المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عماد فؤاد يكتب: عن هشاشة المغفرة

زياة الاضرحة
زياة الاضرحة

القاتلُ الذى عادَ للتوِّ من أزقَّةِ المدينةْ

بسكِّينٍ تَقْطُرُ دمًا وهْو يلهثُ من الخوفْ

لم يكن إلَّا جارَنا

الذى تخيَّلَ نفسَهُ

يذبحُ زوجَ حبيبتِهْ

والصَّبيَّةُ التى طوَّحَتْها الضَّحكاتُ

فوقَ درَّاجتِها الهوائيَّةِ طَوالَ ظهيرةِ اليومِ

لم تكن إلَّا زوجةَ الحدَّادِ

التى تمنَّتْ أن تكون مَحلَّ ابنتِها

صحيحٌ أنَّنى أعمى

وأنَّنى لا أرى ما يحدثُ حولى

لكنّ الله ابتلانى لسببٍ ما

برؤية ما يحلمُ به النَّاسُ؛

الشَّابُ الذى خرجَ مُسرعًا من البناية المقابلةْ

لم يكن غيرَ هذا الجالسَ خلفَنا

مُعلِّقًا عينيه منذ ساعتينِ

على شُرفةِ الطَّابقِ الأخيرْ

والرَّجلُ ذو المهابةِ

وهْو يهبطُ من سيَّارتِهِ الجديدةْ

ليس إلَّا الكهلَ المُكوَّمَ

فى ساحة الميدانْ

حتَّى الطَّائرة الورقيَّة

التى ارتفعتْ فوقَ أسطحِ البيوتِ قبل قليلْ

لم تكن غيرَ روحِ الصَّبىِ

الذى يُمسكُ بخيطِها

على الأرضْ.

لم آتِ إليكَ لأشكو

ولا أريدُ منكَ حَلًّا لمِحْنتى

لكن.. أليستْ هناكَ طريقةٌ ما

لجعلى أعمى

.. أقصدُ

أعمى تمامًا

بحيثُ لا أرى شيئًا

لا النَّاسَ..

ولا أحلامَهُمْ!

الشَّجرةُ العجوزُ على الرَّابيَّة

ابنةُ السِّنينَ الطُّوال

كم طيرًا مرَّ من هنا..

وكم عُشًّا

بنته المناقير الصَّغيرة؟

كم بيضة أفرخت

وكم بيضة

فسدت؟

الشَّجرة العجوز

باقية فى مكانها

وحده الظِّلّ

يغيِّر أمكنته

بدأب.

حين أينعت النَّبتة بُرْعمًا فى السَّاق

أكَلتْه الدُّودة

وحين انتفخت الدُّودة

أكَلَها العنكبوت

انتهى العنكبوت من بناء بيته

فدخلت الخادمة

وأزالت الخيوط الحريريَّة

بضربة منْفضة

فى الصَّباح

أينعت النَّبتة بُرْعمًا جديدًا

كانت دودة أخرى

تصعد السَّاق ببطء

والخادمة تستيقظ للتوِّ من نومها

فيما العنكبوت

فى مخبئه

ينتظر.

كانت ترتدى الحجابَ

وزيًّا واسعًا

ينتهى ببنطالٍ منفوخٍ

رأيتُها ثلاث مرَّاتٍ

المرَّةُ الأولى: كانت سكرانةً فى السَّابعةِ صباحًا

تعبرُ الطَّريقَ، وهى ترتعشُ وسطَ السّيَّاراتِ

والمرَّةُ الثَّانيةُ: كانت تبكى فى الليلِ

أمامَ بابِ مسجدٍ

آخرُ مرَّةٍ رأيتُها:

كانت فى سيَّارةِ إسعافٍ

جسمُها على المحفَّةْ

ورأسُها

معلّقةٌ من شعرها

على حافَّةِ

الشُّرفةْ.

أستطيعُ أن أتفهَّمَ تردُّدَ المُشرَّدِ

وأنتَ تمُدَّ إليه يدكَ

بصَدَقةْ

الرّعشةُ التى تضربُ أصابعَهُ

وهْى تتحرَّكُ فى الفراغ الرَّهيفِ

بينهُ وبينكْ

نظرةُ عينيه المُنكَّستينِ

وهْو يتحسَّسُ ملمسَ الورقةِ النَّقديَّةِ

التى صارت بكامِلها

بين أصابعهْ

أستطيعُ حتَّى

أن أتفهَّمَ الموقفَ

لو أنَّهُ

لم يتناولْها

من يدكْ

وأنَّ عينيهِ

بدلًا من الانكسار فى الأرضِ

صارتا مُحدِّقتينِ فى وجهكَ

كما لو كانَ

سيصفعُكْ

الشَّعرةُ الفارقةُ تكمنُ هناكْ

فى حركةِ أصابعكَ

وهْى تُفلتُ الورقةْ

ثمَّة انفراجةٌ ما

لا بدّ أن تحدثَ

كى تهطلَ منها الرَّحمةُ

على الأرض.

طيِّبونَ..

ونعرفُ قيمةَ الغضبِ

الذى يسرى كالنَّملِ

تحتَ الجلودِ

نعرفُ الحقدَ

الذى يكنَّه عاملٌ

لصاحبِ المصنعِ

ونعرفُ الأسى

الذى يربِّيه يتيمٌ فى قلبهِ

حِيالَ دفءٍ – يتخيَّلَه –

فى صدورِ الأمَّهاتِ

نعرفُ الغلَّ

الذى يشدُّ أذنَ طفلٍ

لأنَّه ابنُ عدوِّنا

ونعرف القسوة

التى تمنع الماء عن هرِّةٍ ظمآنة

فى عزِّ مايو

نعرف الأذى

الذى يلمع فى عينين

كانتا تغرقان للتوِّ

فى الدِّموع

ونعرف - أيضًا -

تلك المهانة المكسورة

السَّمحة

بنت الحلال

وهْى تتجمَّد على شفاه مشقَّقة

قبل أن تسبَّ الدِّين.

واعفُ

لأنَّ العفو أبواب مؤجَّلة

ولأنَّ الطّعنة

لا تحمل ضغينةً

للخنجر

الخنجر فى النِّهاية

ليس إلَّا

مقبضًا..

ونصلًا

اعفُ

لأنَّ الطَّعنة

مجرَّد شقٍّ فى اللحم

لا يعرف معنى الألم

يُكْشف عنها الرِّداء

فتظهر أُخدودًا مُحْمرًّا

بدمٍ مُتجلِّط

على الحافَّتين

الطَّعنة قابلة للعلاج

للمواساة

لمحاليل التَّعقيم والتَّخدير

ولأيدى الأطبّاء المَهَرَة

الطَّعنة طارئةٌ

تأتى..

لتزول

والبقاء

للنُّدبة.