السبت 02 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المرأة الاستثناء.. كيف عرفت نوال السعداوى؟

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز ونوال السعداوى

- استقر فى وجدان نوال أن العالم يحتاج إلى معلومات صحيحة عن المرأة لمواجهة المفاهيم الخاطئة

- تخرج نوال من قضية المرأة التى وهبت لها حياتها إلى القضية الأكبر قضية المجتمع كله

- لم تكن مطاردة نوال فى المحاكم لأسباب فكرية بل كانت هناك فى الغالب أسباب سياسية

- أى كاتب أو مبدع يطرح أفكارًا جديدة تفهم على أنها بدعة فى بلادنا

- نوال لا تحب الصحفيين المصريين بسبب معاناتها على أيديهم

- لم تضع سلاحها فى معركة الفكر والتنوير رغم سنوات عمرها الـ88 ورغم كل ما تعرضت له من اتهامات ومطاردات قضائية وحصار مجتمعى

- ظلت علاقة نوال السعداوى بالسلطة لغزًا كبيرًا لم يستطع أحد حله

- كان الاتهام الذى علقوه فى رقبة نوال أنها نشرت سلسلة كتابات من شأنها إثارة الفتنة فى المجتمع

- فى يناير 2011 شاركت نوال فى أحداث الثورة التى- كما قالت- ظلت تحلم بها طوال عمرها

وقعت عينى على اسمها فخطفنى.

إنها هى... الدكتورة نوال السعداوى. 

المرأة التى يكرهها الشيوخ ولا يتناولون سيرتها إلا بما ينتقص من قدرها ويشوه صورتها، رسموا لها صورة من على منابرهم جعلتها كشيطان يحمل معوله ليهدم الإسلام وينقض على ثوابته، ولذلك فهى ملعونة فى الأرض والسماء. 

كنت وقتها أتجول فى أجنحة معرض القاهرة الدولى للكتاب دورة العام 1990. 

«مذكرات طبيبة» طبعة سلسلة «اقرأ» التى تصدر عن دار المعارف، اشتريت الكتاب على الفور، وأنا فى طريق عودتى إلى دمياط، بدأت قراءته حتى انتهيت منه مرة واحدة، ساعدنى على ذلك صغر حجمه وحلاوة أسلوب كاتبته. 

أغلقت الكتاب، ليحتلنى سؤال واحد: هل هذه هى المرأة التى يتحدثون عنها؟ 

ووجدتنى أجيب: حتمًا هم يقصدون امرأة أخرى، فليس معقولًا أن تكون صاحبة هذه الروح الوثابة المتدفقة التى تملك هذه القدرة على الاقتحام وتبنى قضايا الإنسان وتتحدث عن الله بفطرتها النقية كما المصريون جميعًا هى من يلعنونها ليل نهار، يحرضون عليها باسم الله ويأخذون من هجومهم الدائم عليها سبيلًا للتقرب منه والوصل به. 

همست إلى نفسى: نوال السعداوى تعرف الله أكثر من هؤلاء المشايخ الذين ختم الله على قلوبهم، فلا يقدرون على أن يفصلوا بين الحق والباطل. 

الصفحة التاسعة من العدد الرابع والعشرين لحرف

لم أستطع الفصل فى أمر الكتاب هل هو رواية خيالية؟ هل هو مذكرات نوال الطبيبة نفسها؟ أم أن ما بين يدى خليط بينهما؟ 

لم أهتم بذلك فليكن ما يكون، المهم هو ما تقوله وتسعى إليه. 

رسمت نوال صورة لحادثة ختان بطلتها، التى هى حادثة ختانها هى. 

قالت: لا أدرى ما حدث وأنا أقفز، أحسست برجفة عنيفة تسرى فى جسدى ودوار فى رأسى ورأيت شيئًا أحمر اللون، ما هذا؟ انخلع قلبى من الهلع وانسحبت من اللعب وصعدت إلى البيت، أغلقت على نفسى باب الحمام لأبحث فى الخفاء سر هذا الحادث الخطير، ولم أفهم شيئًا، وظننت أن الأمر مرض مفاجئ ألم بى، وذهبت إلى أمى أسألها فى ذعر، ورأيت أمى تضحك فى سعادة، وتعجبت كيف تقابل هذا المرض الفظيع بتلك الابتسامة العريضة، ورأت أمى دهشتى وحيرتى فأخذتنى من يدى إلى غرفتى حيث قصت علىّ قصة النساء الدامية. 

فرغت نوال من رواية قصتها الدامية مع اكتشاف الدورة الشهرية وما يحيط بها من ألم، لتعلق ببساطة الطفلة وعفويتها، قالت: شعرت بأن الله- لا بد- يكره البنات فوصمهن جميعًا بهذا العار، وشعرت بأن الله تحيز للصبيان فى كل شىء. 

أخذنى التعبير ففزعت، لكننى فى هذه اللحظة اكتشفتها بشكل كامل، فهى امرأة تعانق التمرد منذ طفولتها، لا تقنع بما يفرضه المجتمع على النساء، تسأل وتفكر وتتأمل وتعبر عما ترى أنه حقها، وتمد يدها لتأخذه، لا تنتظر أن يأتيها كمنحة من أحد... وهى لا تعتب على المجتمع الذى هو فى الغالب مغلوب على أمره، ولكن توجه تمردها إلى الله الذى لا بد أن يكون مسئولًا عن كل شىء.

قررت أن أختبر ما كتبته نوال، أعطيت الكتاب لبنات الأسرة، وطلبت من كل واحدة منهن قراءته، ولم يخب ظنى، تحولت حياتهن، وقعن فى غرامها، شعرن بأنها تتحدث عنهن، لم تكن لواحدة منهن القدرة على أن تتجاوز حدود الإعجاب بهذه الكاتبة المتوحشة إلى التمرد مثلها، لكنهن جميعًا صدقن ما قالت، فتأكدت أن نوال تدفع الثمن بالنيابة عن كل النساء. 

بعد سنوات سألتها عن أكثر ما يسعدها؟ 

قالت: عندما تقابلنى فتاة وتقول لى يا دكتورة لقد تغيرت حياتى بعد أن قرأت لك. 

بعد عشر سنوات، فى صيف العام ٢٠٠٠ عادت نوال مرة أخرى لتقتحم حياتى بكتابها «المرأة والجنس»، وجدته ضمن مكتبة صديق كنا نتقاسم السكن والعمل معًا.

لم تأسرنى الفكرة، ولكن أخذتنى الجرأة... ولا يزال إحساسى بوقع الكلمات على قلبى وعقلى يلازمنى، كنت مأخوذًا ومبهورًا، ومرة أخرى سألت نفسى: هل قرأ الذين يهاجمونها ما كتبت؟ 

وأجبت: لو أنهم قرأوا لها ما عاتبوها فى شىء، بل كانوا سيسيرون وراءها كما يسير المريد وراء وليه. 

دفعت نوال ثمن فكرتها وموقفها فى «المرأة والجنس»، فزادت قيمة الفكرة وتأصل صدق الموقف، فالمواقف المجانية بلا قيمة. 

تأخذ المواقف من دفع ثمنها بريقًا وألقًا وتألقًا. 

صدر «المرأة والجنس» للمرة الأولى فى العام ١٩٦٨ عن دار الشعب، فتم حصاره لدرجة المنع من التداول، وصدر قرار بفصل نوال من وزارة الصحة، وكانت قد انتقلت إليها بعد أن واجهت مجتمعها الصغير فى «كفر طحلة»- حيث ولدت- بعوراته أثناء عملها فى الوحدة الصحية هناك. 

لم تنطلق نوال فى كتابها «المرأة والجنس» من رفاهية الكاتبة التى تجلس إلى مكتبها تستحلب الأفكار النظرية، ولكنها كتبت بتأثير التجارب التى تشكلت أمامها من قلب المجتمع بقسوته وغشمه فى التعامل مع المرأة، وكان دخوله من باب الجنس لقهرها. 

كانت نوال وقتها- ديسمبر ١٩٦١- لا تزال طبيبة ناشئة تجلس فى عيادتها الصغيرة بميدان الجيزة- تخرجت فى كلية الطب فى العام ١٩٥٥- دخلت عليها فتاة، شدتها إليها نظرة عينها الغريبة المذعورة التى تبحث عن النجدة. 

لم تكن الفتاة وحدها، كان معها رجل قال لنوال بصوت غليظ منفعل: أرجو يا دكتورة أن تفحصيها. 

سألت نوال الفتاة: مم تشكين؟ 

لم ترد الفتاة، تولى الرجل الإجابة نيابة عنها، قال: تزوجنا بالأمس واكتشفت أنها ليست عذراء. 

سألته نوال: وكيف اكتشفت ذلك؟

فرد بغضب: هذا شىء معروف... لم أر دمًا أحمر. 

حاولت الفتاة أن تفتح فمها لتقول شيئًا، لكنه قاطعها قائلًا: إنها تدعى أنها بريئة ولهذا جئت لتفحصيها. 

تحكى نوال: اتضح لى بعد الفحص أن الزوجة تملك غشاء البكارة وأنه سليم تمامًا، ولكنه من ذلك النوع الذى يسمى فى الطب بالنوع «المطاط» يتسع ويضيق بمرونة دون أن يتمزق ودون أن تسيل منه قطرة دم واحدة، وشرحت الأمر للزوج بدقة، وكان رجلًا متعلمًا سافر إلى الخارج فى بعثة، وخيل إلى أنه فهم واقتنع، وتنهدت العروس كأنها تتنفس لأول مرة بعد طول اختناق، لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة، بعد أيام قليلة جاءتنى الفتاة وحدها، لم يكن وجهها هو وجه فتاة الثامنة عشرة التى رأيتها منذ أيام، وإنما وجه امرأة عجوز شاخت قبل الأوان ورسم الحزن الألم على وجهها تعبيرًا غريبًا أشبه بوجوه الموتى التى رأيتها كثيرًا فى ظل مهنة الطب. 

قالت لها الفتاة: زوجى طلقنى وكادت أن تكون فضيحة لولا أن أبى تكتم الأمر. 

سألتها نوال: وهل يفهم أبوك؟

هزت الفتاة رأسها بالنفى: لا أحد يعرف براءتى إلا أنت يا دكتورة، وأنا الآن أعيش فى خوف من انتقام أبى وأخى. 

تروى نوال: ذهبت معها إلى أبيها وشرحت له الأمر، دهش الأب وضرب كفًا بكف وقال فى غضب: هذا يعنى أن ابنتى ظلمت، قلت: نعم، قال: ومن المسئول عن هذا الظلم؟ قلت: أنتم زوجها وأهلها، قال بغضب: بل أنتم المسئولون يا أطباء، لأنكم تعرفون هذه الحقائق وتخفونها عن الناس، ولولا هذه الحادثة التى حدثت لابنتى بالصدفة لما عرفت شيئًا، لماذا لا تشرحون هذه الأمور لكل الناس؟ إنه واجبكم الأول حتى لا تظلم مثل هؤلاء الفتيات البريئات. 

أمسكت نوال بنقطة النور، صممت يومها أن تعود إلى مكتبها لتكتب شيئًا فى هذا الموضوع، لكنها رأت أن الأمر يحتاج إلى علاج متعدد النواحى، فليس هو موضوع طبى فحسب، وإنما موضوع اجتماعى واقتصادى وأخلاقى، ولا يمثل فيه الطب إلا جانبًا واحدًا. 

كان لا بد أن تكتمل الرؤية لدى نوال قبل أن تكتب، تركت نفسها للمعرفة عبر وجوه الناس وسطور الكتب، مر عام وراء عام وقصص أخرى تمر أمام عينها، قابلتها مآسٍ عديدة لفتيات ونساء وأطفال راحوا ضحية الجهل الشائع والتقاليد السائدة، بعضهم مات موتًا حقيقيًا أثناء عمليات إجهاض أو عملية ختان أو ولادة تحت ظروف سيئة، أو حوادث قتل أو اعتداء لعدم ثبوت دم العذرية، وبعضهم مات موتًا نفسيًا واجتماعيًا بعد مأساة بسبب أو بآخر. 

ساعدت نوال أسفارها المتعددة لمعظم بلاد العالم فى أن تحيط بوضع المرأة فى مختلف المجتمعات المتقدمة والمتخلفة، الرأسمالية والاشتراكية، واستطاعت من خلال قراءاتها فى العلوم الأخرى غير الطب والتاريخ والأدب أن تفهم كيف ولماذا فرضت القيود على المرأة، أضف إلى ذلك تجربتها الخاصة كامرأة، وهى التجربة التى زودتها بحقيقة أحاسيس المرأة العميقة. 

استقر فى وجدان نوال أن العالم يحتاج إلى معلومات صحيحة عن المرأة، تغيير المفاهيم الخاطئة التى أشيعت عنها، وتصحيح المعلومات التى راجت حولها فى العالم، والتى كانت تكتب فى معظم الأحيان بأقلام الرجال، ولهذا لم تكن هذه المعلومات تعبيرًا عن حقيقة المرأة، ولكنها كانت وجهة نظر الرجل فى المرأة، وما أكبر الفارق بين الحقيقة ووجهة النظر. 

ظلم من هاجموا نوال ما كتبته عن الجنس، اعتقدوا أنها كاتبة إباحية، تعاملوا مع ما تقوله على أنه دعوة للتحرر والانحلال. 

أليست تتحدث عن الجنس؟... إذن هى خطر على قيم المجتمع. 

اعتقدوا أنها مهتمة بالمتعة المطلقة التى لا يحكمها سياق. 

لم ينتبهوا إلى أنها أخذت من الحديث عن الجنس طريقًا لتحرر المرأة من قيودها الاجتماعية، فهو ليس أكثر من أداة قمع وسيطرة من الرجل على جسد المرأة. 

ولم ينتبهوا كذلك إلى أنها كانت تحرر الرجل نفسه بحديثها عن الجنس الذى هو بالنسبة لها ليس عناق جسدين بقدر ما هو تعانق روحين. 

لنقرأ معًا ما قالته نوال عن العفة والشرف فى كتابها «المرأة والجنس». 

تقول: أعتقد أننا فى حاجة إلى أن نفهم جيدًا ماذا تعنى كلمة الشرف، من هو الإنسان الشريف؟ وإذا كان الشرف هو الصدق مثلًا، فإن الرجل الصادق يصبح شريفًا وكذلك المرأة الصادقة تصبح شريفة. إن المقاييس الأخلاقية التى يضعها المجتمع لا بد أن تسرى على جميع أفراده بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو الطبقة الاجتماعية، وإذا كان المجتمع يؤمن بالعفة فى الجنس كقيمة أخلاقية فلا بد أن تسرى على جميع أفراد المجتمع، أما أن تسرى على جنس دون الجنس الآخر أو على طبقة دون الطبقة الأخرى فهذا يدل على أن هذه العفة ليست قيمة أخلاقية وإنما هى قانون النظام الاجتماعى القائم. 

وتخرج نوال من قضية المرأة التى وهبت لها حياتها إلى القضية الأكبر، قضية المجتمع كله، تقول: وقد رأينا فى المجتمعات الرأسمالية كيف كان الحكام الرأسماليون يفرضون على العمال والأجراء قيمًا أخلاقية معينة تضمن زهدهم فى الحياة وقناعتهم بأجورهم الضئيلة وخضوعهم للقوانين الرأسمالية الجائرة وتطوعهم فى الجندية للدفاع عن مصالح هؤلاء الحكام وأطماعهم الاستعمارية، هذا فى الوقت الذى يستمتع فيه الحكام الرأسماليون بقيم الجشع والنهم والربح المتزايد والإفراط فى كل المتع التى حرموها على الطبقات الكادحة. 

تستكمل نوال فكرتها المنطلقة والمقتحمة. 

تقول: وإذا كان الرجال هم السادة فى المجتمع دعوا النساء إلى الالتزام بقيم الشرف والعفة ليضمنوا خضوعهن، على حين ينطلق الرجال مبيحين لأنفسهم الاستمتاع بكل ما حرموه على النساء، ويخفى المجتمع الدوافع الاقتصادية والاستغلالية من وراء هذه القيم ويسوق دوافع أخلاقية منها الشرف والفضيلة والعفة، وحينما نسأل المجتمع لماذا يفرض العفة على المرأة وحدها؟ يرد بأن هذا طبيعى لأن المرأة غير الرجل، وأن الطبيعة هى التى صنعت كل الفروق بين الرجل والمرأة وليس المجتمع، وحين نسأل المجتمع ما هى الفروق بين الرجل والمرأة؟ يصيح قائلًا إنها فروق ضخمة أحدها أن المرأة هى التى تحمل ثمرة العلاقة الجنسية فى رحمها جنينًا، ونسى المجتمع أن الحمل والولادة لم يصبحا قيدًا على المرأة إلا بفعل المجتمع حين قرر أن الجنين ينمو فى أحشائها ويتغذى بدمها ولحمها وليس من حقها وإنما هو من حق الرجل وحده، يمنحه اسمه فيصبح طفلًا شرعيًا ويعترف به المجتمع، أو لا يمنحه اسمه فيحكم عليه المجتمع بالإعدام وهو ما زال وليدًا يرضع. 

فى كتابها «قضية المرأة المصرية السياسية والجنسية» تضع نوال الأمر فى نصابه تمامًا، تقول: بعض الناس يتصورون أن قضية المرأة فى مجتمعنا قضية جنسية، أو قضية اجتماعية محدودة بحدود الأسرة، وهذا تصور غير صحيح، لأن قضية المرأة سياسية اقتصادية وجنسية أيضًا، إنها قضية تهم كل فرد على حدة، وقضية تهم المجتمع كله، ولا يمكن بأى حال فصل مصلحة المجتمع عن مصلحة الفرد ولا مصلحة الأسرة، ولا مصلحة الأسرة عن مصلحة النساء والرجال والأطفال، فكل هذه المصالح مترابطة، وليس من صالح أى مجتمع أن تتناقض. 

غضبة المجتمع ضد نوال السعداوى لم تكن لأنها تحدثت عن الجنس كعلاقة بين الرجل والمرأة إذن، ولكن لأنها أخذت منه قاعة محكمة تحاكم من خلالها هذا المجتمع وتضعه وجهًا لوجه أمام ظلمه وتعنته واستعلائه على المرأة... وهو ما لم يسامحها المجتمع فيه أبدًا. 

اللقاء الثالث بينى وبين نوال السعداوى كان على الورق أيضًا، لكنه هذه المرة كان الورق الساخن القلق المتوتر. 

الصفحة العاشرة من العدد الرابع والعشرين لحرف

فى حوالى عام ٢٠٠٢ وجدت نوال كل مدافع المدينة موجهة إلى صدرها، كانت تتحدث إلى إحدى الصحف الخاصة، ومن بين كل ما قالته اقتطعت الجريدة جملة غير مكتملة وجعلت منها عنوانًا للحوار. 

كان العنوان واضحًا إلى حد الجموح: شعائر الحج طقوس وثنية. 

قامت الدنيا على رأس نوال وأبت أن تقعد، كتابات عنيفة تتهمها فى عقيدتها، بلاغات أمام النائب العام تتهمها بازدراء الأديان... منابر متطرفة تطعن ليس فى دينها فقط، ولكن فى شرفها أيضًا، وأقلام تدافع عنها ولكن على استحياء. 

وجدتنى مدفوعًا إلى عمل شىء لأدافع عنها، عرفت أن زميلة فى «صوت الأمة»- الجريدة التى كنت أعمل فيها وقتها- أخذت موعدًا مع نوال لإجراء حوار مطول، قلت لها: قولى للدكتورة أن تنفى تصريحها.. أخبريها أن النفى بشكل قاطع ضرورى، لأنها بذلك ستقطع الطريق على المتربصين بها، قولى لها إنها ليست فى حاجة إلى هذه الدوشة، فنحن فى حاجة إلى كامل تركيزها لتكمل مشروعها بعيدًا عن حالة الاستنزاف التى يحاصرها بها الجميع. 

جلست الزميلة إلى الدكتورة نوال، نقلت لها ما قلته لها، لكنها رفضت أن تنفى ما قالته، قالت لها: ليست نوال السعداوى التى تهرب من المواجهة، لم أهرب طوال عمرى من معركة، فهل أهرب الآن؟ 

تواصلت معى زميلتى ونقلت لى ما قالته الدكتورة نوال، فقلت لها: اجعليها على الأقل تشرح ما تقصده، لا بد أن تكون هناك رواية أخرى فى مواجهة الروايات المتوحشة التى تطاردها. 

استجابت نوال هذه المرة، وبدأت تتحدث، قالت إنها لم تقصد أن شعائر الحج طقوس وثنية بأنها طقوس شركية، ولكن الرسول أدخل إلى طقوس الحج بعضًا من الشعائر التى كان يمارسها العرب قبل الإسلام، بما يشير إلى أن الإسلام لم يكن منقطعًا عما قبله. 

كنت مسئولًا عن صياغة الحوار فى صورته النهائية واختيار العناوين المناسبة، واخترت أن يكون العنوان الرئيس «نوال السعداوى: لم أقل إن الحج شعائر وثنية». 

خف الضغط على نوال بعض الشىء، لكن خصومها لم يفلتوا الفرصة من بين أيديهم وواصلوا تحرشهم الدينى والفكرى بها، وكان موقفها عظيمًا بالنسبة لى، فهى لم تستسلم، ولم تتراجع، ولم تخش كل ذكور القبيلة الذين كانوا يخططون لسجنها هذه المرة.

عادت نوال مرة أخرى إلى الحديث عن الحج، لكن حديثها هذه المرة لم يكن نظريًا، انطلق من حادث تدافع الحجاج فى موسم العام ٢٠١٥، وهو التدافع الذى خلف وراءه قتلى ومصابين. 

كانت جريدة الجارديان البريطانية تحاور نوال، وفى هذا الحوار قالت: لماذا لا يتحدثون عن طريقة لتنظيم الحج؟ لماذا لا يجعلون الناس يسافرون فى مجموعات أقل؟ ما لا يقولونه هو أن التدافع حدث لأن الناس تقاتلوا على رجم الشيطان، لماذا يحتاجون إلى رجم الشيطان؟ لماذا يحتاجون إلى تقبيل الحجر الأسود؟ أعرف أن أحدًا لن يقول ذلك، ولن تنشره وسائل الإعلام العربية.. إنهم يخافون من الاتهام بالعنصرية.. وأجدنى أسأل نفسى دائمًا: لماذا يخاف الناس؟ 

فى يقينى أن نوال بما قالته لم تكن تهاجم الحج ولا شعائره، لكنها كانت تدافع عن الذين يروحون ضحايا بسبب التزاحم الذى لم تكن ترى له مبررًا، فإذا كنا قادرين على تنظيم الحج للمحافظة على أرواح الناس، فلا معنى لأن يدفع الناس حياتهم لإرضاء الله، فالله خلقنا لنعيش لا لنموت. 

لم تكن نوال السعداوى تحب الصحفيين. 

اخترت أن أصيغ عبارتى على هذا النحو، بعد أن تراجعت عن صيغة أولى كانت كالتالى: كانت نوال السعداوى تكره الصحفيين، وتراجعى لاعتقادى بأن نوال لم تكن تكره أحدًا أو شيئًا، فقد كان قلبها كبيرًا وقادرًا على استيعاب هذا العالم بتناقضاته وعثراته. 

فى مقالها «ويسألونك عن الاحتباس»- نشرته مجلة أكتوبر فى ١٣ أغسطس ١٩٩٥- كانت تتحدث عن اكتشاف مادة فى الدستور تنص على المساواة بين المواطنين أمام القانون فى مسألة «الحبس الاحتياطى» بصرف النظر عن الجنس أو الطبقة أو العقيدة، وهو ما يتبعه حتمًا تغيير بعض القوانين، ومنها قانون الصحافة، بحيث يتساوى الصحفيين مع عامة الشعب فى موضوع الحبس الاحتياطى. 

تقول نوال: «رغم أننى أنتمى إلى عامة الشعب، وكان المفروض أن أغتبط بمساواة البشر، وإلغاء كل الامتيازات المهنية، وخاصة مهنة الصحافة التى عانيت منها الكثير، وكم من مقالات كتبت ضدى دون وجه حق، فلم أملك الرد عليها، ولم آخذ حقى عن طريق القضاء، فإننى لم أغتبط».. لم تكن نوال السعداوى تحب الصحفيين فقط، كانت لا تثق فيهم أيضًا، وقد اختبرت هذا بنفسى، وهو ما جرى بعد واقعة تصريح الحج بما يقرب من عام، وكانت أول مرة أرى فيها الدكتورة نوال وجهًا لوجه، كنا على موعد فى منزل الدكتورة عواطف عبدالرحمن أستاذتى التى شرفت بإشرافها على رسالتى للماجستير والدكتوراه. 

دعت الدكتورة عواطف الدكتورة نوال إلى جلستنا فى بيتها- الصداقة بينهما ممتدة وعميقة منذ حبسة العام ١٩٨١- وصلت متأخرًا قليلًا، قدمتنى الدكتورة عواطف لنوال بصفتى الجامعية أولًا، ثم بصفتى الصحفية ثانيًا، هكذا كانت تحب أن ترانى دائمًا. 

قطعت الدكتورة نوال كلام الدكتورة عواطف، قالت لها دون أن تنظر إلى: بتقولى صحفى يا عواطف.. أنا آسفة جدًا، مش هقدر أكمل معاكم.. مش هقدر أقعد فى مكان فيه صحفى.. كفاية اللى حصل لى من الصحافة.

تركتنا نوال ورأيتها تخرج من بيت الدكتورة عواطف وكأنها تهرب من شبح تخشى أن يطاردها أو يضعها فى مأزق، انتظرت أن يدافع أحد عن الصحافة التى لعنتها نوال وتركتها خلف ظهرها، فإذا بالدكتورة عواطف تقول فى أسى: عندها حق نوال.. اللى شافته من الصحافة مش قليل. 

يومها قررت ألا أقترب من نوال السعداوى إلا بحذر وحرص.. وقد يكون من الأفضل ألا أقترب، وليس على إلا الاستمتاع بما تكتب ومحاولة نشره والدفاع عنه إذا اقتضى الأمر. 

بعد سنوات أدركت الحقيقة، فنوال لا تحب الصحفيين المصريين بسبب معاناتها على أيديهم، والدليل أنها كانت تأنس إلى بعضهم وتتحدث معهم، وتدلى بتصريحات مقتضبة مع بعضهم، وتترك نفسها لإجراء حوارات مطولة مع من تثق بهم، وتتحدث بعفويتها وعلى سجيتها مع الصحفيين العرب والأجانب.. ولم يكن العيب فى نوال وهى تعمل ذلك، بل كان فى الصحفيين المصريين الذين جعلوا منها هدفًا لإطلاق السهام ومادة للإثارة، ولم يلتفتوا أبدًا إلى عقلها الثائر... ربما لأننا بطبعنا لا نحب الثائرين. 

 

فى العام ٢٠١٧ كانت نوال ضيفتى فى جريدة «الدستور»، وجدت الكاتبة التى لا ترحب بتواجدها فى دور الصحف تجلس بيننا لنحاورها، تحدثت يومها كما لم تتحدث من قبل، وقبل أن تمضى شكرتها على تلبيتها لدعوة الجريدة، قالت لى: أنا لبيت دعوتك أنت.. لولاك ما جئت.. أنت تعرف ما أحمله لك من تقدير. 

بدأت أقترب من التقاطع المباشر مع نوال، وكانت لهذا مقدمات بدأت قبل سنوات من الاتصال المباشر معها. 

فى العام ١٩٨٧ انتهت نوال السعداوى من كتابة روايتها «سقوط الإمام»، وفى العام ٢٠٠٠ أصدرت «الساقى» طبعتها الثانية، وفى العام ٢٠٠٤ عندما تنبه الأزهر إلى الرواية قام بمصادرتها ومنع تداولها، وفى العام ٢٠٠٨ عندما أعادت مكتبة مدبولى طباعة الرواية ضمن أعمال نوال الكاملة، صدر قرار من الأزهر بمصادرتها، وهو ما دعا صاحب المكتبة الحاج محمد مدبولى إلى أن يعلن أنه وقف طباعة الرواية وتردد أنه أحرق النسخ التى طبعها، ولم يكن هذا إلا محاولة من الحاج مدبولى للهروب من مواجهة العاصفة بوأد الرواية. 

قدمت نوال لروايتها بقولها: وأنا طفلة كنت أرى وجه الله فى أحلامى كوجه أمى شديد العدل وكوجه أبى شديد الرحمة، لكن زميلتى فاطمة أحمد فى المدرسة كانت ترى وجه الله فى أحلامها كوجه أبيها شديد القسوة وكوجه عمها شديد الظلم، واكتشفت وأنا طفلة أن وجه الله يتراءى لزميلاتى الأطفال كوجه الأب أساسًا وكوجه الأم أحيانًا، فالمشكلة أن الله لا يرى بعين الأطفال ولا الكبار، وما من وسيلة لرؤيته إلا فى النوم وبالوجوه التى نراها لأقرب الناس لنا. 

الصفحة الحادية عشر من العدد الرابع والعشرين لحرف

حاولت نوال أن تكتب هذه الرواية وهى تلميذة بالمدرسة، لكنها لم تعرف كيف تكتبها، الفكرة كانت واضحة فى رأسها، والأحاسيس والشخصيات أيضًا، لكن اللغة لم تساعدها، ظلت تراودها عن عقلها وقلبها، حتى حدث ما جعل الرواية تقتحمها وتجبرها أن تنزلها على الورق. 

قابلت نوال «شهربانو شيراز» الإيرانية فحكت لها عن اغتصاب ابنتها فى السجن، والتقت بفاطمة تاج السر السودانية التى رأت ابنها الغلام وزملاءه فى جمعية مقطوعى الأيدى بعد تطبيق الشريعة، وعاشت ثلاثة أشهر فى السجن فى مصر مع اعتدال محمود وغيرها من البنات، فقررت أن تبدأ الكتابة. 

تقول نوال: كلما جلست لأكتب الرواية تفلت من بين أصابعى، وتنزلق كالزئبق، وخاصة شخصية الإمام فهى شخصية زئبقية اتبعت معى أسلوب الكر والفر والإقبال والإدبار، إذا اقتربت منها تبتعد، وإذا ابتعدت عنها تقترب، وشخصية المعارض الشرعى أيضًا راوغت كثيرًا إلى حد أننى فكرت فى حذفها والاستغناء عنها، لكن يد الإمام كانت تمتد وتجذبها إلى جواره يمسكها لا يريد حذفها، وإلا افتقدت الرواية الديمقراطية. 

كانت نوال تعرف منطقة الخطر فى روايتها، لقد كانت شخصيات البنات والنساء أكثر ثباتًا واستقرارًا، لكن اسم بنت الله أثار لديها القلق ليالى طويلة، تقول: حاولت أن أغيره فهو اسم ينتهك المحرمات فى حد ذاته، فكيف تجرؤ فتاة أن تحمل اسمًا محرمًا إلى جانب حملها جنينًا غير شرعى، وقد يباح فى المسيحية أن نسمع اسم ابن الله وهو المسيح، لكن أن نسمع اسم بنت الله فهذا غير وارد تمامًا. 

اتهم تقرير مجمع البحوث الإسلامية الذى تناول مؤلفات نوال السعداوى، وفى القلب منها روايتها «سقوط الإمام» الذى صدر فى العام ٢٠٠٤ بأنها تتعارض مع ثوابت الإسلام، ومن بين ما جاء فيه: الرواية قائمة على أحداث خيالية البطل فيها شخصية محورية، وأطلقت عليه الكاتبة صفة الإمام، وتضمنت إساءات بالغة للإسلام وتعاليمه والشيوخ. 

كان غريبًا أن يعترف الأزهر بأن الرواية خيالية ثم يحاكمها بأعراف الواقع، وهو ما دعا نوال وقتها إلى أن تقول: تقرير الأزهر دعوة إلى القتل وتحريض ضد حياتى. 

تحدثت نوال أكثر عما جرى، وكانت كما هى جريئة وشجاعة فى المواجهة، وكان من بين ما قالته: 

«أنا أتحدى مجمع البحوث الإسلامية وشيخ الأزهر نفسه إن كانت روايتى (سقوط الامام) فيها أى تجاوز ضد الدين الإسلامى، أو ما يخالف الشريعة الإسلامية، فأنا أفهم دينى جيدًا، وأحترمه كما أحترم الأديان كلها، لا كما يروج البعض بأننى ضد الدين الإسلامى». 

«الرواية إبداع فنى» و«سقوط الإمام» تكشف عن الازدواجية الأخلاقية فى العالم كله شرقًا وغربًا، وتقف ضد الاستبداد والقهر السياسى الذى يعانى منه الجميع». 

«كتبت الفصل الأول من الرواية فى السجن عام ١٩٨١ خلال فترة اعتقالى فيما سمى بحملة سبتمبر الشهيرة، وقد اشتعل خيالى بالفكرة وأنا وسط السجينات من تاجرات المخدرات والمومسات وغيرهن ممن وجدت نفسى بينهن، والإمام فى الرواية هو الزعيم السياسى الذى يستخدم الدين ويوظفه لأغراض سياسية، والإدانة تلحق بكل من كانوا على شاكلته». 

«لقد زرت السودان مباشرة بعد خلع النميرى، ودخلت قصره ضمن وفد، وأدخلونا إلى غرفة قالوا إنها غرفة الصلاة، وبها باب سرى إلى غرفة الخمر، وهو الذى أعلن عن تطبيق الشريعة وتجريم الخمور، حتى فى أمريكا وأوروبا هناك استغلال للدين وتوظيف له فى السياسة، بوش نفسه يستند إلى قوة مسيحية أصولية دينية متطرفة وخطيرة، وفى أوروبا الكنيسة لها دور رهيب، والتيارات الدينية المتشددة فى أمريكا أكثر بشاعة منها فى إنجلترا». 

«أى كاتب أو مبدع يطرح أفكارًا جديدة تفهم على أنها بدعة فى بلادنا، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار، والذين لا يفهمون الإسلام يتصورون أن كل جديد مختلف يسىء إلى الإسلام، إذن علينا قراءة التاريخ، فأنا لم يكن قصدى إثارة الناس، ولكن بيان الأسباب السلبية التى تحدث اليوم، مثل التقاتل الذى يحدث فى الحج لتقبيل الحجر الأسود لكثرة الحجاج، والدين لا يقول للناس أن تتقاتلوا لتقبيل الحجر، فالإسلام دين العقل والعدل والحرية، ووجهة نظرى كانت مبنية على الحب والغيرة على الدين الإسلامى». 

كان يمكن أن تجبن نوال السعداوى.. أن تتوقف عن الطريق الذى تسير فيه، لقد واجهت المجتمع بما لديها، لكنه لم يهتم، فذهبت تبحث عن أسباب تجبر الرجال وتكبرهم وغرورهم وبطشهم فى منطقة الجذور، فاكتشفت أن فهم الرجال للدين هو الذى يقود سلوكهم ضد النساء، فقررت أن تقتحم المنظومة من أساسها. 

رأت أن «سقوط الإمام» ليست كافية، فأخرجت للنور مسرحية «الإله يقدم استقالته فى اجتماع القمة»، وهى المسرحية التى أعتبرها الأكثر جرأة فيما كتب فى أدبنا العربى قديمًا وحديثًا فيما يتعلق بنظرتنا إلى الله. 

قررت نوال أن تعقد محكمة علنية للإله، يكون المدعون فيها الأنبياء الذين أرسلهم لهداية الناس، وأعتقد أن هذه المسرحية هى قمة مشروع نضال نوال الفكرى، فقد قالت فيها كل شىء. 

المسرحية رغم مصادرتها إلا أنها متاحة وموجودة يمكنكم الاطلاع عليها، وإن كان مهمًا هنا أن نثبت ما قاله الله فى نهاية الاجتماع، ففيه إجمال لما جاء فى هذه المحاكمة، وأعتقد أنكم ستكونون فى حاجة إلى حبس أنفاسكم حتى تنتهوا من القراءة، التى أتمنى أن تكون بعقولكم، فتداخل القلب هنا يمكن أن يفسد عليكم ما كتبته نوال. 

يقول الله: «لم أعد راغبًا فى البقاء إلى أبد الآبدين، لقد مللت الخلود والانعزال عن الناس فى السماوات العليا، حين طلبتم منى الحضور لاجتماع القمة هذا جئت إليكم بهذا الشكل الآدمى، وإلا فزعتم من أى شكل آخر، أردت أن أهبط إليكم على شكل (روح)، لكن الروح لا شكل لها ولا وجود لها إلا فى الخيال، كيف يتحول الخيال إلى مادة أو قوة؟ هذه هى كتبى السماوية حين تطبع وتتحول إلى دساتير تحملها الأحزاب الدينية، وهى أحزاب سياسية تتصارع على السلطة على الأرض والمال، كما هو حادث فى العالم كله شرقًا وغربًا، وقد غضبت مثلكم بسبب المذابح التى ذهب ضحيتها الآلاف من الشعب الفلسطينى، وغضبت مثلكم لما يحدث من قهر النساء باسمى، أو نهب لموارد الشعوب وأراضيها باسمى، وكنت غارقًا مستغرقًا فى عبادة ذاتى لأكثر من خمسة آلاف عام أفرض عليكم عبادتى وأنا مجرد فكرة من الخيال».

«وبعد أن استمعت بأذنى إلى كل أقوالكم وأقوالكن، أنتم الرجال وأنتن النساء أعترف لكم ولكن أننى قد تحيزت للرجال دون النساء، وجعلت الرجل مسيطرًا على المرأة دون وجه حق، وتحيزت لقوم إبراهيم ووعدتهم بأرض شعب آخر دون وجه حق، لقد وقعت فى أخطاء وتناقضات كثيرة لكنى كنت أعود إلى طبيعتى الإنسانية الأولى وأعود إلى الخير والمساواة والرحمة والحب، وربما لهذا السبب بقيت كتبى الثلاثة حتى اليوم، إذ وجدت فيها الشعوب المقهورة والنساء المقهورات سلاحًا للدفاع عن حقوقهم وحقوقهن، كما وجد فيها أيضًا الملوك ورؤساء الدول والحكومات سلاحًا لقهر الشعوب والنساء والفقراء». 

«لكن أيها السادة والسيدات إن البشرية تتقدم إلى الأمام، ولم يعد أحد يرجع إلى نظرية الخلق التى وردت فى كتابى، أصبح العلم الحديث هو المرجع الوحيد للمعرفة الحقيقية، ولم تعد كتبى إلا للحفظ فى المتاحف وفنادق الفقراء وأقسام التاريخ والدين فى المدارس والجامعات، هذا من الناحية الأكاديمية فقط، لكن من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية فلا تزال كتبى هى الأساس رغم التقدم فى العلوم الأخرى، وهذا خطير أيها السادة والسيدات، هذا الانفصال بين العلم والسياسة والثقافة، وهو انفصال أنا المسئول عنه لأنى فصلت الجسد عن العقل أو الروح، فى حين أنه لا يوجد جسد بدون روح ولا توجد روح بدون جسد وعقل». 

«هذه الفكرة لم تكن فكرتى فى الأصل، نقلتها عن الملكة (تى) أم الإله إخناتون، وهو نقلها عن أمه ثم حذف اسمها من التاريخ، ونقلت عن إخناتون كلماته ووضعتها فى كتابى التوراة دون أن أشير إليه، بل إن فكرة وجود الروح منفصلة عن الجسد لم تكن فكرتى فى الأصل، ولكنها فكرة الآلهة الفراعنة الذكور فى مصر القديمة فى حربهم ضد الإلهة الأم الكبرى إلهة الحكمة والخصب والطبيعة، اخترعوا فكرة تقول إن كل طفل يولد شبيهان له يولدان معه ولا تراهما العين البشرية، لا تراهما إلا عين الإله فرعون، الشبيه الأول اسمه (كا) والشبيه الثانى اسمه (با) وهما الروح التى تلبس جسم الطفل حتى يكبر ويموت، ثم يفارقان جسمه ويطيران فى السماء على شكل طائر هو الروح، واخترعوا فكرة عقاب الأرواح بعد الموت على يد إلهة تشبه الوحش هى عدوتهم الإلهة نوت، وكانت إلهة السماء، وزوجها جيب إله الأرض، واخترعوا دار الحساب فى الحياة بعد الموت، وجعلوا فيها ميزانًا يزن السيئات والحسنات، وكان يوضع مع كل ميت فى القبر كتاب اسمه (كتاب الموتى)». 

«لقد أخذت عنهم كل هذه الأفكار ووضعتها فى كتبى الثلاثة عن الحياة الأخرى والجنة، والحقيقة أيها السادة والسيدات أننى كنت أعيش فى مصر القديمة، وكنت أسع إلى الحكم بعد أن أحارب فرعون وأقتله، عاصرت الفراعنة وقت رمسيس الثانى الذى حكم مصر من ١٣٠١ إلى ١٢٣٥ قبل مولد عيسى المسيح الذى جعلته ابنى، أما موسى فقد عاش فى مصر معى فى عهد رمسيس الثانى وكان يسمى الفرعون منفتاح وهو (فرعون الخروج) الذى حاربته وانتصرت عليه مع موسى وقومه إسرائيل، كانت هى الحرب انتصرنا فيها وتصادف أن هجم على مصر من الصحراء أسراب من الجراد فانتهزت الفرصة وقلت أنا الذى أرسلت هذا الجراد، أما الفراعنة الأغنياء والطبقات العليا فقد نجوا من الأذى». 

الصفحة الثانية عشر من العدد الرابع والعشرين لحرف

«هكذا كنت أوجه ضرباتى دائمًا إلى الضعفاء الفقراء من النساء والأطفال والعبيد، وكانت عمليات الختان والإخصاء تجرى للعبيد فقط ولا تجرى للآلهة الفراعنة أو الأسياد، وحين صارت مصر تحكم من المقدونيين بعد انتصار الإسكندر الأكبر المقدونى وأنشأ عاصمة جديدة على شاطئ البحر سميت الإسكندرية على اسم الغازى فرض الحكام الجدد اللغة اليونانية على الشعب المصرى، وتم إلغاء ديانة إيزيس التى كانت تدعو إلى العدل والمحبة والحرية، وقتل كهنة إيزيس وحرقت كتبها وصورها، فرض على الشعب المصرى عبادتى من خلال كتابى التوراة المترجم إلى اليونانية السكندرية وهى الترجمة السبعينية، وبعد موت الإسكندر الأكبر استولى البطالمة على مصر وفلسطين التى وقعت تحت حكم ملوك سوريا السلوقيين ١٩٨ قبل ميلاد المسيح». 

«وفى جميع الأحوال أيها السادة والسيدات لم تكن ترجمة كتبى التوراة أو الإنجيل أو القرآن تتم إلا بقرار من الحاكم المسيطر، أنتم تقولون إن الحكام كانوا يحاربون باسمى، لكنى كنت أحارب باسم الحكام فى الحقيقة، وكنت واحدًا من الفراعنة اضطر للفرار من مصر وأراد أن يشيد إمبراطوريته فى أرض كنعان وفلسطين مع موسى وبنى إسرائيل، ولهذا جاءت التوراة باللغة العبرية لأنى كنت أخاطب قومى من بنى إسرائيل ولم أكن أخاطب الشعب المصرى المحكوم برمسيس الثانى». 

«هذا هو تاريخى أيها السادة والسيدات وقد حذفت اسم أمى من التاريخ كما فعل إخناتون وحذفت أم آدم أيضًا ووضعت نفسى مكان الأم الكبرى التى ولدت أول إنسان على الأرض، وجعلت نفسى خالق الكون فى ستة أيام حتى جاء العلم الحديث فكشفنى ولا يمكن لى بعد اجتماع اليوم أن أستمر فى هذه اللعبة، ولا بد من وضع الأمور فى نصابها والاعتراف بالخطأ، فالاعتراف بالخطأ أفضل من الاستمرار فيه». 

«لقد آن لهذا العالم أن يواصل حياته وتقدمه بدون إله وبدون شيطان أيضًا، وبدون هذا التقسيم الخطير بين الجسد والروح، هذه الآفة التى عذبت الإنسان أكثر من خمسة آلاف عام، وجعلت الجسد أدنى من العقل والروح، لأصبح أنا العقل وأنا الروح العليا، ويصبح الإنسان بجسده هو الأدنى، انقسم الإنسان إلى رجل يرمز إلى العقل البشرى، وإلى امرأة أدنى ترمز إلى الجسد والعقل والروح، كما وضعت عداوة بين الإنسان والطبيعة والكائنات الحية الأخرى ومنها الحية والثعبان». 

«إن أخطر شىء يهدد قوة الإنسان هو ذلك التقسيم، لكنى فى حاجة إلى إضعاف الإنسان لأكون أنا الأقوى حتى يصبح الإنسان عبدًا يعبدنى ويخاف من نارى أو يطمع فى جنتى، لم يحبنى أحد حبًا حقيقيًا، لأن الحب والخوف لا يجتمعان فى قلب واحد، أنا فى حاجة إلى الحب أيها السادة والسيدات، الحب الحقيقى بلا خوف من نار أو طمع فى جنة».

«كنت إلهًا قاسيًا فى الحقيقة، أعوض قسوتى بالكلام عن الرحمة والعدل، كنت أنا أيضًا منقسمًا على نفسى، أفصل بين جسدى وروحى، أنكر جسدى وأتصور أننى لست إلا روحًا فى الهواء، وحين جاءت اللحظة الحاسمة لأهبط إليكم فوق الأرض لم يكن لى مفر إلا الرجوع إلى الحق وارتداء جسدى الذى ترونه أمامكم أيها السادة والسيدات، وهو جسد رجل يدعى أنه ليس بشرًا، وجسد إنسان يدعى أنه إله، وقد آن الأوان أن أظهر على حقيقتى، وأعلن عن استقالتى من منصبى، منصب الإله الواحد الخالد إلى الأبد، إن الخلود نقمة وليس نعمة، تصوروا الحياة بلا موت ماذا تكون؟ إنى أفضل أن أكون إنسانًا ميتًا يستمتع بالحياة والحب والجنس والحرية وجميع زينات الدنيا عن أن أكون إلهًا حيًا بلا حياة ولا جنس ولا حب ولا حرية إلا الفراغ الخالد، إن قضية الحب مثل قضية الحرية لا تتجزأ، وإذا خلت السماء من الحب والحرية خلت الأرض أيضًا من الحب والحرية، وإذا كان إله السماء ديكتاتورًا فهل يعرف الحكام فوق الأرض شيئًا غير الديكتاتورية؟». 

لا أعرف على وجه التحديد رد فعلك على ما كتبته نوال فى مسرحيتها إذا كنت تقرأه للمرة الأول، فحكمك من حقك وحدك، لكننى سأحدثك عما شعرت به ورسخ فى يقينى، فبعد أن قرأت ما كتبته أيقنت أنها تعرف الله أكثر منا جميعًا، وهو ما دفعها إلى أن تتعجل لقاءه على الأرض قبل أن تصعد لتقابله فى السماء. 

وقبل أن تقطع الطريق علىّ وتقول: كيف قابلت نوال الله على الأرض وقد كتبت عنه ما كتبت؟ 

سأقول لك إن دليلى على ذلك أن الله كان يقف وراءها فى كل معاركها التى خاضتها لتصحيح صورته فى مواجهة مَن حاولوا تشويهه والسطو عليه، لقد حماها الله ممن ادّعوا أنهم وكلاؤه، لأنهم كانوا مجرد وكلاء كذبة. 

لقد كتبت نوال ما فهمته، وما وصلت إليه من خلال أسفارها وقراءاتها وتجاربها التى خاضتها فى الحياة، وعندما جلست لتصيغ مسرحيتها «الإله يقدم استقالته فى اجتماع القمة» وهى المسرحية التى انتهت منها فى جلسة واحدة امتدت لساعات، لم تعمد إلى تجريد الله من قداسته، أو تشوه صورته التى نحتفظ بها جميعًا، ولكنها كانت محاولة لإعادة رسم الصورة حتى تصبح أكثر عدلًا ورحمة. 

أشعل الحاج محمد مدبولى- دون أن يقصد- النار فى نوال عندما أعاد طباعة مسرحيتها، دارت آلة التكفير المتوحشة مرة أخرى، حاصرتها الكتابات المتشنجة، وتقدم عدد من المحامين ببلاغات ضدها، وطالبوا بإسقاط الجنسية المصرية عنها، ووضع اسمها على قوائم ترقب الوصول، فقد كانت تواصل عملها فى الولايات المتحدة الأمريكية كأستاذ زائر فى إحدى جامعاتها. 

كان الاتهام الذى علقوه فى رقبة نوال أنها نشرت سلسلة كتابات من شأنها إثارة الفتنة فى المجتمع، وازدراء الأديان والتطاول على مبادئ الشريعة الإسلامية. 

وجدت أن لنوال دينًا فى رقبتى ولا بد أن أقوم بسداده بما أعرف وأستطيع إليه سبيلًا، ولم أكن أملك إلا قلمى فكتبت، دافعت عن حقها فى أن تكتب وتبدع كما تشاء، وإذا كان هناك مَن يرفض ما تكتبه، فعليه أن ينازلها على الورق وليس فى ساحات المحكمة. 

لم أكتب مقالًا عابرًا، بل قدت حملة صحفية جندت خلالها كل ما أعرف عن نوال، لأقول إن هذه السيدة تستحق منّا أن نكرمها لا أن نهينها هذه الإهانة البالغة، وكان أن رفضت محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة إسقاط الجنسية عن نوال، وقالت فى حيثياتها إنه من حق المواطن التنقل والترحال والعودة إلى وطنه، وفق ما تضمن له الأحكام الدستورية والمواثيق الدولية بشأن حرية الرأى والفكر. 

وأضافت المحكمة أن القانون حدد حالات إسقاط الجنسية بشكل قاطع، وليس من بينها ما ينطبق على نوال السعداوى لمجرد إبدائها رأيًا أو اعتناقها فكرًا، انطلاقًا من أن التعبير عن الآراء يمثل موقفًا ذاتيًا شخصيًا لمصدره، وهو ما يستوجب حمايته قانونًا. 

يومها علقت نوال على ما جرى بقولها: لم أخن الوطن حين قررت نشر كتاب فكرى حتى يسقطوا عنى الجنسية المصرية، بل دافعت عن وطنى وسجنت ونفيت من أجل قول كلمة الحق، ولم أندم على فعل ذلك. 

وأضافت: الجنسية المصرية حق لكل مواطن، وكذلك الكتابة حق لكل مواطن، وهى تندرج تحت باب الحريات والحقوق فى الدستور المصرى. 

أثناء هذه الضجة سألت الحاج محمد مدبولى، ناشر أعمال نوال، عن حقيقة حرقه نسخ مسرحية «الإله يقدم استقالته فى اجتماع القمة»، فابتسم ساخرًا وقال: «أعمال نوال لا تستحق الحرق.. يستحقه مَن يطالبون بذلك.. ولست مجنونًا حتى أحرق كتابًا.. لقد قلت ذلك حتى أخفف الضغط عليها.. فمثل نوال يجب أن نضعها فوق رءوسنا».

عندما عادت نوال إلى مصر وجدتها تتواصل معى تليفونيًا، وكانت هذه هى المرة الأولى التى نتحدث فيها، ووجدتها يومها تقول لى: عندما كنت أقرأ كلماتك عنى كنت أشعر بأن عمرى لم يضع هدرًا.. وعندما تأملت وقفتك معى شعرت بأن الله يقف إلى جوارى. 

لم تكن مطاردة نوال فى المحاكم لأسباب فكرية، بل كانت هناك فى الغالب أسباب سياسية. 

قبل هذه الضجة كانت قد أقدمت على ما لم تقدم عليه امرأة مصرية أخرى. 

فى نهايات العام ٢٠٠٤ أعلنت أنها سترشح نفسها فى الانتخابات الرئاسية لمواجهة الرئيس مبارك فى الانتخابات التى ستجرى فى أكتوبر ٢٠٠٥. 

وصفت نوال قرارها بأنه «عملية فدائية» من أجل تحريك الشعب المصرى وحثه على التعبير والمطالبة بتغيير الدستور، وأنها لا يهمها الحصول على المنصب، فالفكرة فى النهاية هى التى تهمها. 

تحدثت نوال عن الفكرة، قالت: جاءتنى من إلحاح الشباب والشابات الذين يتابعون أعمالى، ويترددون علىّ ويطلبون منى دائمًا إيجاد فرص عمل لهم بالخارج، لأنهم ليس لديهم أمل إلا فى الهجرة، ولكنى كنت دائمًا أؤكد لهم ضرورة أن يكافحوا فى بلادهم، ومن هنا جاءة فكرة الخروج من النظام الحاكم الخانق الذى يسيطر على قلوب الأغلبية الفقيرة العاطلة فى مصر. 

كان لدى نوال برنامج محدد يتمثل فى ربط الأحداث الخارجية بالداخلية، وعدم فصل السياسة الخارجية عن الداخلية، وفصل الدين عن الدولة بحيث تكون جميع القوانين مدنية، بما فيها قوانين الأحوال الشخصية وقوانين الأسرة، وتغيير سياسات التعليم من جذورها، بحيث تقوم فلسفة التعليم على الجدل والنقاش فى كل شىء، ولا يكون هناك سقف أمام العقل الإنسانى، وإلغاء الشروط المقيدة للتنظيمات السياسية والأحزاب والجمعيات الأهلية، وإدارة التأمينات الاجتماعية بطريقة مستقلة تحت إشراف المنتفعين منها فلا يحق للدولة استغلالها فى غير أغراضها، وتحرير الاقتصاد المصرى بحيث ننتج ما نأكل ونأكل ما ننتج، لأننا أصبحنا نستورد كل شىء بسبب الاستعمار الاقتصادى الأمريكى ومشروعات البنك الدولى. 

صمت رجال السياسة، لم يعترض أحد منهم على ترشيح نوال السعداوى نفسها لرئاسة الجمهورية، فعلها رجال الدين، الذين اختلفوا حول ما أعلنته. 

 

ففى الوقت الذى أيد شيخ الأزهر وقتها الدكتور محمد سيد طنطاوى، ترشيح نوال للرئاسة بقوله: لا تمنع الشريعة الإسلامية المرأة من تولى منصب رئيس الجمهورية، فعمل المرأة فى الإسلام يتوقف على مدى مواءمته وملاءمته لطبيعة المرأة، والإسلام لا يحدد عملًا معينًا للمرأة، ولا أرى مانعًا من تولى المرأة رئاسة أى دولة فى العالم، لأن هذا حقها الذى يكفله الإسلام- وجدنا الدكتور على جمعة، الذى كان وقتها مفتيًا للديار المصرية، يقول: لا يصح لأى امرأة أن تتولى رئاسة الدول وتقوم على رعاية الشعوب سواء كانت هذه الدولة إسلامية أم لا، فما بالنا وهذه المرأة هى نوال السعداوى. 

لم تتقدم نوال للترشح، اكتفت بتحريكها المياه الراكدة، فهى لم تكن طالبة للسلطة ولم تكن راغبة فى الاقتراب منها، ومن بين ما قالته لى: طول عمرى أرفض الاقتراب من السلطة، لأن كل مَن حولها منافقون، وبسبب موقفى هذا تعرضت لأضرار كثيرة أهمها عدم الاعتراف بى ككاتبة، ورغم أنه دائمًا كانت تأتينى دعوات من السلطة لكننى لم أستجب لها. 

فى ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٤ كتبت نوال مقالًا مهمًا كان عنوانه «أنا أفكر إذًا أنا لا أصلح رئيس دولة»، روت فيها أصداء قرارها والجدل الذى خلفته وراءها، ناقشت فيه رجال الدين الذين قالوا إن المرأة لا تصلح للرئاسة بسبب طبيعتها الفسيولوجية وما تعانيه طوال فترة الحيض.

ما رأيكم أن نسمعها معًا وهى تعلق على هذا الرأى؟ 

تقول: يا إلهى.. هل منع الحيض مارجريت تاتشر من عملها الرئاسى؟ هل يمنع الحيض عمل الفلاحة المصرية التى تشقى فى الحقل مثل الرجل من الشروق إلى الغروب، هل منع الحيض الشابات الرياضيات فى المسابقات الأوليمبية من اللعب ومنافسة الرجال؟ ومن قال إن الحيض مرض يعطل المرأة عن العمل؟ بل إن الحمل والولادة نفسها لا تعطل النساء العاملات فى الحقول والمصانع والمكاتب والسفارات العربية والأجنبية. 

وتسخر نوال من قولهم، فتقول: لا شك أن كلمة الحيض تبدو شاذة بل مضحكة، حين تخرج من أفواه هؤلاء الرجال، خاصة أن أغلب النساء العاملات فى حقل السياسة أو الانتخابات الرئاسية أو غير الرئاسية تجاوز الخمسين عامًا من العمر، حيث لا حيض ولا يحزنون. 

وتختم نوال مقالها بقوله: لعل أكثر ما أضحكنى أن أحد المعارضين لهذه الحركة قال: لماذا تنزل كاتبة ومفكرة إلى معترك السياسة والانتخابات الرئاسية؟ وهل يحتاج رئيس أى دولة إلى الفكر أم إلى القوة العسكرية؟ وهذا يقودنا إلى السؤال: ما مؤهلات جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وهل يملك شيئًا من الفكر؟ وألا يجوز لى أن أقول الآن: أنا أفكر إذًا أنا لا أصلح رئيس دولة. 

ظلت علاقة نوال السعداوى بالسلطة لغزًا كبيرًا لم يستطع أحد حله، فعلت هى ذلك. 

لقد اعترفت بأنها لا تحب الاقتراب من السلطة، وأنها تلقت دعوات كثيرة من السلطة لتشارك فى الاحتفاليات العامة التى يحضرها الرئيس، لكنها لم تكن تستجيب، والحقيقة أن نوال استجابت لدعوات السلطة مرة واحدة، وبعدها لم تظهر على خريطتها. 

تكشف لنا نوال بنفسها عما حدث، وتساعدنا فى فك شفرة لغزها مع السلطة. 

فى كتابها «ملك وامرأة وإله» نشرت مقالًا مهمًا ليس لها ولكن لكثيرين عنوانه «الكبارى مع السلطة»، قالت فيه: «كان صديقى الأديب الراحل يوسف إدريس ينصحنى دائمًا بعمل كبارى مع السلطة الحاكمة، وإلا فلن أنال أبدًا لقب الكاتبة الكبيرة أو جائزة الدولة، ولن يلتفت أحد من المسئولين الكبار أو الصغار إلى كتاباتى. 

دار هذا الحوار بين يوسف ونوال. 

نوال: وهل أنت تعمل كبارى مع السلطة؟ 

يوسف: نعم.. كنت أقابل السادات كثيرًا، وأقابل مبارك أحيانًا، ولى علاقة بأغلب الوزراء والمسئولين. 

نوال: يا يوسف أنت أديب مبدع ولست فى حاجة إلى السلطة. 

يوسف: لا يوجد مبدع فى مصر يمكن أن يستمر فى إبداعه دون حماية من السلطة الحاكمة، عندنا يا نوال مافيا الأدب والثقافة يمكن أن تنهشك نهشًا، أو على الأقل تطردك من الساحة الأدبية إن لم تكن لديك حماية من رئيس الدولة أو مسئول كبير، لقد اختلفت مع مبارك مرة واحدة، وكاد يخلعنى من ظهر الأرض، فأرسلت له شكوى قلت فيها: إنى أشكو منك إليك. 

نوال: أذكر يا يوسف أنى قرأت مقالك فى جريدة الأهرام، ودهشت كيف تخاطب مبارك كأنه الله تشكو منه إليه. 

يوسف: الواقع المؤلم يحتم علينا أن نعمل كبارى مع السلطة، وإلا تم تدميرنا دنيا وآخرة، لأن السلطة الحاكمة فوق الأرض تعمل كبارى مع السلطة الحاكمة فى السماء. 

ضحك يوسف لكن نوال لم تضحك، حددت فقط موقفها من السلطة بقولها: لم أستطع فى كل حياتى عمل كوبرى واحد مع السلطة، وإن تقرب أهل السلطة منى مرة واحدة سرعان ما يقررون عدم تكرارها أبدًا، ليس لعدم احترامى لهم، بل لعدم احترامهم لمن هو خارجهم، دائمًا أكون خارج السلطة الحاكمة، كالماء والزيت، لا سبيل للخلط. 

تدلل نوال على ما تقوله بحكاية لم تنسها أبدًا. 

تقول: حضرت مرة واحدة اللقاء الفكرى الذى كان يعقده مبارك مع الأدباء والمفكرين خلال معرض الكتاب السنوى، الصفوف الأمامية مخصصة للموظفين الكبار، الوزراء والإعلاميين والمقربين من الرئاسة ووزارة الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة، مقاعدهم كبيرة ومغطاة بالقطيفة الحمراء، أما النصف الخلفى للقاعة فتشغله كراسى صغيرة من القش مثل كراسى البوابين وعمال الخدمة. 

سارت نوال، كما تقول، على قدمين ثابتتين إلى الصف الأول، جلست على المقعد الكبير القطيفى الأحمر، فقامت القيامة من حولها. 

تقول: كأنما خرقت نظام الكون، أخذ رجال الرئاسة وعلى رأسهم رئيس الديوان زكريا عزمى يدورون حول أنفسهم حائرين مذعورين، لم أعرف لمَ هم خائفون، قلت لهم: أنا الوحيدة المسئولة عن تصرفاتى، قال أحدهم: نحن مسئولون أمام فخامة الرئيس عن تصرفات الآخرين. 

ترسم نوال صورة لما حدث بدقة: عن يسارى كان يجلس على كرسى قطيفى كبير رئيس اتحاد الكتاب ثروت أباظة، سمعنى أناقش رئيس الديوان، أرفض أن أنتقل إلى الكراسى القش فى المؤخرة، قال لى ثروت: كل الأدباء يجلسون على الكراسى القش، قلت له: المفروض أن يجلس الأدباء فى المقدمة مثلك، لأن الاجتماع مخصص لهم، وكان لطفى الخولى جالسًا إلى يسار ثروت أباظة، فقال لى: الكراسى مش مهمة يا دكتورة، قلت له: اذهب يا لطفى واجلس على الكرسى القش فى المؤخرة. 

تكهرب الجو فى القاعة، تأخر ظهور مبارك انتظارًا لحل الأزمة، قال أحدهم: إنه أمر الرئيس، فردت نوال: يعنى أمر الله؟ أخبرتهم بأنها لن تترك مكانها حتى يأتى الرئيس لتعترض أمامه على الوضع ثم تنسحب من الاجتماع، فرد عليها موظف بالرئاسة: كل المقاعد مشغولة، لا يوجد كرسى واحد فاضى، فوجدت الدكتور مفيد شهاب يقول للموظف بغضب: هات كرسى بسرعة للدكتورة نوال، فهى لن تتنازل عن حقها، أنا عارفها، وفجأة ظهر الكرسى فورًا. 

وتتساءل نوال: كيف جاءوا بالكرسى القطيفى الأحمر لأجلس عليه فى الصفوف الأولى؟ كان الاجتماع قد تأخر، مبارك غاضب عليهم بسبب التأخير، لم يكن من حل للأزمة إلا أن يضربوا الأرض ليخرج من بطنها المقعد القطيفى الأحمر، تم أيضًا استدعاء الدكتورة أمينة الجندى من بيتها لتحضر الاجتماع فورًا، كانت هى وزيرة الشئون أو أمينة المرأة فى الحزب الحاكم، تلبى الأمر فورًا، هل عجزوا عن استدعاء السيدة الأولى بهذا الشكل المتهور؟ ولماذا الإصرار على امرأة أخرى تجلس فى الصفوف الأولى؟ هل كانت الحكومة ستسقط أو وزير الإعلام سيسقط لو ظهرت صورتى متربعة على العرش وحدى كأننى السيدة الأولى؟ 

فى اعتقادى لم يكن صدام نوال السعداوى مع السلطة لأنها كانت تعارضها فقط، ولكن لأنها كانت تعتبر نفسها هى أيضًا سلطة تستمد قوتها من إبداعها ونضالها وفكرها.. تعاملت بندية فى مساحة لا يتسامح أحد بالندية فيها أبدًا، ولهذا جرى لها كل ما جرى، أو على الأقل ما تعتقد أنه جرى. 

فى يناير ٢٠١١ شاركت نوال فى أحداث الثورة التى، كما قالت، ظلت تحلم بها طوال عمرها، تركت الكاتبة الكبيرة أوراقها وأقلامها ودراساتها وخيالها لتشارك فى صناعة الواقع على الأرض، ظلت طوال أيام الثورة فى ميدان التحرير، نصبت لنفسها خيمة لم تغادرها إلا بعد رحيل مبارك، وهى الخيمة التى كانت قبلة لمُحبى نوال ومريديها. 

كان عمر نوال وقت الثورة ٨٠ عامًا، مواليد العام ١٩٣١، لكنها شاركت بروح شابة حرة ومنطلقة، تقول ببراءة الأطفال التى لم تغادرها أبدًا: نزلت ميدان التحرير وعشت مع الشبان والشابات فى الخيام، وفى إحدى المرات كانت الدنيا بردًا شديدًا، كنت لا أستطيع النوم على الأسفلت من شدة البرد، كنت أضطر للعودة إلى بيتى، أحيانًا الساعة الثانية فجرًا، وكان الشباب بيوصلونى البيت على الموتوسيكل، ما كانش فيه مواصلات. 

عاشت نوال الثورة بكل لحظاتها الجميلة والمؤلمة والمفرحة، وعندما وجدت أن الثورة يتم اختطافها عادت إلى النضال مرة أخرى فى محاولة يائسة لاستعادتها. 

كنت أتابع ما تفعله السيدة التى لم يهزمها الزمن، تواصلت معها، وفى وسط صخب الميدان سألتها: لماذا تتواجدين فى الميدان؟ الأمر قد يكون خطرًا عليك، قالت: لقد عشت عمرى كله أنتظر لحظة انتصار أفكارى.. اليوم أنا أنتصر ومن حقى أن أكون موجودة فى ساحة هذا الانتصار. 

عندما استقرت نوال فى مصر جرى ما عصف بحياتها، وجدت الرجل الذى منحته كل حبها وثقتها يتخلى عنها ويذهب إلى امرأة أخرى. 

تزوجت نوال ثلاث مرات. 

فى المرة الأولى كان الزوج هو أحمد حلمى زميلها فى كلية الطب، لم تستمر معه طويلًا، عامان فقط وانتهى كل شىء. 

لم يكن والدها موافقًا على زواجها، لكنها أقدمت تقديرًا له، فقد شارك فى قتال الإنجليز فى القناة، ورغم ذلك، كما تقول هى، جرت خيانة للمقاتلين، والكثير منهم تم حبسه كان هو من بينهم، كسره السجن وعندما خرج أصبح مدمنًا، وقيل لها إنه يمكن أن يعالج من إدمانه إذا تزوجته، لكنّ شيئًا من هذا لم يحدث، ما حدث فعلًا أنه حاول قتلها فتركته. 

الزواج الثانى فى حياة نوال كان رجل قانون، لكنه كان عابرًا للدرجة التى لن تجدها تتحدث عنه لا بالخير ولا بالشر، اللهم إلا إشارات كومضات تؤكد استحالة الحياة بينهما. 

الزوج الثالث الذى عاشت معه نوال ٤٢ عامًا هو الدكتور والروائى شريف حتاتة، كان هو حبها الكبير وهزيمتها الكبرى أيضًا، كانت تعتبره «النسوى الوحيد» على الأرض، لكن الحياة لا تطيب لنا دائمًا، بعد طلاقها منه قالت: كان كاذبًا.. ألف كتبًا عن المساواة بين الجنسين ثم خان زوجته.. أنا متأكدة أن ٩٥ بالمائة من الرجال هكذا. 

حكت لى نوال ما جرى، أسفت على ما حدث، ووجدت نفسى للمرة الأولى معها نواجه بلاغًا تقدم به زوجها السابق إلى النيابة يتهمنا فيه بالسب والقذف فى حقه. 

حدث ما جعلنى أكتشف جانبًا فى حياة نوال لا يمكن أن يتخيله أحد، أو على الأقل لا يمكن أن يتخيله كما جرى. 

كنت قد عرفت بخبر الدعوى القضائية التى رفعها ضدنا زوجها السابق، تواصلت معها لأطلعها على ما جرى، ففوجئت بها تقول لى إنها عرفت بخبر الدعوى منذ قليل. 

سألتها من أين عرفت؟ 

قالت: من زوجى السابق. 

سألتها مرة ثانية: هل هو من أخبرك بنفسه. 

قالت: نعم.. إنه يجلس معى الآن نتغدى سويًا. 

ضحكت كما لم أضحك من قبل، أغلقت الهاتف بعد أن قلت لها: بالهنا يا دكتورة. 

شعرت نوال بأنها هزمت عندما ترك زوجها السابق وراءه ذكرياتهما وحكاياتهما ومعاركهما ودفاعه عنها ودفاعها عنه، لكنها لم تستسلم، تعاملت مع ما جرى كأنه لم يكن، وعندما سألتها، قالت ببساطة: لست أنا المرأة التى يمكن أن تهزمها الحياة. 

على هامش هذه الواقعة فى حياة نوال توطدت علاقتى بها أكثر، شعرت بأنها أخذت منى مخزنًا لأسرارها، وكثيرًا ما كنا نتحدث تليفونيًا بالساعات تحكى لى، ولم أكن أفعل أكثر من الإنصات لها، فما أعظم أن تستمع إلى السيدة التى أجبرت العالم كله على سماع ما تقوله. 

فى منتصف العام ٢٠١٨ كانت نوال تتحدث إلى تليفزيون الـ«بى بى سى» وتطرق الحوار إلى الخطاب الدينى وتحديثه، وهى الدعوة التى تبناها الرئيس عبدالفتاح السيسى، وبتلقائيتها وعفويتها تحدثت عن صخرة النصوص المقدسة التى تقف عائقًا أمام أى وكل تطوير للخطاب الدينى. 

تلقف الأستاذ سمير صبرى المحامى ما قالته، وأعاد الكرة مرة أخرى، وتقدم بدعوى قضائية ضدها أعاد فيها الاتهامات التتى وجهها إليها عندما اختصمها على هامش إعادة نشر مسرحيتها «الإله يقدم استقالته فى اجتماع القمة». 

قررت أن أتحدث إليه، لكن قبل الحديث كتبت بصراحة ووضوح، وكانت رسالتى هى: إلا نوال السعداوى، وقلت: «لست مع الصديق العزيز المحامى الشهير سمير صبرى فى بلاغه الذى تقدم به ضد الكاتبة الكبيرة نوال السعداوى، يتهمها فيه بازدراء الأديان، على خلفية حوارها مع الـ(بى بى سى) الذى تطرقت فيه إلى رؤيتها فى تجديد الخطاب الدينى».

«نوال طوال الوقت تتحدث بعفوية شديدة، تعبر عن أفكارها دون أن تجرى حسابات دقيقة للأثر الذى تخلفه وراءها، تقول ما تعتقد أنه صحيح، بصرف النظر عمن يتفق معها أو يختلف، وأعتقد أن ما قالته هو أن المشكلة التى تعوق تجديد الخطاب الدينى تكمن فى النصوص التى لا بد أن تتغير».

«أخذ كثيرون على نوال مطالبتها بتغيير النصوص المقدسة فى القرآن والإنجيل والتوراة، دون أن يلتفتوا إلى أن ما قالته نصًا أن هناك مدرسة فى الإسلام تقول إنه إذا تعارضت المصلحة مع النص غلبت المصلحة على النص، لأن المصلحة متغيرة والنص ثابت».

«تذهب نوال السعداوى إلى أنه لا ثوابت فى الأديان، وحتى نجدد الخطاب الدينى لا بد من تغيير الثوابت».

«قد تختلف معها، ترفض كلامها كله، لكنه فى النهاية رأيها، يمكن أن نكتب ما نناهض به هذا الرأى، نفنده ونقول لها إنه صحيح، أو غير صحيح، لكن أن نرفع فى وجهها سلاح القانون وتهمة ازدراء الأديان، فهو ما يشيع مناخًا غير صحى تمامًا». 

«وأعتقد أن المحامى الكبير سمير صبرى لو انتبه إلى أن قناة الجزيرة اقتطعت كلام نوال السعداوى من سياقه، وبدأت تروج أن هذا هو مفهوم السيسى لتجديد الخطاب الدينى، فى وصلة تحريض صريحة على السعداوى التى رفضت فى نفس الحوار أن تهاجم السيسى أو تنتقده من المنصة الإعلامية الغربية- لتراجع عن موقفه».

«ولو أدرك أيضًا أن التحريض على السعداوى ليس غيرة على الإسلام ولا عملًا من أجله، ولكنه من باب زرع الفتن وشغل الناس فى مصر بقضايا جدلية لن يستطيع أن يحسمها أحد- لتراجع عن تقديمه لهذا البلاغ».

«أعرف أن سمير صبرى، وهو محام له قدره وقيمته، يقوم بدور وطنى، ولا أريده أن يتورط فى هذه المعركة، التى من المفروض أن تكون فكرية وليست قانونية، نديرها على صفحات الصحف وشاشات التليفزيون بحوار راق ومتحضر، دون أن نقف أمام بعضنا بعضًا فى المحاكم نتنازع ونختلف».

«هذا هدف من يريدون زرع الفتنة فى هذا الوطن، فلا تمكنوهم من هذا أبدًا، يريدون أن يشغلونا عن قضايانا الكبرى.. فلا تجعلوهم ينتصرون علينا هذه المرة».

قرأ سمير صبرى ما كتبت، واستمع إلىّ عندما تواصلت معه، ومرت هذه الزوبعة دون أن تترك أثرًا كبيرًا، وشعرت وأنا أتحرك على خريطة هذه الأزمة أن نوال تخصنى، وأن ما أقوم به هو واجبها علىّ، فقد كانت من بين من زرعوا فى عقلى القدرة على القراءة النقدية، وأن أقول ما أريد دون أن أخشى العواقب أو أخاف من العقبات. 

ولأن لكل شىء نهاية، فقد جاءت الأيام الأخيرة. 

بدأت نوال تتهاوى من فبراير ٢٠١٩، قبل أن تصل إلى نقطة النهاية فى ٢١ مارس ٢٠٢١. 

تحدثت إلىّ فعصرت قلبى بين يديها، ولأننى لا أملك شيئًا إلا كلمتى، فكتبت مرة أخرى، صغت الكلمات بما يتناسب مع قيمتها وقدرها، قلت: «رغم تعبها وإرهاقها الشديد ومعاناتها التى تحاصرها، فإن كاتبتنا الكبيرة الدكتورة نوال السعداوى، لا تفكر فى نفسها فقط، لقد وهبت نفسها مبكرًا جدًا لقضية الإنسان الذى يستحق أن يعيش حرًا كريمًا مكرمًا، وهو ما سمعته منها وهى تحدثنى عن أزمتها الأخيرة».

«تلازم الدكتورة نوال فراشها الآن، تقوى بالكاد على التجاوب مع الاتصالات التى تأتيها، وهو ما يحدث فقط إذا غابت عنها ابنتها الدكتورة منى حلمى، التى لا تغيب إلا نادرًا جدًا».

«ما الذى جرى لنوال السعداوى»؟

«المقاتلة التى لم تضع سلاحها فى معركة الفكر والتنوير رغم سنوات عمرها، ٨٨ عامًا، ورغم كل ما تعرضت له من اتهامات ومطاردات قضائية وحصار مجتمعى، يبدو أنها ستضع هذا السلاح رغمًا عنها».

«كانت نوال بصحة جيدة، عادت من لندن مؤخرًا، لا تعانى من شىء، لكن زيارة إلى مستشفى معهد ناصر جعلتها فى مواجهة الألم والحسرة».

«قال لها الطبيب إنها تحتاج إلى (عملية المياه البيضاء)، استسلمت للعملية، وكانت الكارثة، خطأ طبى جعلها تقريبًا لا ترى، فلم تعد قادرة على قراءة الصحف أو مطالعة البريد الإلكترونى الخاص بها».

«لم تستطع وهى من هى، أن تقابل الطبيب الذى تعاملت معه فى المستشفى، طلب منها أن تذهب إلى عيادته الخاصة، وفى دوامة ألمها قالت لى: ده بيتعمل مع نوال السعداوى، يبقى إيه اللى ممكن يتعمل مع الناس اللى مفيش معاهم حاجة ولا يعرفوا حد.. هل وصلنا إلى هذه الدرجة؟».

«لك أن تتصور حالة الكاتبة الكبيرة وهى تعانى من عدم قدرتها على القراءة، عدم استطاعتها الكتابة، عدم تمكنها من الوصول لأحد.. كيف تشعر وقد أنفقت عمرها من أجل الإنسان، فإذا بها تجد نفسها وحيدة إلا من ونس ابنة، وود قليل من الأصدقاء». 

«الآن جاء الدور علينا لنرد بعض الجميل لنوال السعداوى».

الصفحة الثالثة عشر من العدد الرابع والعشرين لحرف

«تحتاج إلى علاج ورعاية، وعلى الدولة أن تتحرك فورًا، تتواصل معها وتعرف ما الذى تحتاجه، فصعب جدًا أن تجد نوال السعداوى بصرها يتبدد أمامها دون أن نتدخل لإنقاذها».

«بصر نوال السعداوى هو باب بصيرتها، فيجب ألا نقف مكتوفى الأيدى، ونترك خطأ طبيًا يتسبب فى حرمان كاتبة كبيرة من زادها اليومى من القراءة والكتابة».

«لم تطلب نوال السعداوى ذلك، لكن من حقها علينا أن تخصص الدولة سكرتيرة تقرأ لنوال، وتكتب ما تمليه عليها من مقالات.. فمن حقنا ألا نحرم من إبداعها وأفكارها التى كانت، ولا تزال، تقدمها من أجل مجتمع أكثر تصالحًا ورُقيا وتحضرًا».

«أرجوكم تحركوا من أجل إنقاذ نوال السعداوى.. قولوا لها إننا نقدرها ونحترمها ونريد أن نحافظ عليها». 

«إذا قصرنا فى حقها فلن نسامح أنفسنا أبدًا.. ولن يسامحنا من سيأتون بعدنا من أجيال ستقرأ لها وتتعلم منها حتمًا.. قولوا لنوال السعداوى بعد هذه الرحلة الطويلة من العمل والإبداع شكرًا بطريقة عملية.. الفرصة بين أيديكم فلا تضيعوها». 

تلقف المسئولون ما كتبت، وعندما دخلت نوال فى أزمات صحية بعد ذلك وجدت من يقف معها، لكن المقاتلة الشرسة استسلمت فى النهاية، فلا بد لكل منا من يوم نستسلم فيه، وعندما وضعت رحالها ورحلت شعرت بأننى أودع جزءًا من قلبى مع المرأة التى قالت لا.. ودفعت الثمن كاملًا.