الحمصانى صيّاد الكلاب.. فصل من رواية مجاهد العزب الجديدة

- عاش رضوان الأعور «الحمصانى الخامس» بين جماعته ذليلًا منكسرًا رغم ما لديه من ثراء ومُلك
- مع الوقت واتساع مُلك الحمصانى الأول تعددت زوجاته وتشعَّبت مصاهراته وعلاقاته بين القبائل وعِلية القوم أصحاب النفوذ
فى الصباح أذهب إلى المقهى والأوراق فى انتظار مجيئه، يحط أكياسه المنتفخة تحت ساقَيه بلا تحية، واعتدل مُنحيًا الجريدة المطوية جانبًا.
يصُب قهوته وينظر إلىّ لبرهة، وأنا أحتمله بفارغ الصبر، وابتسامات هشَّة متبادَلة.
أخيرًا..
سحَب كرسيًا بجدية وثقة، ثم جلس يطالع أوراقى والمحيط وسقف المقهى، وانطلق بغير سؤال أين وقف.
قال:
زاد مُلك الحمصانى الأول مع الوقت، واتسع نفوذه، فكانت له أرض وعيون ماء وحدائق مثمرة بأطرافها نخيل ممتد، وبحيرة عظيمة مجاورة، طرد أهلها من قبْل، وسُميت باسمه بعد بناء حجرى «حمام الحمصانى» لا تزال قاعدته وحفرة ماؤه باقية، وقصور بُليت حوائطها وانهارت سقوفها حتى بان هيكلها، تسكنها الغربان والوطاويط!
جمع أهله وصحبته ومن انتمى إليهم زورًا وساعدوه، إضافة إلى جواريه وما مَلكت يمينه وزوجِه العاقر، يصنع بهم لَبِنَةً أولى لقبيلة كبرى شديدة البأس، ذاع صيتها وذكرتها كُتب التاريخ بتحولاته من عصر إلى عصر.
قال بعض الوشاة أصحاب الضمائر الخربة من الكُتَّاب:
إن الحمصانى الأب عديم الأهل والنسَب، ولا أصدقهم فى ذلك أيضًا، فالحقيقة الأقرب، بَعد فحْص وبحْث طويل ومشقة، هى كما وَرَدَت فى كتاب «تاريخ اللا تاريخ» لابن المريد، حيث ذكَر نصًّا أن الحمصانى الأب كان ضمن مَن جاءوا مع صاحب الأسوار، فردًا وحيدًا منعزلًا، يُنسب إليهم من قديم، سرعان ما وجَد له عملًا نافعًا مع غيره من الأشداء حراس البوابات، وامرأة بلا سند، وطأها، لم يذكرها أحد، وليس لها وجود فى أى كتاب من كُتب التاريخ، كانت سِرَّ ترْكه الحراسة وأعمال الجباية والسيطرة إلى التجارة لبعض الوقت، ثم التحول إلى دكان منْزَوٍ فقير المحتوى، يبيع المحمصات للتسلية، هى أم الحمصانى الأول، كما وَرَد فى سِجل إحصاء المواليد تحت اسم «أَمَة الله» وفقط!
مات الحمصانى الأب، ودُفن خارج الأسوار قبل بلوغ ابنه الحمصانى الأول عامه الرابع، فأكملت «أَمَة الله» رعايته وحدها بكفالة بيت المال وهِبَات مَن يَهَب.
أغلقت دكانهم قليل الحيلة، إلى أن جاء موعده مع الجيش الجرار وصاحبه، وكان ما كان مع زعماء القبائل والشيوخ المعدومين.
كان الحمصانى الأول ابن أَمَة الله قوى البنية، فظَّ القلب نهمًا للثراء السريع والامتلاك كأبيه، فعرَف النهب والسرقة والاحتيال، وامتهن القتل بأجْر، وخبَر دروب العصابات والهجَّامة وأفعالهم، وأماكن تجمعاتهم وموارد أرزاقهم من رقاب العباد، فكان ذلك مقدمة الانخراط بالقادمين المَرَدة وقاداتهم، ودعمًا لطوائفهم الدخيلة، فاستعانوا به ورافقوه، أجزلوا له العطايا والمِنَح والرُّتَب القافزة على ما فيها من لؤم ومداهنة، سرعان ما أصبح قائدًا لفيلق كامل من الجند البصَّاصة، وأعمال العتمة وما تحت الأرض، ثم أميرًا للشرطة بعدها بقليل، وذلك قبْل موت أُمه وموكب وداعها المهيب بعام واحد.

قالوا:
حزن الحمصانى الأول لموتها حزنًا شديدًا مبالَغًا فيه، فاعتزل الناس لشهور، لم يقصِّر فى واجباته ومَهامه المكلَّف بها، والإشراف الكامل بنفسه على جميع البوابات ونوبات الحراسة وخزائن القوت، ومراجعة الضرائب والجبايات وكشوف الجزية بدِقة، لم يمنعه حزنه كذلك من الزواج بامرأة ثانية؛ أملًا فى وَلَد من صُلبه، يرِثُه ويحمل رايته من بَعده.
اقترح عليه أحدهم الاختيار من بين نساء الأمراء الجدد، ذلك لخصوبتهن المفرطة، وابيضاض وجوههن، ولين أجسادهن، وحُسن معشرهن، واستقبالهن الوطء بلا قيد أو ممانعة؛ ففعل، وفى أيام عُرسه - التى طال أمدها - قسَّم يومه إلى أقسام متساوية، قِسم للعراك وزوجه العاقر، وقِسم للمَهام والمتابعة، وقِسم للحزن الموجِع والفقد، ورابع للبضَّة التى اختارها، وتلك كتابة صفراء لا ألتفت إليها.
قالت التى غادرتنى:
«العدل من شِيَم الكرام»
هو قول الحمقى على أى حال، فما العدل إلا صورة من صور الاتزان العقلى المبنى على مدرَك معرفى ويقين، والكرم من أعمال العاطفة، نسبية متغيرة، تقع تحت ضغط ظَرْف زمانى أو مكانى، واستطاعة ربما لا تدوم، هكذا قالوا فى التعريفات، وإليك النموذج:
أبى مثلًا لم يكن كريمًا، ولكننى أقسِم بأنه كان عادلًا مفرطًا فى العدل إلى أن مات، تزوَّج واحدة فقط؛ فأنجب منها أربعة عشر ولدًا ذكورًا وبنتَين، وعجَز عن تسميهتم، فكرَّر أسماءهم تباعًا، مرفقة بصفة أو حادثة تميِّزها، لا يخلط بينها حسْب التاريخ والواقعة التى صادفت الميلاد، فعندك، إبراهيم الباشا وإبراهيم فرح، أحمد عرابى وأحمد طلبة، سعد زغلول وسعد الحلو، محمد فريد ومحمد نجيب، جمال المُلك وجمال عبدالناصر، رمضان كريم ورمضان الفقى، حُسن الختام توبة وحسن عطية الله، والتوأم الأخير مفيد ومفيدة وقت ألغيت الأسماء المركبة، ألم يكن ذلك عدلًا؟!
تلك القرية الظالم أهلها لم تعرف العدل، ولا كانوا كرامًا أينما ذهبت بهم المقادير، إلا فى الموت والدفن والحزن، وامتلاك النساء، ونسْج الأساطير، وادعاء الفحولة، والخوض بغير بيِّنة، ففى كل ذلك فقط كانوا كرامًا بلا حدود.
رُزق الحمصانى الأول بوَلد من زيجته المختارة، وهو فى نهاية عقده الثالث، ففرح فرحًا عظيمًا، وأقام له الولائم والزينات لشهور، لا يقربها سائل أو محروم، كلها لأصحاب السطوة المقرَّبين، وتولَّاه بالتعليم والتدريب منذ نعومة أظفاره، مسخِّرًا له من بطانته رجالًا أشداء قتَلة، يعلِّمونه السلبَ والنهب وركوب الخيل وضرْب السيوف وقصَّ الرقاب، إضافة إلى الهجامة وقطْع الأرزاق؛ فكان ابنَ أبيه.
ذكر ابن المريد فى كتابه، أنه مع الوقت واتساع مُلك الحمصانى الأول؛ تعددت زوجاته، وتشعَّبت مصاهراته وعلاقاته بين القبائل وعِلية القوم أصحاب النفوذ، وزادت خِلفته إناثًا وذُكرانًا بما لا يُحصى لهم عدد، وذلك قبْل بلوغه نهاية العَقد الثامن، أمَّا عن بقية ما له فى الدنيا، أو كيف مات، فلم يذْكرها أحد من الرواة وكتَّاب التاريخ فى زمنه، ولا جاءت على لسان أحد من أهله وبَنيه، ربما تجيء فى مقدِم الزمان على لسان مؤرِّخ أعمى.

قالوا: لما مات الحمصانى الثانى قتيلًا، ترك أموالًا وأراضى لا تغيب عنها الشمس، وقناطيرَ مقنطرة من ذهب وفضة، وفصوص أحجار لأحفاده من بعده وأحفادهم فى عالَم الغيب، وبعد سنين طالت أو قصرت لا يعلمها إلا علَّام الغيوب، جاء الحمصانى الثالث.
قيل، والعهدة على الرواة:
شبَّ الحمصانى الثالث تحت وطأة الروايات الملفَّقة عن أمه وأبيه وسيرتهما الأولى، خصوصًا فى بلاط قصورهم وغُرف نومهم، والنساء تلوك أفعال النساء: «كانت تراوده عن نفسه وتقصد مضجعه ليلًا» فأرَّقته السيرة ورأس أبيه الملقاة فى أتون الجمر المستعِر، يُغشى عليه هلعًا حين تذكُّرها، وترتعد فرائصه أينما كان، حتى احتار الطب فى مداواته، تُصارعه نفسه بين عالمَين متناقضَين؛ فيغيب عن الدنيا لأيام، ثم يعود لينتقم.
قالوا: «ابن التى».. هكذا أشاعوا عنه وسط العامة والدهماء، وذكرته كُتب التاريخ على حاله فى أكثر من موضع، بهيئته الهاشة وبشاعة دمويته مع الأقرباء والإخوة، ونساء أبيه، وبنات حاشيته، فما بالك بالبقية من العوام؟!
اختفى ذِكر الحمصانى وأهله من كُتب التاريخ، ومن على ألسنة الرواة لمدة طويلة، قالوا مائة سنة كاملة، ومنهم من عَدَّها بالمئات، حتى جاءت سيرة الحمصانى الرابع على استحياء فى ذيل خبر عن رحلة زواج قطر الندى؛ بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، إلى المنصور.
ذاك الخليفة العباسى فى بغداد، كصاحب للخيل والبغال والحمير المحمَّلة بالمتاع والهدايا، والقائم على أعمال الحراسة والتأمين إلى أن تصل.
لا أخفى اندهاشى وقت عرفت، وكان علىّ مراجعة تلك الفترة بكاملها، والوقوف على حقيقة من يكون الرجُل؟
هالنى ما وصلت إليه من بَعد بحْث وتدقيق، ومعرفة ما كان، فالحمصانى الرابع ليس من نسْل الحمصانى، ذاك الذى رفعه التاريخ ومُلئت صفحاته بالحكايات والأساطير الملفَّقة، متخذينه جدًا أصيلًا للعائلة، وكلهم منذ البداية - كما تعلم - لصوص!
جدها الأكبر هو ذا صاحب الخيل والبغال، يعود نَسَبه إلى جماعة أخرى من لصوص وقطَّاع طريق، مطاريد أتراك وفدوا من كل حدب وصوب إبان الخلافة العباسية، أقاموا على طرف، يسرقون الألقاب التى عرفناها لصعوبة نُطق أسمائهم، واستعان بخدماتهم ابن طولون وهم لها أهل!
قيل: كان العباسيون ميَّالون إلى الاستعانة بجند أتراك فى حُكم الولايات الممتدة على اتساعها، فلمَّا تولَّى الخليفة المعتز مقاليد حُكمه؛ اقتطع أرضَنا لقائد تركى كسول - كعادتهم جميعًا - يُدعى باكباك، وقد جُبِل هؤلاء الولاة على البقاء فى عاصمة الخلافة، وإرسال من ينوب عنهم، على أن يجمع الأموال والخرَاج من أهلها، ويرسلها إليه حيث يقيم، يُدعَى لهم بأسمائهم من فوق المنابر، كما يُدعى للخليفة سواء بسواء، فكان من حظنا نائبه أحمد بن طولون.
تركستانى الأصل.. أبوه طولون كان ضمن الجزية التى أرسِلت من بُخارى إلى البلاط العباسى، وقد كان عبدًا مملوكًا لنوح بن أسد والى بخارى، ثم أعتقه ليهديه إلى الخليفة المأمون.
مع الوقت دفعته مواهبه المحكَمة إلى رئاسة حرس الخليفة.
قالوا: وُلد أحمد فى بغداد، ونشأ فى سامراء، تلك المدينة التى أنشأها المعتصم، وتلقَّى علومه على يد الأتراك، ومَن شابَه أباه؛ فما ظَلم، وفى خلافة المعتز، كان باكباك هذا ذا شأن عظيم، وزوجًا لأم أحمد بَعد وفاة أبيه، والأَولى فالأَولى!
دَعْكَ من عينى وانتبه للتفاصيل..
جاء أحمد بن طولون إلينا نائبًا عن باكباك، فوجد ابن المدبِّر العامل على الخرَاج أكثر منه نفوذًا وسطوة لدى باكباك، وللمال أفاعيل، فقرر الإطاحة به مستعينًا بمَن عرفهم، لكن يشاء حظه أن أمَر الخليفة المهتدى بضرب عنق باكباك لأسباب لم يذكرها أحد، وتعيين يارجوخ واليًا بديلًا عنه، وابن طولون باقٍ كما هو فى مكانه، فزاد من سلطانه وأُطلقت يده على كل ربوعنا فى خلافة المعتمد.
ولمَ لا وابن طولون زوج لابنة يارجوخ؟!
سبحان العاطى..
قالوا: عَلا شأن الحمصانى الرابع، وامتلك الجَاه والسلطان مقرَّبًا من أحمد بن طولون وكبيرًا لحراسه، معتمدًا بأمره فوق عصابة مَهام شرقًا وغربًا وجنوبًا؛ لقَص رقاب العباد وتدمير القُرى والزروع، ليبلغ ما تَم حرْقه- فى أقل من عام واحد- المائة ألف نخلة فى الجنوب وحده.
دانت له البقاع جميعها، وأمِن فى حُكمه، ثم مرض ومات، فتولَّى من بَعده ابنه خمارويه، ولما كان الابن أشد مكرًا ودهاءً من أبيه، اختار التقرب إلى الخليفة المعتضد فى بغداد، من بَعد قطيعة، وأهداه ابنته الجميلة أسماء، الملقَّبة بقطر الندى، وإبعاد الحمصانى لبعض الوقت فى رحلة طويلة؛ تقرُّبًا لأهلنا الذين كرهوه، فأوفده معها لحراستها والهدايا، ولم يعُد.
قُتل الحمصانى الرابع، ولا يُعرف كيف قُتل، أو أين دُفن؟!
وقفت كُتب التاريخ عن ذِكره، مخلِّفًا وراءه ستة أبناء، خمسة منهم ذكور وأنثى واحدة، وأملاكًا لا تُعد ولا تُحصى، وأراضى يرمح بين جنباتها الخيل، لا أول لها من آخِر فى مكان خصيب يُسمى حوض الجاموس، كان مرتعًا وساحة صيد لجاموس برى أيام الفيض الأول، استعمرته قبيلة العزب قبْل جفافه، وشحَّ ماؤه، ثم هجروه وساحوا فى البلاد، لا يُعرف لهم خبر بعد موت العزب الكبير، ظَل على حاله البائر بلا زرع ولا ماء أو جاموس، وضمَّه الحمصانى الرابع إلى حيازاته بحد السيف، لا رقيب، وبعد مقتله غير المعروف سببه أو مكان إلقاء جثَّته، آلت مِلكية الحوض بكاملها إلى ابنه الأكبر رضوان الأعور، الملقَّب بالحمصانى الخامس، طارِد إخوته، فرحَل عنه البقية متفرِّقين فى الربوع.
استقل محجوب بمطحنة الغلال، فى الحد الفاصل بين قريتنا القديمة ومجرى الماء الوحيد الباقى، وهرب ماهر المجدوب إلى بلاد بعيدة، يُقال لها الناحية، واستقر مقامه، وتزوجت وافية من غريب لترحل معه إلى حيث يقيم فى الوجْه القِبلى، واعتكف أحسن كخادم لجامع ابن طولون، لا يخرُج منه إلا فيما ندَر، وساح جلال فى القُرى والنجوع بصفَّارته خلْف غجرية، يُحيى الموالد إلى غير رجعة.
عاش رضوان الأعور، «الحمصانى الخامس»، بين جماعته ذليلًا منكسرًا، رغم ما لديه من ثراء ومُلك، بسبب مقتل أبيه المفاجئ، وعدم معرفته كيف ومتى وأين قُتل؟! فانخرط باندفاع ينفى عن نفسه الوضاعة والحسرة، منشغلًا كل الوقت بأعمال القتل والنهب وفرْض النفوذ، وذاع صيته ليصل إلى قادة جند خمارويه.
توقَّف عن الكلام، كمَن يتذكر شيئًا قد فاته، ثم التفت إلى أكياسه المنتفخة فى مكانها وابتسم، لينتصب عوده بعد رفْعها، وينصرف صامتًا كعادته،
ألملم الأوراق، وأدفع ما علىّ من حساب، وأمضى بطيئًا منشغِل الرأس بما يرويه من تاريخٍ ووقائعَ، يحزننى عدم التفرغ الكامل لمتابعته واندفاعه فى إنهاء اليوم عند حدٍّ معيَّن كذلك، وكأنه يريدها فى حلقات.