السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«زاوية الشيخ».. حاتم رضوان يكشف جناية «الذقون الكاذبة» ضد مصر

الكاتب وغلاف روايته
الكاتب وغلاف روايته

الناس الذين قد يكسرهم الجوع لا يكسرهم الشرف أبدًا ولا يتخلون عنه. إنه يسرى فى دمائهم مسرى الدم. لا يقبل الناس عهر فتياتهم أو نسائهم، لا يقبلون أن تختفى بناتهم قسرًا خلف أبواب زاوية الشيخ.. كانت هذه هى القشة التى قصمت ظهر الشيخ فى زاويته!

لا تسرع فى قراءة سطور «حاتم رضوان»، لا تستخف بصغر عدد صفحات رواياته ولا بقطعها الصغير، عيناه الضيقتان تتسعان على مدينة وتضيقان على زاوية، وبين الاتساع والضيق ينساب ضوء يشبه نور الشمس، فيطرز بالكلمات كثيرًا من التفاصيل والأحداث المتلاحقة، فتلهث فى إثرها، وتبقى بمعيتها لبعض الوقت للإلمام بما قرأت. برؤية كاتب لماح ورئيس تحرير ينتمى لعصر آخر، يذكرنا بعبدالفتاح الجمل، الذى أسس- وحرر- الملحق الادبى لجريدة المساء عند تأسيسها، تحدث الدكتور زين عبدالهادى إلينا، «حاتم وأنا» بروحة الجميلة المعهودة مخاطبًا حاتم: أعط محمود كتبك ليكتب لنا مقالًا عنك لمجلة «عالم الكتاب».. بادرة لا تصدر إلا عن كبار مثله.

تلقفت من حاتم مجموعته، مثل «رتينة كلوب قديمة» وروايتى «بقع زرقاء» و«الشيخ»، والأخيرة كانت أول عهدى بقراءته!

كل «شابتر» فى رواية زاوية الشيخ هو حلقة من قصة شخصية من الشخصيات تسلمك إلى أخرى.. «وأنت وشطارتك بقى» فى الربط وحفظ الشخصيات التى تعج بها رواية قصيرة، يرسمها مشهدًا تلو الآخر، ثم ينتقل بينها كلاعب عرائس ماهر. عليك أن تصبر مع حاتم حتى تستخرج الأفكار المضمرة فى السرد وتلهث خلف الأحداث المتلاحقة.. التى يكتبها بمهارة روائى قدير، يمسك بكل خيوط لعبته أو قصته لا فرق، حتى تصل إلى نهاية!

مشايخ الخطيئة يمنحون مريديهم عهد الطريقة عبر «إيلاج نور الفاضل فى المفضول»

رواية زاوية الشيخ تتحدث عن مصر المحشورة فى زاوية التخلف والدجل والشعوذة، لا استثناء لأحد عالم أو جاهل، مسئول أو عاطل، أصحاب ياقات بيضاء أو زرقاء، كلهم يهرولون إلى الشيخ الدجال، طلبًا لما استعصى عليهم الحصول عليه: الوعد برضا المولى.. الراحة والسعادة.. جلب الحبيب.. زواج العانس.. تخصيب العاقر.. مداواة المخنث.. إخراج الجنى العاشق من جسد امرأة.. إلخ.

كلهم يأتمرون بأمر شيوخ الدجل، الذين يعيشون على إطلاق البخور الكثيف وطلب دم الهدهد المخلوط بالزعفران، أما منح عهد الطريقة للمريد فله تقاليد شاذة، تبدأ بارتداء المريد والمراد ملابس حريرية على اللحم، فيتنفسان خلطة البخور مع زيت الحشيش القوى، حتى يسرى الخدر اللذيذ فى جسديهما؛ فيحدث بعد ذلك ما هو أغرب من الخيال! تُهْتَكُ الأسرار بين الشيخ «المؤمن» والمريد «التقى».. وبحسب صيحة الشيخ العمرى- وهو يأتى مريده وتابعه والراغب فى أخذ عهده على الشريف- تأتى لحظة «إيلاج نور الفاضل فى المفضول»! مشهد غريب عجيب.. صاغه حاتم رضوان على لسان الشيخ بهذه الجملة الغريبة! اللقاء- الآثم- فى نظر الشيخ بمثابة إيلاج نور «الفاضل» فى جسد «المفضول»؟ وهل كان علينا تخيل المشهد المُرَوِّع منذ التمهيد له باقتناص الشيخ تلك القبلة الشهوانية، التى اعتصر بها شفتى مريده المحب على الشريف، حيث لم يتركهما إلا عندما أولج فيه من نوره، ولم ينته منهما إلا لحظة حدوث ارتعاشته!

 اهدموا الزاوية.. ارحل يا شيخ.. نداءات الغضب اليوم تشبه البارحة فمتى ينفجر البركان؟

يعيث هؤلاء الشيوخ فى الدنيا فسادًا باسم الإيمان والنور.. بفعل اليأس وأشياء أخرى.. يذهب المتعبون إليهم طلبًا للراحة، حتى طلاب العلم المتفوقين! ها هما طالبا الفلسفة كامل اللبان وعلى الشريف، وكلاهما نابغ فى كليته، يتخليان عن منهج العلم الذى يدرسانه ويفضلان عليه أسلوب التدجيل والشعوذة، ويبرعان فيه، فيذهب أحدهما- كامل- بعد أخذ عهد الطريقة إلى قريته، ليمارس فيها طقوس الشيخ وطريقته، ليخرج أجيالًا جديدة من المغيبين، أما على فبرع فى إنشاء الزاوية.. أو صرح يحبس فيه كل من يذهب إليه يطلب حبًا أو حربًا، زورًا أو بهتانًا.. وبأفكاره التى روج لها على «يوتيوب»، وهو بكامل أناقته ونوره السابغ المشع، ولسانه المعسول بالتقى والإيمان حشرت مصر فى الزاوية المتخلفة بأمر من شيوخ الدجل!

غلاف الرواية

أقيمت فى الزاوية كل شعائر الفساد والتخلف، حتى إخفاء الفتيات «قسريًا» عن ذويهن، وربطهن بعقود صاغها الشيخ بنفسه تكفل له حصد المال الوفير من طالبى المتعة من المتنفذين الكبار، حتى المتفوقات طالبات أرفع الكليات «العلوم السياسية»، يسقطن فى فخ زاوية الدجل.. بعضهن يسقطن فى فخ الحب، وأيضًا فى فخ الاغتصاب «زهرة طالبة العلوم السياسية نموذجًا»، فتنقلب حياتهن جحيمًا، وتتمزق أرواحهن، حين تتوهمن العلاج بين يدى شيخ تقى، يصطنع القداسة فى زاوية، لا فرق داخلها بين اغتصاب فى مطبخ الحبيب «كما حاول حبيب زهرة أن يفعل» أو فى محراب الزاوية «كما حاول الشيخ على أن يفعل مع زهرة أيضًا»!. لا فرق بين المغتصبين.. بين سفير لم يتورع عن اغتصاب حبيبته، وشيخ داعر- له فى الحريم والرجالة- حاول أيضًا اغتصابها، وبين شيخ آخر يغتصب الرجال فقط، فكما تقول سالمة «فاطمة أم المريدين» عن الشيخ، صاحب صيحة إيلاج نور الفاضل فى المفضول إنه «مالوش فى الحريم»، وهى نفسها أسلمت شبقها كله كاملًا غير منقوص لمريده وخليفته الشيخ على! لا دين معروفًا فى زاوية الشيخ سوى الاغتصاب!

«زهرة».. مصر الذابلة تستعيد عبيرها بعد إزالة ركام التخلف

فى تأويل خاص جدًا يمكننا القول بأن «زهرة» تمثل مصر.. عندما تنضو عنها عبير الذبول وتستعيد روحها الهادرة تأويل مختلف ربما، أقول ربما، لم يقصده المؤلف نفسه، الذى عندما يُسْأل عن قصته فيتحدث عن شيوخ توارثوا طرقًا صوفية، وأخذوا العهود على مريديهم، بالسمع والطاعه ولو فى معصية: «للشيخ طقوسه الخاصة، أقواله وأفعاله إلهام ووحى من الله. لا تسأل او تستفسر عنها وإن بدت لك غريبة تخالف كل عقل أو منطق أو دين، أوامره وإن كانت فى معصية مطاعة وواجبة النفاذ». هل صيحة حاتم رضوان فى روايته كانت ضد التخلف والعهر الدينى فقط، أم كانت ضد كل مفاسد الكبار فى حكم مصر ونظامها الذى لا يسأل عما يفعل ويتمترس خلف أسوار الزاوية المدججة بالحديد والنار؟

ثم.. وعند ذلك الكورنيش الشهير.. تقوم مصر.. «زهرة» وغيرها يطلقون النداء الأشهر، اجتمعت فورتهم وثار غضبهم، فى يوم يكاد يشبه يوم جمعة الغضب فى ثورة ٢٥ يناير المجيدة، جاء المحتشدون الغاضبون بعد أن شحنوا طاقتهم، وتواصلوا على وسائل التواصل الاجتماعى، بندائهم الشهير «هدوا الزاوية»، النداء الذى يبدو أننا سمعنا مثله فى ثورة يناير.. وجه الشبه هنا كبير.. فى يناير كانت هناك صفحة على «فيس بوك» باسم خالد سعيد تدعو للثورة على الشرطة والفساد وأطلقت الصرخة كلنا خالد سعيد، فكانت جمعة الغضب فى زاوية الشيخ وضع حاتم رضوان زهرة فى مقابل خالد سعيد. حشدت زهرة لثورة مصر على زاوية الشيخ، استعادت عبيرها وفاحت تلك الرائحة على صفحتها الفيسبوكية: «هدوا الزاوية».

الثلاثى صفوان وزهرة والشريف ظلوا يمثلون قوام الرواية الرئيسى حتى النهاية، الباقون- باستثناء سالمة أم المريدين- مجرد مخدماتية أو أكثر قليلًا. الزاوية التى شيدها على الشريف بعد مقتل شيخه، وبناها كقلعة لا يصل إليها أحد، وحولها إلى دولة داخل الدولة، ترتع فيها الدعارة مع الدولار، حاول الناس مواجهة الزاوية ومنع هذا الخراب، وشكوا لكل المسئولين والأجهزة ورفعوا بلاغات وقضايا، ولكن الشيخ محمى بركاب السيارات الفارهة ومدخنى زيوت الحشيش، والغارقين فى الجنس مقابل المال.. قلعته الحصينة تتحدى الجميع.. لكن الناس الذين قد يكسرهم الجوع لا يكسرهم الشرف أبدًا ولا يتخلون عنه، إنه يسرى فى دمائهم مسرى الدم لا يقبل الناس عهر فتياتهم أو نسائهم، لا يقبلون أن تختفى بناتهم قسرًا خلف أبواب زاوية الشيخ.. كانت هذه هى القشة التى قصمت ظهر الشيخ فى زاويته!

حاتم رضوان ينثر تفاصيل روايته بإحكام عجيب، كمن يرسم سيناريو لأحداث الليل الداخلى والنهار الخارجى فى العمل الفنى، يأخذك من شخصية إلى أخرى إلى ثالثة إلى رابعة، حتى تصاب بالتخمة، فى ظل خط روائى يتصاعد، حتى يصل لذروته بالوصول إلى خط النهاية، دون أن تتوقع ماذا سيحدث.. ولا متى سيظهر ذلك الغضب المتحشرج فى النفوس، ولا تلك العبارات المخنوقة على الألسنة.. ولا ذلك النداء المختنق بالصراخ والدموع: هدوا الزاوية!