مملكة الخواتم.. السر فى مصر القديمة: مضاد حسد وجالب بركة وحافظة سُم أحيانًا!

- المصرى القديم زيّن أدواته وأوانيه وصنع خواتم من العاج والخشب والأحجار
- خاتم «الكف» فى إصبع المرأة معناه إيمانها بالحسد والسحر أو أنها محصنة ضدهما
منذ فجر التاريخ، لم يكن الخاتم زينة فحسب، بل مرآة لحضارات ومعانٍ متشابكة؛ جمع بين قدسية النبوة وسلطة الملوك، وبين اعتقادات الناس الشعبية فى الحماية والرزق، فظل رمزًا يتنقل من محراب المعبد إلى صخب الأسواق، حاملًا حكايات لا تنتهى.

وفى مصر، حيث تتشابك الخرافة بالواقع، والرمز بالتاريخ، تظل الخواتم أكثر من مجرد معدن أو حجر كريم، فهى وعاء لذاكرة شعبية عابرة للعصور، ومرآة لفنون وصناعات تقليدية رسّخت حضورها حتى يومنا هذا.

حول هذه العلاقة المعقدة بين الخاتم والدين والأسطورة والتاريخ، التقت «حرف» الدكتور رامى قاسم، جامع التراث والباحث فى التاريخ، فى حوار يكشف فيه عن أسرار هذه القطع الصغيرة التى تختزن فى داخلها عوالم من الرموز والحكايات.

أسرار وطلاسم
يروى الدكتور رامى قاسم، أن الأنبياء اتفقوا فى عناصر شكلية معينة، من أبرزها العمامة والعصا واللحية والخاتم، مشيرًا إلى أن هذه الرموز لم تكن مجرد مظاهر، بل كانت تحمل دلالات روحية وسلطوية عميقة.

ويقول «قاسم»: «حين استقر النبى محمد ﷺ فى المدينة المنورة، كان كل فعل يصدر عنه محط أنظار الصحابة، يقلدونه فيه اتباعًا وامتثالًا. وارتدى فى بداية الأمر خاتمًا من ذهب، فيه حجر من العقيق أُهدى إليه، لكن الوحى نزل بتحريم الذهب على الرجال لما يسببه من ضرر صحى، فخلع النبى خاتمه وألقاه بعيدًا دون أن يعلن الحكم صراحة، فالتزم الصحابة بفعله وخلعوا خواتمهم الذهبية، لترسخ بذلك سنة عملية لا قولية».

ويضيف «قاسم» أن العلم الحديث أثبت لاحقًا أن ارتداء الرجل للذهب قد يسبب خللًا فى جينات الذكورة، على عكس المرأة التى يعزز الذهب جيناتها الأنثوية، ما يضفى بعدًا علميًا على هذا التشريع.

ويكشف عن أن النبى ﷺ اتخذ بعد ذلك خاتمًا من فضة، فيه حجر من عقيق، وكان يغيّر موضعه بين اليدين اليمنى واليسرى، ويرتديه أحيانًا بحيث يكون الحجر إلى أعلى وأحيانًا إلى أسفل، حيث أباح الإسلام للرجل ارتداء الخواتم فى أصابع الخنصر والبنصر والإبهام، بينما أُبيح للمرأة ارتداؤها فى جميع الأصابع. وسلط الضوء على البعد الأسطورى للخاتم، فيقول إن هذا الرمز الصغير ارتبط بالحكايات الشعبية فى مختلف الثقافات، من خاتم النبى سليمان وخواتم المصريين القدماء إلى خاتم العز بن عبدالسلام، مرورًا بملوك تونس وحتى فى عهد هارون الرشيد.

بين الدين والجمال
يرى الدكتور رامى قاسم أن الخاتم اليوم لم يعد مجرد زينة، بل بات رمزًا جماليًا فى يد الرجل والمرأة على السواء، مشيرًا إلى أن قواعد الإتيكيت تمنح الرجل حرية ارتداء ١٣ قطعة من الإكسسوارات، من بينها الخاتم، باعتباره جزءًا من اهتمامه بمظهره، لكنه حذر من الإفراط فى ارتداء الخواتم، معتبرًا أن ذلك قد يعكس نقصًا داخليًا أو رغبة فى لفت الانتباه.

ويضيف أن للخاتم مكانة مزدوجة فى الوجدان الشعبى، فهو زينة للزهو والجمال، وفى الوقت ذاته رمز محفوف بالأساطير والحكايات، ومن زمن الأنبياء إلى عصرنا الحديث، ظل شاهدًا على التقاء الدين بالثقافة، والحقيقة بالأسطورة، والواقع بالخيال.

وينبّه إلى انتشار تجارة واسعة فى العقود الأخيرة تحت مسمى «علوم الطاقة»، تروّج لفكرة أن الأحجار الكريمة تمد الإنسان بطاقة إيجابية أو تحميه من السلبية، موضحًا أن هذه الادعاءات لا تستند إلى أساس علمى، فالأحجار مواد صلبة لا تمتلك محركات أو إلكترونات نشطة تؤثر فى الجسد البشرى.

ويكشف عن أن الحجر قد يتأثر بالبيئة المحيطة، لكنه لا يؤثر فيها، مشيرًا إلى أن انكسار بعض الأحجار عند التعرض للحسد أو الطاقة السلبية لا يعنى أنها تولّد طاقة، بل يدل على قابليتها للتأثر، لا التأثير.

ويشير إلى أن تاريخ الخواتم فى مصر ضارب فى القدم، ويرجع إلى حضارات ما قبل التاريخ مثل نقادة الكبرى والصغرى، والبدارى، والمعالى، والمعصرة، مبينًا أن المصرى القديم كان ميالًا إلى الزينة والجمال، فزيّن أدواته وأوانيه، وصنع خواتم من العاج والخشب والأحجار، ولم تكن مجرد زينة، بل حملت رموزًا ودلالات شخصية، مثل النجم والسهم والجبل والماء، والتى كانت تُستخدم كعلامات تميز كل فرد، وكأنها شعار أو «لوجو» خاص به.

ويكشف أن الرجال والنساء فى الحضارة المصرية القديمة تفنّنوا فى ارتداء الحلى، فظهرت الأقراط والقلائد والخواتم التى زخرت بالرموز الحيوانية، مثل الصقر رمز حدة البصر، والتمساح رمز القوة، والجعران رمز التجدد والحماية، موضحًا أن المصرى القديم لم يكن يعبد هذه الرموز، بل استخدمها كإشارات ودلالات مرتبطة بالطبيعة والحياة.

ويبين أن الخواتم عبر التاريخ لم تكن وسيلة للحماية أو مصدرًا للطاقة الخارقة كما يشيع فى بعض الثقافات والأساطير الشعبية، بل كانت فى جوهرها رمزًا اجتماعيًا يعبّر عن المكانة والهوية، وزينة جمالية تضيف بُعدًا من الأناقة والخصوصية لصاحبها.

لغة الجسد
يرى «قاسم» أن الخاتم لم يكن يومًا مجرد زينة تُرتدى، بل لعب دورًا خفيًا فى فنون الإقناع ولغة الجسد، فالبائع الماهر، كما يقول، قد يتعمد ارتداء خاتم لافت ليجذب انتباه المشترى ويمنحه انطباعًا عن قوة شخصيته أو مكانته الاجتماعية، أما المحتال، فيلجأ إلى خاتم ذهبى يوهم الناس بثرائه، أو خاتم غريب الشكل يعزز صورة امتلاكه قوى خفية.

كما يرى أن الخاتم بالنسبة للنساء لم يكن مجرد زينة، بل وسيلة للتعبير عن الذات وإيصال الرسائل، فالمرأة التى ترتدى خاتمًا على شكل «كف شعبى»، على سبيل المثال، قد ترغب فى إعلان إيمانها بالحسد والسحر، أو أنها محصنة ضدهما، أو ببساطة أنها تنتمى إلى الفكر الشعبى وتؤمن بمعتقداته.

ويتعمق فى الحديث عن الموروث الشعبى، حيث ارتبطت بعض الأحجار بالخواتم الغامضة، واعتُقد أنها مساكن للجن، فإذا استخدم الإنسان حجرًا معينًا وظهرت منه ظواهر غريبة، كمعرفة ما لم يُشهد أو تجنب الأخطار قبل وقوعها، اعتُبر ذلك دليلًا على وجود «خدمة» تسكن الخاتم.

ويحكى عن خواتم نادرة كانت تحمل «خدمة» من أصحابها القدامى الذين رحلوا عن الدنيا، فإذا وصلت إلى يد شخص آخر، اعتُبرت كنزًا حقيقيًا، وهذه الاعتقادات -كما يقول- رسّخت فى أذهان المصريين فكرة البحث عن الخاتم النادر الذى يحقق لهم ما يشبه المعجزات.

الأدراج السرية
يؤمن «قاسم» أن الخواتم عبر العصور لم تكن مجرد حُلى تُرتدى للزينة، بل حملت رمزية خاصة وقيمة تتجاوز المادة المصنوعة منها. فقد نجد خاتمًا من النحاس البسيط أغلى بكثير من خاتم مصنوع من الألماس، ليس لأن مادته أثمن، بل لأنه يرتبط بزمان محدد أو يحمل حجرًا نادرًا أو نقشًا فريدًا يمنحه قيمة تاريخية وروحية.

ويشير إلى أن هناك أحجارًا عادية جدًا، لكن ندرتها أو ما تحمله من صور ورموز يجعلها تُباع بملايين الدولارات، مثل الحجر السلطانى الذى يعثر عليه فى الصحارى، أو الأحجار التى تتجسد عليها صور طبيعية للكعبة أو كلمات مثل «الله» و«محمد»، وهذه الأحجار، ليست ماسًا ولا ياقوتًا ولا زفيرًا، لكنها تتجاوز قيمتها المادية بالرمزية والمعنى.

ويؤكد أن القيمة الحقيقية للخواتم لا تُقاس بالوزن أو بالجرام، بل بما تحمله من دلالات: الحقبة الزمنية، والندرة، والرمزية، والشكل، والأهمية الشخصية، قائلًا «يبحث شخص عن خاتم جده المتوفى، وحين يجده يدفع فيه مئات الآلاف لأنه يحمل قيمة وجدانية لا تُقدّر بالمال».

ويحذر من أن تجارة الخواتم لم تخلُ من الاستغلال، فكثير من الباعة يستغلون روحانية الأماكن المقدسة كالمساجد والمقامات، فيربطون بين قدسية المكان والخاتم الذى يعرضونه، فيرفعون سعره أضعافًا، كما يلجأ بعضهم إلى حيل الإيحاء، مثل عرض خاتم معين على أنه غير معروض للبيع، فيثير فضول المشترى ويدفعه للإصرار على اقتنائه بأى ثمن.

عن الجانب التاريخى، يوضح أن صناعة الخواتم مرت بمراحل مميزة، ففى الفترة الفرعونية، تميزت الخواتم بتقنيات ميكانيكية تسمح بطيّها أو تعليقها فى قلادة أو سلسلة لحين الاستخدام، أما فى الفترة اليونانية والرومانية، فاعتمدت على أحجار نادرة وحملت صورًا لملوك وقادة مثل الإسكندر الأكبر وكليوباترا، للتبرك والتفاخر، وفى الفترة العثمانية وما تلاها فى مصر، برزت الخواتم الثقيلة المصنوعة من النحاس المقوّى، لتناسب العمال وأصحاب المجهود الشاق، وكانت تُرصّع بحجارة كبيرة لا تنكسر بسهولة.

ويضيف أن هناك نوعًا خاصًا من الخواتم عُرف باسم «خواتم الأدراج السرية»، صُممت بجيوب صغيرة لحفظ السُم، سواء لاستعماله فى الانتحار أو فى دسّه للآخرين، كما استخدمت أيضًا لحمل التعاويذ والأحجبة.

ويشير إلى الخواتم ذات البعد الحضارى، مثل تلك التى تحمل رموز حضارة بلاد الرافدين «عشتار وعشتروش»، والمطعّمة بقطع من الغابات المتحجرة، ما يعكس تواصلًا ثقافيًا وفنيًا بين الحضارات القديمة.
