أدب الرغبة.. لماذا لا يحق للمرأة أن تكتب عن الجسد والشهوة؟

- النساء حين يكتبن عن الجسد يُنظر إليهن كمذنبات لا كمبدعات بينما الرجل يُمنح حق التعرّى النفسى والأيروسى
- الرجال فى رواياتنا يقذفون شهوتهم على الصفحات بلا مساءلة ويدعونها «تجليًا فنيًا».. أما الكاتبة فيكفى أن تكتب عن قبلة... لتُجلَد بالقيم
أنا لا أطلب أكثر من حقّى فى أن أكتب.
أن أرسم رغبتى لا بدم الغواية، بل بحبر الحياة.
أن أخلع العباءة عن لسانى، وأتركه يهمس ويئن ويشهق، دون أن يُجلَد على الورق.
لكن... كيف تجرؤ أنثى على قول «أشتهى»؟
كيف تكتب، وهى محاطة بجدران من العيب، وحرّاس من الذكورة، وأسلاك شائكة من الدين والعرف؟
صرختى هذه لا تُسمع، لأنها ليست صادرة عن حنجرة رجل.
لكننى أصرخ. أصرخ بالقلم، أصرخ بالجسد، أصرخ بالحبر.
وإن لم أُسمَع، فسأكتب. لأننى لا أملك سلاحًا آخر.

عن طريق أحد الأصدقاء- كاتب لا يُستهان به- قرأت له منشورًا حادًّا فى إحدى وسائل التواصل، كان فيه يشجب الهجوم الذى تعرّضت له روايته الأخيرة. هاجموه لأن بها بعض الألفاظ الصريحة، وبعض الجُمل التى تدلّ على أن الكاتب... كائنٌ حى! كان يرى أن هؤلاء المهاجمين ضيّقو الأفق، لا يقرأون بل يتصيّدون. ضمن حديثه ذكر رواية «المسرات والأوجاع» والهجوم العنيف الذى وُجّه لها لحظة صدورها.
فبحسى الصحفى، وبفضولى المهنى، تتبعت الرواية. قرأتها. وأعجبتنى.
بطل الرواية توفيق يعانى أزمة وجودية مركبة، تتأرجح بين الخواء، والرغبة، والعجز، والاغتراب، لكنه، رغم كل شىء، يظلّ مشغولًا أولًا وأخيرًا... بتفريغ شهوته. الكتاب لا يُخفى ذلك. بل على العكس: يدعونا لنكون شهودًا على فراشه، وأنينه، وارتعاشه، منذ سن الثامنة عشرة حتى شيخوخته، بما فى ذلك لحظة مشبوهة أقرب إلى «اغتصاب زوجى». وأخرى اغتصاب لبنت كانت وقتها فى علاقة مع من كان يعتبره توفيق ابنًا له!
أعجبتنى الرواية، لكننى تساءلت: لو كانت امرأة من كتبت هذا، أكان المجتمع سيسمح لها بهذا الانكشاف؟
الرواية التى كتبها فؤاد التكرلى، الروائى العراقى البارز، لم تكن مجرد تمرين سردى فى الحميمية، بل اعتراف وجودى مكثف. صَدرت عام ١٩٨٨، وتحولت سريعًا إلى عمل إشكالى بسبب جرأته. التكرلى كان قاضيًا سابقًا، رجل دولة، لا تليق به الجرأة كما يرون. لكنه كتبها. وواجه النقد ثم صمتت الألسن. لم تُصادر، لم تُمنع، بل كُرّمت لاحقًا كجزء من الأدب العربى الحديث.
لكن، نحن لا نحاكم الشهوة، بل نحاكم من يعترف بها. والنساء، للأسف، حين يكتبن عن الجسد، يُنظر إليهن كمذنبات لا كمبدعات. الرجل يُمنح حق التعرّى النفسى والأيروسى، بينما تُجَرّم المرأة إن أرادت فقط أن تخلع حجاب اللغة.

علم النفس يُخبرنا أن القمع الجنسى يولّد القلق، وأن التعبير عنه- ولو رمزيًا- ضرورة للسلام الداخلى. فلماذا يُسمح للرجل أن يُفرغ مشاعره وغرائزه أدبيًا، وتُمنع المرأة؟ لأن المجتمعات الأبوية لا تخاف من الجنس، بل من جسد المرأة وهو يتكلم.
اجتماعيًا، الرجل يُنظر إليه كمُفرغ للشهوة، والمرأة كحارس لها. هذه الازدواجية تُرسَّخ عبر الدين، والإعلام، والأدب. بل يُكافَأ الرجل إن كتب بجرأة، ويُفضَح اسم المرأة.
أدبيًا،
حين كتبت ليلى بعلبكى فى «أنا أحيا» عن جسدها، أُحرقت كتبها وطُردت من المدارس، ووقفت أمام المحاكم. هل لأنها كتبت فاحشة؟ لا. لأنها تجرأت على الجهر بكونها كائنة تتنفس، تتألم، وتشتهى.
حين كتبت نوال السعداوى عن تجربتها فى الختان، وعن النساء وجسدهن فى «المرأة والجنس»، لم يُقرأ الكتاب بوصفه شهادة، بل كجريمة. ولم تُناقَش فصوله، بل طُعن فى شرف كاتبته.
ورغم أن السعداوى كانت طبيبة وعالمة، لا هاوية إثارة، فإنها لم تُحصَّن بلقبها، بل جُرِّدت منه، لأنها اقتربت من المحرَّم الأكبر: الجسد الأنثوى بوصفه ذاتًا، لا موضوعًا.

لم تكتب نوال السعداوى عن الرغبة بوصفها زينة الحياة، بل بوصفها سؤالًا معلقًا فوق رءوس النساء كالسيف. لا تطرق باب الجسد بل تخلعه، وتدخل بلا استئذان، لتعيد تعريف علاقة المرأة بجسدها، لا كما أرادها المجتمع، بل كما هى: حقيقية، بشرية، ملغومة بالخرافة والموروث، ومصادرة منذ الميلاد.
تبدأ السعداوى كتابها بحكاية تنوء برمزيتها: فتاة شابة جاءت إلى عيادتها صباحًا، يرافقها رجل عابس الملامح، لا تخفى عليه علامات الغضب. الهدف؟ التأكد من عذريتها، بعد ليلة قضياها سويًا. كانت ليلة زفاف، لكنها لم تخلّف الدليل القاطع المنتظر: الدم. دم الشرف، دم البراءة، دم البينة التى اعتاد أن يطلبها الرجل- والمجتمع- على باب غرفة النوم.
وبعد فحصها، تكتشف السعداوى أن الفتاة لا تزال عذراء، وأن غشاء بكارتها من النوع السميك الذى لا يتمزق إلا عند أول ولادة. لكن الحقيقة العلمية لم تهدّئ الزوج الغاضب، لأنه لم يأتِ بحثًا عن حقيقة، بل عن «علامة»، عن برهان أحمق على امتلاك جسد لم يلمسه سواه.
هذه الحكاية، رغم بساطتها، كانت شرارة الفصل الأول فى كتاب يكشف كيف تحول جسد المرأة إلى وثيقة اتهام، إلى مساحة متنازع عليها بين الجهل والشرف، بين البيولوجيا والموروث. تُسائل السعداوى المفاهيم السائدة حول العذرية، وتكشف أن الجهل لا يعنى غياب المعرفة، بل حضور المعرفة الخاطئة- وهذا، فى رأيها، هو أعتى أنواع الجهل.
ترفض نوال أن تظل العذرية شبحًا يُطارد النساء. وتوضح، بلغة الطبيب والعالِم، أن غشاء البكارة ليس بصمة هوية، ولا معيار شرف، وأنه يختلف فى الشكل والتكوين من فتاة لأخرى، وأنه قد لا يتمزق فى أول علاقة جنسية، كما أنه قد يزول لأسباب لا علاقة لها بالجنس إطلاقًا.
تسوق السعداوى أمثلة من واقع ممارستها الطبية: فتيات حُكم عليهن بالعار، لأن أجسادهن لم تنزف فى ليلة الدخلة، وأخريات تم تجريحهن نفسيًا وجسديًا لأن الجهل حاكمٌ والقانون صامت. وتدعم أقوالها بإحصائيات طبية، وتجارب واقعية، شاهدة على مأساة المرأة حين يُسلَّم جسدها لمشرحة التقاليد قبل أن يُعترف به كجسد إنسانى.
فى «المرأة والجنس»، لا تكتب السعداوى من عَلٍ، بل من قلب النار. هى لا تروى نظريات، بل شهادات. تضع إصبعها فى الجرح، لا لتؤلمه، بل لتقول: هذا الجسد ليس حرامًا، وليس عورة، وليس لعنة؛ إنه بيت، وبيت لا ينبغى لأحد أن يقتحمه دون إذن.

هذا الكتاب، بكل ما فيه من فضحٍ للمسكوت عنه، لم يكن مجرد وثيقة طبية، بل صرخة أخلاقية وفكرية وإنسانية. صرخة دفعت السعداوى ثمنها باهظًا: طُردت، هوجمت، هُدِّدت، نُعتت بأبشع الصفات، وحوصر اسمها. لكنها كتبت. لأن السكوت، كما تقول، هو القتل الحقيقى.
وهكذا، حين ننظر إلى روايات الرجال عن رغباتهم، ثم نقرأ كتب نساء كالسعداوى، ندرك أن المأساة ليست فى الجسد، بل فى السياق. فـ«المسرات والأوجاع» حظيت بالتقدير رغم جرأتها، لأن الكاتب رجل. أما «المرأة والجنس»، فحُورب لأنه كُتب من رحم التجربة، بقلم امرأة، وبصوت امرأة، وبوجع امرأة.
فمن يُسمح له بالجوع؟ ومن يُسمح له أن يئن؟ فى أدب الرغبة، كما فى الطب، كما فى الشارع... الإجابة لا تزال غير متساوية. والمؤلم، أن أكثر من يدفع الثمن، هنّ النساء اللواتى تجرأن على القول: أنا أيضًا إنسان... من لحمٍ، ودم، وشهوة، وكرامة.
الرجال فى رواياتنا يقذفون شهوتهم على الصفحات بلا مساءلة، ويدعونها «تجليًا فنيًا». أما الكاتبة، فيكفى أن تكتب عن قبلة... لتُجلَد بالقيم. كيف؟ لأن الأدب فى نظر بعضهم هو مِلك للرجال، مثل الفراش، مثل القرارات، مثل الميكروفونات.
يا سادة، نحن فى عالم يرى فى قلم المرأة إثمًا. نحن مجتمع ينظر إلى أحمر الشفاه كخطر استراتيجى، ويرى ضحكة المرأة كتمرد سياسى، ويظن الرغبة الأنثوية مشروع انقلاب.
وربما، حين تصبح آهات المرأة المكتوبة مجرد تعبير إنسانى لا جريمة أخلاقية، يمكن أن نكتب جميعًا رواية حقيقية... عن المسرات، دون الأوجاع.
وحتى يحين ذلك، دعونا نكتب، لا لأن الأمر يعبر عنا، بل لأننا إن لم نفعل، سننهار من ثقل الصمت، ومن عبء ما لا يُقال.
أنا لا أطلب أكثر من أن أكتب... لا لأغرى، بل لأشهد. لن أطلب مباركتكم لأرسم شوقى. لن أُخفى مفرداتى تحت الأغطية. أكتب كى أقول إننى كنت هنا، وإن لى جسدًا لا يُعتقل، ولا يُقايض على الشرف، ولا يُغلق عليه الباب بخرقة اسمها العيب.
أكتب لأن من يُسمح له بالجوع، يُسمح له أن يكتب عنه. ومن يُسمح له أن يئن، يُسمح له أن يزفر أنينه على الورق.