الجمعة 26 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

«حَمام الغلابة يا بتنجان».. فى مديح «بيض الشيطان» الذى «لا يملّه عاقل»!

حرف

- هل يعى أصحاب ترند «وصدرك اللى ولع من البتنجان؟!» أنهم يرتكبون كبيرة من الكبائر؟

أشعر بـ«غصّة فى القلب»، كلما قرأت أحدهم يكتب، فى إطار «الترند» الرائج منذ فترة: «طب وصدر أبوكى (تتغير حسب السياق) اللى ولع من البتنجان؟!».

لا يخفى على أى منكم ما فى هذه العبارة من تقليل وتسفيه وتقليل من الباذنجان، تلك الفاكهة التى نعاملها معاملة الخضار، ذات اللون الأورجوانى أو البنفسجى الذى نعامله معاملة الأسود، وغيرها من ألوان أخرى مثل الأبيض وخلافه لبعض الأنواع.

عبارة تحمل ظلمًا بَيِّنًا، إجحافًا يترك فى القلب «نكتة سوداء»... عبارة تقلل من كثير، وتهون من عظيم، وتقبح من جميل.

يا لمصيبتنا الكبرى!

الباذنجان يُسخَر منه؟!

قاتلكم الله 

أولئك المستهزئون بالباذنجان، هل ذاقوه مقليًا؟ هل شعروا بحلاوته وهو يذوب فى الفم بملمسه الهلامى؟!

هل وضعوا عليه لَحْسة ثُوم من فَص مدقوق بعناية، مع كَمّون مطحون، ثم عصروا عليه نصف ليمونة على الجانبين؟! 

أيذوق بشرى هذا ويسخر منه؟!

ذات صباح أو مساء، هل أكلوا «المسقعة»، تلك الأكلة التى طابت وطاب نعيمها؟! 

أقسم غير حانث، لو ذاقوها بـ«اللحم المفروم»، لأنساهم الباذنجان كل لحم وشحم وطيب ومُستطاب من الطعام!

هل ذاقوه «مُخلَّلًا»؟!

هل ذابت براعم التذوق لديهم مع «باذنجانة» منحها الماء والملح والخل ذلك اللون الأورجوانى المميز للباذنجان المخلل السادة؟! 

هل سحرتهم يومًا تلك «الدَقة» المصرية الخالصة التى تُضاف إلى باذنجان مقلى فتصنع منه نوعًا خاصًا من مخلل الباذنجان على عربات الفول العامرة؟!

قاتلكم الله! ألم تمر على أنوفكم رائحة باذنجان محشى من قبل؟

ألم تشاهده عيونكم «مدفوسًا» فى الأرز «البسمتى» إلى جانب قطع الدجاج أو اللحم، فيما تسمونه «المقلوبة» وأسميه «المحبوبة»؟

ألم تقلوا اللحم المفروم مع البصل والكزبرة، ثم تحشوه داخل الباذنجان، إلى جانب خليط من الثوم والشبت وصلصة الطماطم والملح والفلفل، ثم تضعوه- أعزكم الله- فى «حلة» مع صلصة طماطم وماء وتوابل، وتتركوه ينضج على نار هادئة، حتى يخرج البخار إيذانًا بتذوق أجمل «مدفونة».

برؤيتكم إياه وشمكم لرائحته فى كل هذه الأكلات، هل عدتم كما كنتم بعدها؟!

لا سامحكم الله ولا غفر لكم!

هل أردتم لأى أكلة أنها «تروح لحتة تانية»، ووضعتم عليها الباذنجان، ولم يفعل؟!

أجربتموه مع شاطر ومشطور وبينهما «برجر»؟

أضفتموه إلى رغيف طعمية فى نصف رغيف بلدى، مع طحينة السمسم أو بدون؟

أوضعتموه فى رغيف طعمية وفول فى ذلك المُسمَى «سكلانس»؟!

أمزجتموه مع المكرونة واللبن واللحم المفروم فى صينية تلك الأكلة الجبارة المتجبرة المُسماة «بشاميل»؟!

هل شاهدتم أكلة يسميها الأول «باذنجان»، وثانى «بدنجان»، وثالث «بتنجان»، ورابع «برنجان»، بكل هذه الموسيقى المُنسابة من الكلمة؟! 

لو شاهدتمونا، فى «الكتيبة ٣٦ مشاة مُقِل» (كتيبة السد العالى)، ونحن نمشى على أطراف أصابعنا نحو «الميز» للظفر بـ«بتنجانة» أو أكثر، بعد يوم عصيب، وبعيدًا عن أعين «عساكر الأمن»، لما عبتم فيه وجعلتموه مادة لنكاتكم البائخة!

لو كنتم بصحبتنا يومها، وأنا أتفلسف على من معى فى السرقة وأقول لهم: «حَمام الغلابة يا بتنجان»، لما فعلتم فعلتكم التى فعلتم! 

تسخرون من «البتنجان»؟!

يا لمصيبتنا الكبرى! 

هل هذا آخر الزمان ونهاية الدنيا؟!!

بيض الشيطان

عندما بدأت فى القراءة عن تاريخ الباذنجان، عرفت أنه كان طعامًا للأمراء والنبلاء، قبل أن يعرف طريقه إلى موائد العامة بعد ذلك.

كل المراجع تقريبًا تُجمِع على أن الباذنجان أصله آسيوى، وتحديدًا الهند. وعبر «طريق الحرير» وإيران، بدأت رحلته من القارة الصفراء إلى الشرق الأوسط، وتحديدًا إلى بغداد. كان ذلك فى القرنين الثامن والتاسع، أى خلال العصر العباسى.

أشاح العرب بوجوههم عن الباذنجان فى البداية، واعتبروه ضارًا وسامًا، وبلغ خوفهم منه أن وصفوه بـ«بيض الشيطان» أو «بيض الجان»، نسبة إلى أسطورة فارسية أطلقت عليه هذا الاسم.

«بيض الجان» هذه تحورت فيما بعد إلى بـ«باضنجان» بالنطق العراقى، وصولًا إلى «باظنجان»، قبل أن تُقلَب الظاء إلى ذال ويصل الاسم إلى محطته الأخيرة.

وبحسب مراجع عدة يحتويها التراث العربى، ظل الباذنجان فى «القائمة السوداء» للعرب والمسلمين وسكان منطقة المتوسط، من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر.

اعتقد الممتنعون عن تناول الباذنجان أنه يسبب الكثير من الأمراض وصولًا إلى السرطان، ويرتبط بالاكتئاب والشؤم والسحر الأسود. وأجزموا بأنه يُسبب الجنون، وهو ما انتقل من المنطقة العربية إلى أوروبا، وتحديدًا بين الإيطاليين.

وبحسب ما ذكره أطباء عرب قدامى مشهورون، كان سائدًا آنذاك أن «بيض الشيطان» هذا «يُسبب الجنون ويدفع آكله إلى الجنون»، فضلًا عن «بثور فى الفم، والتهاب فى الأوعية الدموية»، معتبرين أن «لونه مثل بطن العقرب ومذاقه مثل لدغته!».

وارتبط اسم الباذنجان بالجنون فى مصر على وجه التحديد، بل ذهب المصريون إلى أن «الجنون ينتشر فى المناطق التى يُزرع فيها الباذنجان، خاصة فى فصل الصيف، حتى لم يؤكل»!

ومما يروى فى الأثر عن ذلك، أن أبى الحارث جُمَّين قال فى الباذنجان: «لا أكله، له لون العقرب وشبه المحجمة». فقيل له: «رأيناك تأكلهُ عند فلان!» فأجاب: «كان ميتةً وأنا مضطر!».

و«المحجمة» ذلك القمع الزجاجى المُستخدَم فى الحجامة. 

البوران خديجة

الغريب أن العلم الحديث يؤيد خوف العرب الأوائل هذا ويدعمه. فثمار بعض أنواع الباذنجان تحتوى على مادة تسمى «السولانين»، يمكن أن ترتفع بشكل كبير فى الأجزاء الخضراء «النيئة» أو المتضررة، أو تلك التى لم يكتمل نضجها بعد.

وصول كمية كبيرة من هذه المادة إلى الجسم تصيب الجهاز الهضمى باضطرابات مثل الغثيان والقىء والإسهال وآلام فى البطن، إلى جانب أعراض عصبية مثل الصداع والدوخة والارتباك والهلوسة. وربما من هنا أتى الربط بين الباذنجان والجنون.

لكن اطمئنوا، الأنواع الحديثة لم تعد بنفس مكونات الأصل القديم، وذلك بفضل تقنيات الإنسان، والتطور الطبيعى والانتقائى من قبل الرحمن.

يُقال إن القطيعة بين العرب والباذنجان لهذه الأسباب استمرت حتى قُدم كأكلة فى حفل زفاف سابع الخلفاء العباسيين المأمون على البوران «وهو لقب» خديجة بنت الحسن بن سهل.

ولإزالة المرار الموجود فى الثمار، بادرت البوران خديجة بنقعها فى ماء البحر، ثم صفته من هذا الماء، وشطفته لإزالة الملح، قبل أن تقدمه فى أكلة خاصة أعجبت كل الحضور فى حفل الزفاف سالف الذكر، الذى يُضرب به المثل فى الفخامة والترف. ولعل هذه الأكلة هى جدة الأكلة الحديثة الموجودة حاليًا فى بلاد الشام وأفغانستان باسم «بورانى الباذنجان».

المهم، منذ ذلك اليوم انتشرت زراعة الباذنجان فى العراق، ومنه إلى بقية الدول العربية، خاصة فى الشام ومصر والأندلس، ومنها إلى أوروبا كلها.

الأصل العربى فى انتشار الباذنجان فى أوروبا لا يخفى على أى عاقل، فالكلمة بالإنجليزية المُستخدمة حتى الآن للدلالة على هذه الفاكهة هو «Eggplant»، التى يُمكن ترجمتها حرفيًا إلى «نبات البيض»، القريب من الاسم العربى - أو قُل الشرقى إن أردت الدقة-: «بيض الجان». ولا يقتصر الأمر على الإنجليز، فالباذنجان لدى أهل إسبانيا يُسمى «برينخينا»، وعند سكان البرتغال «برنجيلا»، وكلاهما مشتق من الكلمة العربية.

رجل الباذنجان

«هناك حكاية تُروى عن الملك فاروق، الذى كان ملكًا على مصر لمن لا يعرف. وسواء كانت الحكاية حقيقية أم لا فإنها طريفة، وتستحق أن تُحكى»..

بهذه العبارة قدم الكاتب الكبير الراحل وحيد حامد أحد مقالاته القديمة، والذى حمل اسم «رَجُل الباذنجان».

يقول «اللاعب مع الكبار»، حاكيًا بأسلوبه الممتع الماتع تلك الحكاية عن الملك فاروق:

كان باشوات مصر فى زمانه يتسابقون فى إقامة الولائم الفاخرة لجلالته تقربًا وافتخارًا وطلبًا للرضا السامى، وذات مرة تناول الملك قطعة باذنجان «مخلل» من المقبلات، وأبدى إعجابه بهذا الباذنجان.

على الفور تطوع أحد الباشوات بالمديح والثناء، وقال الكثير فى شأن الباذنجان، فهو سهل الهضم، غنى بالحديد والمنجنيز، وينظم ضغط الدم، ويحمى الحمض النووى، ويقوى المناعة، ويعمل على خفض الوزن، ويرفع مستوى القدرة الجنسية.

ولمجرد أن الملك أبدى إعجابه بالباذنجان صارت الموائد لا تخلو منه، بعد أن تفنن الطهاة فى حشوه بالمكسرات مع الثوم والفلفل، وأصبح يطارد الملك على كل مائدة وفى كل مأدبة حتى ضاق به وأصبح لا يطيق رؤيته وأراد الخلاص منه بشكل نهائى وقاطع.

وذات مرة، عندما وجد الباذنجان يتصدر المائدة، تناول قطعة وأبدى استياءه من طعمها ولونها ورائحتها. وفورًا تم رفع الباذنجان من على المائدة.

هنا اندفع نفس الشخص، الذى أسرف فى المديح من قبل، إلى ذم هذا الطعام قائلًا: «الحق معك يا مولاى، إنه طعام رخيص يؤلم المعدة، ويرفع ضغط الدم، ويضعف المناعة، ويصيب الجسم بالفتور... و... و...».

التفت إليه الملك وذكر له قوله السابق فى شأن الباذنجان. بُهت الباشا المنافق، لكنه هتف قائلًا: «أنا فى خدمة مولاى أقول ما يرضيه ولست فى خدمة الباذنجان»!.

هنا انتهت الحكاية على لسان الكاتب الكبير، الذى قدم بها لمقال عن النفاق والمنافقين و«رجال الباذنجان» فى كل مكان وزمان.

مع اختلافات قليلة، القصة نفسها تُروى عن الأمير بشير الشهابى، أحد أشهر الأمراء فى تاريخ لبنان وبلاد الشام عمومًا، الذى قال لخادمه يومًا: «نفسى تشتهى أكلة باذنجان».

قال الخادم على الفور: 

الباذنجان؟! بارك الله فى الباذنجان، هو سيد المأكولات، لحم بلا شحم، سمك بلا حسك (شوك)، يؤكل مقليًا ومشويًا ومحشوًا ومخللًا ومكدوسًا.

فقال الأمير:

لكنى أكلت منه قبل أيام فنالنى منه ألم فى معدتى.

فقال الخادم، أيضًا على الفور:

الباذنجان؟! لعنة الله على الباذنجان، فإنه ثقيل غليظ نفّاخ أسود الوجه

فقال الأمير:

«ويحك»، تمدح الشىء وتذمه فى وقت واحد؟!

رد الخادم:

يا مولاى أنا خادم للأمير، ولست خادمًا للباذنجان، إذا قال الأمير «نعم»، قلت له نعم، وإذا قال «لا»، قلت له لا!

ولا حول ولا قوة إلا بالله

لا يمله عاقل

تراثنا العربى، وكعادته، لم يترك شيئًا إلا وتندر به، وجعله مادة للنثر والشعر والحكى وليالى السهر والسمر.. فما بالك لو كان هذا الشىء بقيمة الباذنجان؟!

ورد فى كتاب «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» مثل، لصاحبه الحسين بن محمد أبوالقاسم الأصفهانى، أنّ الشبلى «أبوبكر الشبلى» كان يمر على جسر، فى يوم مطير عاصف، فقيل له: «إلى أين؟» فقال: «بلغنى أنّ فلانًا يعيب الباذنجان، فأريد أن أمرّ عليه فأخاصمه».

ويروى أن الخليفة العباسى هارون الواثق بالله كان مفتونًا بحب الباذنجان، حتى إنه يأكل ٤٠ باذنجانة فى أكلة واحدة!

فى يوم من الأيام، أرسل إليه والده، وكان «الواثق بالله» آنذاك ولى العهد، رسولًا على عجلة ليُبلغهُ بأن معظم الجدب والقحط فى العراق كان من أكل الباذنجان، وبسبب السوداء «الاكتئاب» المتوالدة من أكله، قائلًا له «دع عنك أكل الباذنجان واحفظ بصرك، فمتى رأيت خليفةً أعمى؟!»

فما كان من ولى العهد إلا أن قال للرسول، مُتمسِكًا بأكل الباذنجان ولو أصابه العمى: «قل لأمير المؤمنين إنّى تصدّقت بعينى على الباذنجان».

كذلك كان الخليفة المأمون مولعًا بالباذنجان، حتى إنه يستدل على عقل المرء بحبه له.

أما جعفر الصادق فكان يقول: «لو علم الحمار الذى يحمل الباذنجان ما حُمل عليه، لافتخر على سائر الحُمر»!. 

المقولة نفسها نُسبت أيضًا إلى القاضى أبى عمرو: «لو علم الثور الذى يحمل الباذنجان أنّه عليه، تاه على الثيران». 

فيما قال يحيى بن مُعين: «لا يمل الباذنجان عاقل».

وورد فى كتاب «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» لـ«الأصفهانى» الآبيات التالية فى مدح الباذنجان:

سود تروّت بالدّهان فأبدلت بتوريدها لونًا من النّار أكلفا «شديد الحمرة»

كأفواه زنج تبصر الجلد أسودا وتبصر إن فرّت «قطعت» لجينا «فضة» مؤلفا

كخلق حبيب خاف إكثار حاسد فأظهر صرما «فراقًا» وهو يعتقد الوفا

وقال آخر طالبًا عدم تأخير أكل لذيذ كالباذنجان مخافة موت:

كُرة من المسك الذكى تضمّنت من تحت مسكٍ لؤلؤًا مقشورا

خُذ الحقائق واترك ما تزوّره فالحق متبع والزور مهجورا

ولا تؤخّر لذيذ أكل خوف ردى فلا تجد فى الموت تقديمًا ولا تأخيرا

وفى آبيات أخرى قيل عن وليمة ومحتواها:

وفيها من الباذنج جسم كأنّه لصفرته منها اصفرار العقائق

لها ريح كافور ومِسك وعنبر وطعم كطعم الشهد فى فم ذائق

فها هى عندى فى الطعام إذا أتت ألذ وأشهى من نفيس العلائق

طعم الزقوم!

فى المقابل، كان هناك كارهون للباذنجان فى التراث العربى من بين هؤلاء أعرابى سُئِل: «ما تقول فى الباذنجان؟» فأجاب: لونهُ لون بطون العقارب وأذنابهُ كأذناب المحاجم، وطعمه طعم الزقوم! 

قيل له: إنّه يُحشى باللحم ويُقلى بالزيت فيكون طيبًا ردّ رافضًا: لو حُشى بالتقوى، وقُلى بالمغفرة، وطبختهُ الحور العين، وحملته الملائكة، ما كان إلّا بغيضى أبد الدهر!

فيما أجاب إعرابى آخر عن نفس السؤال بقوله:

إن شققته مريم وطبخته سارة وقدّمته فاطمة، لا رغبة لى فيه!

أما أبوالحارث جُمين فكان لا يأكل الباذنجان، فكايده محمد بن يحيى، وقدم له كل أنواع الباذنجان، فأقبل على الخبز والملح فقط، ولما عطش قال: يا غلام، اسقنى ماءً ليس فيه باذنجان!