيلة، رغبة مخلصة، رغبة عاشق، يضحى ويفدى ويتألم، لكنه فى مقابل ذلك كله، وجد نفسه أمام خذلان رهيب لا يحتمل، إنها معاناة وجودية يشعر بها كل فنان.
«دى عنيك شبابيك والدنيا كلها شبابيك»
إنه الشعور المرافق لروح الفنان وسط الحياة، إنه وسطهم وبعيد عنهم، يشعر بهم لكنه لا يستطيع الاندماج معهم، يراهم من بعيد ولا يستطيع أن يكون معهم بأى حال، إنها أوجاع آسنة تجمع بين أوجاع الاغتراب والحزن والعزلة.
هذه التجربة الذاتية الصادقة، التى تجلت بعدة أشكال، أعطت لصناعها تطابقًا بين الفنان والموضوع، بين التجربة الحياتية والفنية، هذا المزيج يضفى على «شبابيك» صفة الخلود، الذى يعبر عن استمرار المعاناة، عبر الأجيال والتجارب، كأن كل إنسان يعيش داخل سجنه، يرى العالم من وراء الشبابيك التى تمنعه من الحياة، تنقل «شبابيك» هذه الحالة من التجربة الفردية إلى الجيل إلى فكرة الجماعة، ما يزيدها تعبيرًا عن مشاركة شىء ما مفقود نحس به جميعًا فى أعماق أعماقنا.
أحسُّ أن أغنية «شبابيك» تسرى داخل الروح، تجسد حالة أنين، كما أنها أغنية وجودية، تنبع من تمزق هائل بين الإنسان ونفسه والآخر والحياة، كأنها فيض من المشاعر الحزينة تجمع بين الرقة والرهافة، لتبدو مثل مناجاة روحية لصوت سجين داخل نفسه، إنها أغنية من الأعماق، وتظل فى القلب دائمًا، مهما مر عليها الزمن. شبابيك الدنيا كلها شبابيك.