المال السايب فى المجلس الأعلى للثقافة.. 7 ملايين جنيه سنويًا «منح تفرغ» لكتابة أعمال لا تُطبع!

- تحولت إلى «سبوبة» لـ«مرتزقة الأدب» و«العاطلين» بداعى المرض وأسباب أخرى وهمية
- هناك كُتّاب حصلوا عليها حتى الممات.. وكانت تُمنح حتى لموظفى وزارة الثقافة
يقدم المجلس الأعلى للثقافة منحًا مالية للمبدعين المصريين فى مجالات الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والإنسانية سنويًا، تحت اسم منح التفرغ، بهدف دعمهم لإنتاج أعمال إبداعية جديدة. وبلغ عدد هذه المنح خلال العام الجارى 344 منحة، منها 221 تجديد و123 منحة جديدة.
ويُمنح المتفرغ مكافأة مالية شهرية تُقدر بحوالى 2000 جنيه شهريًا، أى ما يقترب من 700 ألف جنيه شهريًا ويزيد على 7 ملايين جنيه سنويًا للعدد الإجمالى، وذلك لمــدة عام مالى بداية من أول يوليو. وتتضمن شروط الحصول على منح التفرغ: تقديم خطة واضحة لمشروع التفرغ، بما يجعله جديرًا بالحصول على المنحة، وقابلًا للتنفيذ خلال مدة التفرغ، وألا يكون هذا المشروع حاصلًا على منحة أخرى أو جوائز، ولم يسبق نشره أو عرضه. ولا تُقبل الطلبات لمن سبق حصوله على منحة تفرغ لمدة 4 سنوات متصلة أو منفصلة. وبين الحين والآخر يطالب مجلس النواب بزيادة منح التفرغ الممنوحة من المجلس الأعلى للثقافة، بهدف دعم المبدعين والمفكرين فى مجالات الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية، وتمكينهم من التفرغ لأعمالهم الإبداعية، وتقديم مشروعاتهم الثقافية بشكل كامل، وهو ما لم يحدث حتى يومنا هذا. ليس هذا فحسب، بل إنه فى منتصف عام 2023، أعلنت الدكتورة إيمان نجم، رئيس الإدارة المركزية للشئون الأدبية والمسابقات المسئولة عن منح التفرغ فى المجلس الأعلى للثقافة، عن استبعاد عدد كبير من قائمة المستحقين لهذه المنح، ما أثار استياء الكثير من الأدباء والفنانين التشكيليين. وقالت رئيس الإدارة المركزية إن هذا القرار اتُخذ بعد تشكيل لجان تقييم، وأن المستبعدين من الحصول على المنح لم يقدموا جزءًا من أعمالهم خلال النصف الأول من العام، ما يعكس عدم جديتهم فى الحصول على المنحة. وقبل أيام، أعلن الدكتور أشرف العزازى، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، عن بدء تطبيق إجراءات جديدة لـ«ضبط آلية منح التفرغ»، بما يضمن «وصولها إلى من يستحقونها». فى الوقت نفسه، يتساءل الكثيرون عن الإبداعات الناتجة عن هذه المنح، وما إذا كانت تصدر أم لا، وهو ما تحاول «حرف» الإجابة عنه فى السطور التالية.
عيد عبدالحليم: أدباء تقاضوها 20 سنة متواصلة بالمخالفة للقانون

تمنى الشاعر والناقد عيد عبدالحليم، رئيس تحرير مجلة «أدب ونقد»، عودة منح التفرغ إلى سابق عهدها، منذ تأسيسها بستينيات القرن الماضى فى عهد الدكتور ثروت عكاشة، إلى جانب عودة إصدار سلسلة «إبداعات التفرغ»، التى لم تعد تصدر كما فى الماضى. وأضاف «عبدالحليم»، لـ«حرف»: «الأعمال الأدبية والكتابة المغايرة الصادرة عن مشروعات منح التفرغ استمرت حتى ثمانينيات القرن الماضى، لكن سرعان ما تحولت المسألة بعد ذلك إلى مجرد (سبوبة) لـ(مرتزقة الأدب) أو (المتعطلين عن العمل)، مرة بحجة المرض ومرات لأسباب أخرى وهمية».
وواصل: «أعرف بعض الأدباء حصلوا على منح التفرغ لأكثر من ٢٠ سنة متواصلة، رغم أن القانون المُنظم لها ينص على ألا تزيد فترة منحها عن ٤ سنوات متصلة أو منفصلة»، مُعقبًا: «هناك كُتاب حصلوا على هذه المنح حتى الممات».
وأكمل: «فى عهد وزير الثقافة الأسبق، فاروق حسنى، كانت القيمة المالية لمنح التفرغ كبيرة، وبعض من حصلوا عليها كانوا موظفين، ويحصلون من خلالها على مبالغ مالية تساوى رواتبهم»، متابعًا: «من يحصلون على منح التفرغ الآن أسماء غير معروفة على الساحة، ولم يقدموا شيئًا، وسط سيطرة الشللية والمحسوبية»، وفق تعبيره.

وتابع: «يأتى هذا رغم أن لوائح منح التفرغ تنص على توقيع المتقدم على إقرار بأنه لا يعمل فى الحكومة أو القطاع العام أو قطاع الأعمال أو القطاع الخاص، ولا يتقاضى أى مرتبات من جهة أخرى، وفى حال ثبت غير ذلك، يتم اتخاذ كل الإجراءات القانونية، ومنها الحرمان من منحة التفرغ طوال الحياة، ورد المبالغ المنصرفة، طبقًا لما ورد فى البند ١٨ من اللائحة المنظمة لهذه المنح».
وأكد الشاعر والناقد أن معظم الحاصلين على منح التفرغ لم يُسلموا مشروعاتهم بنهاية السنة، لتصبح هذه المنح عبئًا كبيرًا على وزارة الثقافة، وتتحول إلى «ترضية لكتّاب الأقاليم»، مشيرًا إلى أن المشاريع الثقافية الجيدة أصبحت تصدر عن خارج منح التفرغ.
وكشف «عبدالحليم» عن تقدمه بمقترح إلى الدكتور شاكر عبدالحميد، وقت توليه منصب وزارة الثقافة، يلزم الأدباء الذين يحصلون على منح تفرغ بأن يذهبوا إلى محافظاتهم لمدة سنة كاملة، ويتفاعلوا مع المبدعين هناك، ويستثمروا ما حصلوا عليه فى إقامة ندوات، وكتابة أعمالهم الإبداعية، حتى يحدث الاحتكاك الثقافى المطلوب، وتكون منحة التفرغ مثمرة والفائدة مستمرة. وشدد على ضرورة تقنين منح التفرغ، وتقليص عدد الحاصلين عليها، كأن تُقدم مثلًا لـ٢٠ شاعرًا و٢٠ روائيًا، مع تشكيل لجان قوية يمكنها تمييز الغث من السمين، وبالتالى منح هذه المنح إلى من يستحقها من الأدباء، مضيفًا: «منح التفرغ ليست جمعية خيرية، بل يجب حُسن إدارة المال الثقافى، وتسويقه واستثماره، خاصة مع قلته، من خلال إداريين ناجحين فى وزارة الثقافة، حتى يصل إلى مستحقيه».
وجدد طلبه بعودة سلسلة «إبداعات التفرغ»، على أن يتولى مسئوليتها أديب متحقق، إلى جانب عودة «مراسم الأقصر»، التى كان يذهب الفنان إليها ليرسم مشروعه، وتتحمل وزارة الثقافة إقامته لمدة سنة كاملة حتى إنجاز مشروعه الفنى، وأسهمت فى إنجاز أعمال فنية ما زلنا نفخر بها حتى اليوم، لفنانين كبار مثل عبدالهادى الجزار وسعيد العدوى ومحمد ناجى.
إيمان نجم: نطبع 4 إصدارات فقط من 150 مستفيدًا سنويًا

الختام مع المسئولة المباشرة عن موضوع هذا الملف، الدكتورة إيمان نجم، رئيس الإدارة المركزية للشئون الأدبية والمسابقات فى المجلس الأعلى للثقافة، والتى قالت إن المشروعات الخاصة بالكُتّاب الحاصلين على منح التفرغ تُطبع بشكل طبيعى، على ضوء لائحة منح التفرغ، التى تنص على تقديم هذه المنح للأدباء فى جميع المجالات الأدبية، مثل المسرح والشعر والرواية، إلى جانب العلوم الاجتماعية، علاوة على الفن التشكيلى.
وأضافت الدكتورة إيمان نجم: «يتقدم لمنح التفرغ حوالى ١٠٠٠ متقدم، يتم عرضهم على لجنة عليا مكونة من ١٧ أو ١٨ عضوًا من الأكاديميين، يعملون على تحديد الأعمال التى ترقى للحصول على منح التفرغ، وفقًا لمجموعة من الشروط الخاصة».
وأوضحت أن هذه الشروط تتضمن: أن يكون الأديب المتقدم للحصول على منحة التفرغ قد صدرت له ٣ إصدارات بأرقام إيداع، وأن ترقى فكرة مشروعه للمعايير الخاصة باللجان، إلى جانب تميزه على مستوى الكتابة بطبيعة الحال، وفقًا لرؤى اللجنة العليا سالفة الذكر.
وكشفت عن أن عدد الحاصلين على منح التفرغ تقلص إلى قرابة ١٥٠ مبدعًا فأقل، بسبب قلة الاعتمادات والمخصصات المالية، مضيفة: «من خلال لجنة مُصغرة من اللجنة العليا، يتم اختيار وإعداد ٤ أعمال للطباعة سنويًا، ضمن سلسلة (إبداعات التفرغ)، وهى السلسلة المنوطة بنشر إبداعات الحاصلين على منح التفرغ، منذ تدشينها عام ١٩٥٩ فى عهد الوزير الراحل ثروت عكاشة».
وشددت على أنه فى حال عدم تقديم الحاصل على منحة تفرغ نتاج مشروعه، خلال السنة المالية المُقدم فيها إليه هذه المنحة، يصدر قرار من اللجنة المعنية بإيقاف المنحة عنه.
وواصلت، فى تصريحاتها لـ«حرف»: «قلة الاعتمادات المالية الخاصة بإصدار سلسلة (إبداعات التفرغ)، خلال الـ٧ سنوات الأخيرة، فى إطار سياسات الترشيد، هو ما دفعنى كرئيس للإدارة المركزية للشئون الأدبية لإصدار قرار داخلى، ينص على أنه إذا كان المشروع يليق ويريد صاحب المشروع طباعته، يمكن أن يطبعه على حسابه الشخصى، مع وضع شعار المجلس الأعلى للثقافة على الإصدار»، مؤكدة أن هذا التصور «اختيارى» لمن يرغب فى ذلك.
وردًا على ما أثاره الروائى فتحى سليمان بشأن طلب الحاصلين على منح التفرغ تقاضى أموال أخرى من المجلس الأعلى للثقافة نظير طباعة مشروعاتهم الإبداعية، قالت الدكتورة إيمان نجم: «هذا أمر غير صحيح بالمرة».
وتطرقت إلى غياب إبداعات منح التفرغ، خاصة الأدبية، عن الخريطة الخاصة بالمسابقات والجوائز العربية والدولية، قائلة: «الإدارة المركزية للشئون الأدبية بدأت فى تقديم تلك الأعمال لكل الجوائز والمسابقات بالفعل، لكنها تحتاج إلى تسليط الضوء عليها إعلاميًا، من خلال الندوات والنقاشات التى يقيمها المجلس الأعلى للثقافة».
وأضافت: «المجلس الأعلى للثقافة ناقش مؤخرًا رواية (قنطرة إلى آباى) للكاتبة مرفت البربرى، التى كتبتها مستفيدة من منحة التفرغ، وتمت هذه المناقشة من قبل الدكتور شريف الجيار، أستاذ النقد والأدب المقارن عميد كلية الألسن السابق بجامعة بنى سويف، والدكتور أحمد صلاح هاشم، الكاتب الصحفى والناقد الأدبى».
وأكدت أن هذه الخطوة تأتى فى إطار حرص المجلس الأعلى للثقافة على إبراز أهم إصدارات المبدعين فى مجال الراوية من الحاصلين على منح التفرغ من قبل المجلس الأعلى للثقافة سنويًا، وإتاحة المجال لمناقشة هذه الإبداعات أمام الجمهور المهتم بالشان الأدبى، ومن ثم منحها المكانة التى تستحقها.
فتحى سليمان: الحاصلون عليها يطلبون أموالًا أخرى لطباعة مشروعاتهم

أكد الروائى فتحى سليمان توقف طباعة إنتاج المشروعات الخاصة بمنح التفرغ، سواء للحاصلين على منح تفرغ لمدة ٤ سنوات، أو فى كل سنة، وسواء كانت أعمالهم الأدبية روائية أو قصصية، مشيرًا إلى أن هذه الأعمال لم تعد تُطبع عن المجلس الأعلى للثقافة، والمكتب المسئول عن متابعتها فى المجلس لم يعد يؤدى دوره فى متابعتها.
وأضاف «سليمان»، فى حديثه لـ«حرف»: «بحثت فى هذا الأمر فاكتشفت أن عدم صدور إبداعات منح التفرغ لا علاقة له بتقاعس وزارة الثقافة أو المجلس الأعلى للثقافة، بل من الكُتّاب الحاصلين على المنح أنفسهم». وأوضح: «رغم حصول هؤلاء الكُتّاب على المكافآت المالية الشهرية بموجب منح التفرغ، يطلبون الحصول على مقابل مادى آخر من المجلس الأعلى للثقافة لطباعة أعمالهم، وهو ما يتعارض مع شروط الحصول على المنحة، التى تنص على تقديم مشروعاتهم للمجلس فى نهاية كل عام دون تقاضى مقابل مادى نظير طباعتها وصدورها».
السيد نجم: نقل مقر الإدارة المعنية وراء «الخلل» فى الشهور الأخيرة

فى المقابل، عرض الأديب الدكتور السيد نجم، أحد أعضاء لجنة اختيار المتقدمين لمنح التفرغ فى المجلس الأعلى للثقافة، وجهة نظر مغايرة فيما يتعلق بانتظام سير العمل فى منح التفرغ، والانتقادات الموجهة لمنظومة منحها وإصدار الأعمال المتعلقة بها.
وقال «نجم»: «ما حدث خلال الشهور الستة الأخيرة، من نقل مقر إدارة التفرغ بوزارة الثقافة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، أربك سير العمل فى هذه المنح»، مشيرًا إلى وجود موظف يتابع الكُتّاب كل شهر، ويحصل على مشروعات الحاصلين على منح التفرغ.
واعتبر أن «إدارة التفرغ قبل ذلك كانت تشهد حالة من الانتظام الكبير فى عملها، وتحتاج حاليًا إلى وقت حتى يُعاد ترتيبها من جديد»، مؤكدًا أنه لم يتعرض لأى ضغوط من قبل لقبول أو رفض اسم بعينه من بين المتقدمين للحصول على منح التفرغ بالمجلس الأعلى للثقافة. واعتبر أن هذه المنح تعكس قدرًا كبيرًا من التعاطف مع الأدباء، لأنها كانت مقررة للفنانين التشكيليين فقط، خلال فترة وزير الثقافة الأسبق، فاروق حسنى، ثم أصبحت تُمنَح للكُتّاب أيضًا، فى خطوة تؤكد دعم وزارة الثقافة المبدعين ومشروعاتهم بمختلف المجالات.