الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أسرار وسط البلد على مائدة «سفرجى الملوك»

أحمد المريخى
أحمد المريخى

فى سنوات بعيدة كتب محمد جاد: «أنا النملة التى تحاربونها لكنى أعدكم أن أظهر قريبًا بملابس نجيب الريحانى الجديدة».. وقد ظهر تباعًا بملابس تؤكد أنه مبدع متنوع؛ شاعر وسارد وممثل، يفعل ما يحب على مهل دون تصارع؛ لا يزاحم على نجومية، بل ربما لم يهتم بذلك، فكل ما يعنيه هو النجاة من العدمية التى تضرب كل شىء، حتى إنه قال مبكرًا: «وكأنى ممثل بانتومايم.. مشيت مكانى.. لاقيتنى باغطس ف بلاد غريبة». ومحمد جاد الذى عرفته شاعرًا فى ديوان «من قلبى» مضروب فى خلاط الآداب والفنون، ومفتون بالسير الشعبية والملاحم، وكيف لا يكون كذلك وهو الذى تربت ذائقته فى بيت محمود إسماعيل جاد، أحد أبرز رواد الدراما الإذاعية والباحث فى الفلكلور، وصاحب نحو 250 عملًا إذاعيًا ما بين مسلسل وخماسية وسباعية وسهرة، فضلًا عما جمعه وقدمه من ملاحم شعبية بارزة منها أدهم الشرقاوى وعابد الملاح وأيوب المصرى. 

تأثر محمد جاد بالأدب الشعبى واضح فى أعماله، حتى إن الرواة فيها يشبهون الراوى الشعبى فى تصنيفه للناس والطبقات الاجتماعية؛ فنجده يربط فى أعماله بين سلوكيات الثراء والبذخ ويتخذها معيارًا للحالة القيمية للشخوص. وأتذكر من قصيدة له بعنوان «معشوق الحُكّام الجدد يدعك فانوسه»، قوله: «سايب فى دولابى البدلة اللى بتلمع/ جنب الفستان اللى بيلمع/ وصورتنا بالأبيض وأسود/ يا ترى.. لسه دولابى موجود/ ولا الحيطة مكانه بتلمع؟»؛ وربما يتناص بناء أعمال جاد الروائية «الورشة، والواحة، وسفرجى الملوك» فى جانب منه مع المقطع السابق؛ حيث المفارقة وثنائيات «الأصل والصورة، الضوء والظل، الطيب والشرير، الأصيل والزائف»، وقد جسَّد فى رواية «الورشة» فكرة مدهشة؛ حيث يقف بطل الرواية «سالم» على عالمه الخاص من خلال الصور المعلقة على جدران شقته، ليبلور من جانب صورة «العائلة/ الذاكرة»، ويكشف من جانب آخر عن عالم ينشده الخيال الشعبى رغم أنه متحقق فى الواقع الراهن؛ حيث ألاعيب التحايل على المعايش حتى لو بالاحتيال أو السرقة التى يمارسها فريق الورشة فى داخل البلد وخارجها أيضًا. 

وإذا ما تتبعنا عالم محمد جاد السردى نجده يدور فى أجواء الأحياء الشعبية وحواريها، ويهتم أكثر بالجانب الاجتماعى وما يقع من ظلم على البسطاء والفقراء، وفى روايته الأحدث «سفرجى الملوك» لا يبتعد كثيرًا عن الحى الشعبى.. فقط يتحرك به إلى وسط البلد؛ فنتتبع معه تفاصيل تعكس جوف مدينة جائرة من خلال حكاية «بوفيجى» شاب قادم من سرادقات العزاء والأفراح ومناسبات الغلابة فى الحى الشعبى، وطامح للعمل «سفرجى» فى مكان لائق يوفر له حياة كريمة تكفل له رعاية شقيقته «قلوب» المصابة بواحدة من متلازمات التوحد «منغولية»، وشقيقته الأخرى «مجيدة» التى بدورها تسيطر على رغباتها وتؤجل طموحها فى حياة خاصة لأجل مشاركته فى رعاية «قلوب».

يسعى «مصباح» للقيام بمسئولياته والتزاماته الاجتماعية، لكن العائد من عمله فى السرادقات لا يفى بالمتطلبات دون مساعدة آخرين؛ «يمنون عليه بمساعدات تصبره على بلاويه»، ما يدفع «عم راضى» صاحب مكتب توريد السفرجية للفراشة، لمساعدته فى التحرك من «العطفة» ومناسباتها الفقيرة إلى عالم السفرجية المربح فى قلب القاهرة، ومن ثم يلتحق «مصباح» بمقهى، ومنها إلى بار، ثم فندق، ويكتسب مهارات جديدة تتناسب مع معايير المدينة وقيمها؛ إذ يضع مخططًا مسبقًا للحصول على أكبر كم من البقشيش كل ليلة، ولاحقًا يُلقب نفسه بالسفرجى الأفعى، ويقول لنفسه: «هذا ليس قليلًا على واحد مثلى يحوّل نفسه إلى مخزن للأرواح الهزيلة المنكسرة التى استسلمت لهزائمها، والتى لا تقوى على مواجهة الحياة إلا بالخمر، نعَم، البار ما هو إلا مخزن تختبئ تحت أضوائه الخافتة، مجموعة من البشر الباحثين عن ذواتهم، أما السفرجية المهرة أمثالى، فيحاولون وضع هؤلاء المساكين على هذه الماكينة التى تدور، فيجيئون وينفقون أموالهم ويعودون فى اليوم التالى محملين بكم آخر من الأموال، فينفقونها ويعودون، فى دورة من الحيرة والذهول لا تتوقف». 

وشيئًا فشيئًا، يكتشف «مصباح» فى حراكه المهنى أنه يعيش حياة مستنسخة وموثقة أيضًا؛ تدل عليها تلك الأجندة السوداء التى تركها سفرجى الملوك لزوجته، وتحوى مذكراته مع مهنته. الأجندة التى وقعت فى يد «مصباح» تستشرف تاريخه المنتظر؛ ومن ثم يعيش صراعًا وجوديًا، وعليه أن يحدد مصيره القادم: هل يعود للعَمل فى السرادقات مرة أخرى ويدرب النفس على أن الرضا بالحال فضيلة، أم يعيش ذليلًا مكسورًا ويوافق على رغبات الملوك؟، لقد قالها له «عم سرى» أقدم سفرجية الأفراح: «يا مصباح يا ابنى، عشان تكمل فى الشغلانة دى لازم تسيب كرامتك فى الدولاب تحت هدومك»، ويقول مصباح: «فى هذا المسرح المظلم يوجد أباطرة فاقوا الملوك الذين قرأت عنهم فى الأجندة السوداء، أباطرة وضعوا قوانينهم الخاصة، ويبدو أن الملوك الطواغيت فى كل مكان، مع اختلاف ألوانهم وملابسهم وطعامهم ورغباتهم». ولم يتحمل سخافات أصحاب الياقات البيضاء وسخريتهم التى يسمعها كل ليلة: «ما هو ما ينفعش يبقى فيه باشوات من غير كلاب يخدموهم وقطط تسليهم، مش كده ولا إيه يا باشا». 

إنها رواية ملتوتة؛ بمعنى أنها مسبوكة بالأسى والسخرية والضحكات أيضًا، ورغم سكونها الظاهر المتمثل فى التناول والبناء الكلاسيكى، إلا أنها تعكس عالمًا مستترًا ديناميكيا، ففى مستوى مواز تكشف الفساد الغاطس فى مجتمع السياسة والتجارة والمحاسبات، وسلوكيات الأثرياء والطامحين إلى السلطة وتابعيهم. ولأن لكل مكان قوانينه وقوانين رواده وقواعد سفرجيته، فقد حفلت الرواية بحمولة معرفية نوعية، حيث الأسرار الدقيقة لعالم الفراشة من السرادقات إلى الفنادق، والتراتبية والرموز فى عالم السفرجية، وقواعد تجهيز الموائد للولائم؛ بداية من أنواع الشوك والسكاكين والملاعق والأطباق والكئوس، ومرورًا بالأطعمة، والمشروبات، وصولًا إلى الضيوف أو المعازيم؛ حيث تكشف الأزياء والعطور أذواق الحضور ومستوياتهم. 

وقد وقف الروائى محمد جاد فى «سفرجى الملوك» على كثير من تلك العناصر الهشة التى تبدو للوهلة الأولى هامشية، بينما هى فى واقع الأمر عناصر مركزية نستطيع من خلالها قراءة حراك المجتمع وقضاياه فى العصر الذى تتناول أحداثه الرواية.