الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ماجيد دانشجار: بعض المفكرين يعتمدون روايات تاريخية مزيفة لحشد الجماهير ضد أنظمة الحكم

ماجيد دانشجار
ماجيد دانشجار

- الاستشراق ليس له علاقة بالاستعمار وربطه بـ«الإسلاموفوبيا» غير صحيح

- مثقفون مثل «شريعتى» فرضوا رقابة على الفكر العام لتحقيق مصالحهم السياسية

- على شريعتى أوهم الناس بأن «شاه إيران» هو يزيد قاتل الحسين

- ناصير الدين الطوسى كان المساهم الأكبر فى صياغة لاهوت «الحشاشين»

يمكن وصفه بـ«مكتشف الكنوز» ليس فقط لأنه توصل خلال رحلاته البحثية إلى أعداد كبيرة من المخطوطات التى تعود إلى العصور القديمة، بل لأنه تمكن من اكتشاف ما فيها من أفكار وفلسفات وكتابات، وتحليلها بشكل علمى وترجمتها إلى معلومات وبيانات واضحة وسهلة.

إنه البروفيسور ماجيد دانشجار، الأستاذ فى مركز دراسات جنوب شرق آسيا بجامعة كيوتو باليابان، والذى أجرى ما يمكن وصفه بالسياحة العلمية والبحثية حول تاريخ الحضارة الإسلامية بشكل عام، وركز اهتمامه بشكل أكبر على تحليل تاريخ الحضارة الفارسية فى مختلف أشكالها وعصورها وتطورها.

وحلل «دانشجار» فى دراساته وأبحاثه الكثير من المتغيرات التى شهدتها منطقة الشرق الأول على مدار التاريخ، سواء كانت متغيرات سياسية أو فكرية، متناولًا تاريخ الاستشراق وتأثيره على مظاهر الحياة وتطور العلوم فى بلدان المنطقة.

وأجرت «حرف» حوارًا مع ماجيد دانشجار حول رحلته مع المخطوطات ورؤيته للفلسفة الإسلامية، وحول رؤيته تجاه عدد من الشخصيات الإسلامية البارزة وغير ذلك.

■ تخصصت فى دراسة المخطوطات القديمة.. ما الذى جذبك إلى هذا التخصص؟

- ينصب اهتمامى بالأساس على الشبكات اللغوية، وهى فكرة نابعة من رؤية أن العربية والفارسية والتركية والماليزية والإندونيسية والبنجابية والتاميلية والعديد من اللغات الآسيوية الأخرى كانت جميعها، ولعدة قرون، تُقرأ معًا. حينئذٍ اعتاد المفكرون ومجلّدو الكتب المسلمون على تجميع ونسخ مخطوطات تتميز بأنها تتحدث عن أفكار وموضوعات مختلفة فى نفس الوقت.

لذا يمكن أن نعثر على مخطوطات لمقالات باللغات العربية والفارسية والماليزية عن القانون والقرآن والصوفية مُجلّدة فى مخطوطة واحدة. ليفسرها ويوضحها الجيل التالى من العلماء. وعليه فإن العلاقة بين اللغات المختلفة وطريقة ترابطها ودراستها بشكل جماعى شجعتنى على البدء فى العمل على المخطوطات القديمة.

وبدأت دراستى المتعمقة للمخطوطات القديمة أثناء إقامتى فى كوالالمبور، ووسعت نطاق الدراسة بعد انتقالى إلى نيوزيلندا وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة واليابان.

■ دراساتك ركزت على المخطوطات الفارسية القديمة.. كيف وأين تجد نسخًا منها؟ وكيف تحدد أنها مناسبة ومهمة لأبحاثك؟

- لم يكن الإيرانيون فقط هم مَن يتحدثون اللغة الفارسية، بل كانت لغة ما يسمى بالعالم الفارسى. والأصح عدم حصر حدود العالم الفارسى فيما وصفه مارشال هودجسون والباحث فى جامعة هارفارد شهاب أحمد بـ«الجماعات من البلقان إلى البنغال».

نحن واثقون الآن استنادًا إلى المواد المتاحة، من أن عرب مصر والشام وبغداد كانوا قادرين على قراءة ودراسة وإعادة إنتاج الأعمال الفارسية لعدة قرون، حتى قبل أن تغزوهم أو تحكمهم الإمبراطورية العثمانية.

على سبيل المثال، المخطوطة Or.٥٧٥ الموجودة فى مكتبة جامعة ليدن، وهى مخطوطة «تفسير الشيخ سورآباد للقرآن» وكان قد نسخها حسن بن أحمد البخارى فى مدينة حلب فى سنة ٧٦٩ هـ «١٣٦٧-١٣٦٨ م». وبالمثل، كانت الأعمال الفارسية الأخرى تُقرأ ويُعاد إنتاجها فى جميع أنحاء الصين والعالم الماليزى الإندونيسى.

■ خلال رحلة بحثك.. ألم تجد مخطوطات تتعلق بـالطائفة الإسماعيلية النزارية؟ وهل شاهدت المسلسل المصرى «الحشاشين» الذى يتحدث عنها؟

- للأسف لم تتح لى الفرصة لمشاهدة المسلسل، لكن فيما يتعلق بالمواد الخاصة بالطائفة الإسماعيلية، فتجدر الإشارة إلى أنه يمكن العثور على هذه المواد فى أماكن مختلفة، وفى كل مكان تقريبًا.

ونظرًا لأهمية المناقشات الفلسفية اللاهوتية فى تلك الفترة المهمة، يمكن للمرء أن يعثر على المواد الخاصة بالدور الذى لعبه «الخوجة ناصير الدين الطوسى» ودوره فى تشكيل المسائل اللاهوتية لطائفة الشيعة الإسماعيلية، وقد تزايد اهتمام العلماء والأكاديميين بالجوانب المختلفة لهذه الطائفة الإسلامية، حيث بدأوا بإعادة إجراء الدراسات وإصدار الكتابات النقدية للمواد المتعلقة بالطائفة منذ أوائل القرن العشرين.

■ دراستك الأخيرة «الشتات الإيرانى فى جنوب شرق آسيا.. مخطوطة قديمة ووجهات نظر جديدة»، الصادرة عن مكتبة جامعة ليدن، تناولت تفاصيل الجالية الفارسية إلى جاوة بإندونيسيا وطبيعة الشعر الفارسى القديم هناك خلال القرن الثامن عشر.. أين وجدت هذه المخطوطة؟ وما الذى تحتويه؟

- وجدت العديد من المخطوطات الفارسية التى نسخها الإندونيسيون الماليزيون منذ القرن الخامس عشر الميلادى. وحُفظت جميعها فى مكتبة جامعة ليدن. وعندما حصلت على منحتى الدراسية «منحة دروز» فى معهد سكاليجر بجامعة ليدن، وطوّرت دراساتى عن وجود المواد الفارسية من بانتن، وجاوة الوسطى، وإندونيسيا، حينها لفت انتباهى أن بعض الأعمال الدينية والصوفية كانت مكتوبة باللغة الفارسية أو بناءً على نماذج أولية فارسية، وكتبها السكان المحليون فى جزيرة جاوة. وفى الوقت نفسه، عثرت على رسالة محفوظة فى المكتبة الوطنية الإيرانية، مفادها أن المجتمعات الإيرانية عاشت فى جاوة حتى عام ١٩٤٠.

وطرحتُ فرضية حول ما إذا كان الجاويون على معرفة باللغة الفارسية أو عاشوا مع الفرس، ووجدت ذلك سببًا لاستقبالهم وترحيبهم بالجاليات الإيرانية.

■ ما أهم مخطوطة لديك والتى يمكنك قول «وجدت كنزًا» عنها؟

- هذا سؤال مشوّق ولكنه صعب. جميع المخطوطات التى درستها خلال الأربعة عشر عامًا الماضية تستحق القراءة والتقديم بالتفصيل قدر الإمكان. لكن المجموعة الشرقية لتوماس إربينيوس، المستعرب والمستشرق الهولندى الشهير، وهو صاحب أول كرسى للدراسات العربية فى جامعة «ليدن»، تتضمن بعض المخطوطات النادرة والفريدة.

وبمجرد وفاة «إربينيوس» فى نوفمبر ١٦٢٤، اشترى دوق باكنجهام، الذى اُغتيل عام ١٦٢٨، مجموعة مخطوطاته. وبعد ذلك تبرعت أرملة الدوق بالمجموعة لمكتبة جامعة كامبريدج فى يونيو ١٦٣٢. وتحتوى هذه المجموعة على مواد مكتوبة بأكثر من إحدى عشرة لغة، والتى لا تخبرنا فقط عن بعض المواد الإسلامية النادرة، لكنها أيضًا تعرفنا كيف استُقبلت المصادر الإسلامية والشرقية فى السياقات الأكاديمية الأوروبية فى أوائل القرن السابع عشر. كانت هذه المجموعة موضوع بحثى أثناء عملى فى «منحة مونبى» فى مكتبة جامعة كامبريدج.

■ فى دراستك «كيف يراقب المثقفون الفكر» شرحت تأثير المفكرين ليس فقط على الفلاسفة والعلماء والسياسيين ولكن أيضًا على عامة الناس.. برأيك هل تؤثر العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على هذه الشريحة وتجعلهم أداة لتوجيه الجماهير؟

- درست أفكار عدد من مفكرى القرن العشرين بشكل خاص لأنه القرن المعروف بظهور النظريات والأفكار الاستفزازية والثورية. وفيه أيضًا ظهرت الحركات المناهضة للاستعمار والعبودية التى أسسها الآسيويون المسلمون، والتى مثّلت عنصرًا حاسمًا فى تشكيل فهم جديد للنظام العالمى.

وكانت بعض الشخصيات الإسلامية البارزة تحرض الشعوب فى عصورهم ضد الظلم. وركزت بشكل خاص على دور «على شريعتى» الذى دفعت محاضراته وأفكاره الإيرانيين إلى التظاهر ضد شاه إيران قبل عام ١٩٧٩. وفى دراستى شرحت كيف أن المصادر التى استخدمها «شريعتى» لتشويه صورة الشاه وحاشيته لم تكن دقيقة تاريخيًا، ولم يكن على دراية بالتحليل التاريخى للنصوص الدينية، مثل تلك المتعلقة بقصة مقتل الإمام الحسين، على يد يزيد بن معاوية فى كربلاء عام ٦٨٠م. وظهر «شريعتى» كما لو أنه يريد حث الناس على أن يروا الشاه مثل «يزيد»، ويرونه رمزًا للفساد. لكن المصادر التى اعتمدها لإجراء هذه المقارنة والتحريض كانت غير دقيقة وباطلة تاريخيًا.

وعلى هذا قلت إن مثقفين مثل «شريعتى» فرضوا رقابة على الفكر العام فقط من أجل مصالحهم السياسية والاجتماعية، ولو أنهم عادوا إلى روايات تاريخية دقيقة أو ذات أسس متينة، فلن يتمكنوا من حشد جمهور ضد ما وصفوه بـالحكم الاستبدادى.

■ باعتبارك من أصول شرقية.. هل تسهم الدراسات الاستشراقية المنحازة ضد الإسلام والمسلمين ولو بقدر بسيط فيما أصبح يعرف اليوم بـ«الإسلاموفوبيا»؟

- فى رأيى، وعلى عكس ما قاله إدوارد سعيد، كان الاستشراق دائمًا حركة فكرية عالمية نشطة، وليس بالضرورة نتاجًا غربيًا. عندما يدرس المرء المخطوطات القديمة من العالم الإسلامى سيلاحظ عدد العرب والفرس والهنود والأتراك الذين درسوا «شرقهم» بشكل منهجى، وبرزوا كمستشرقين فى عصرهم. وبنفس القدر لا أعتقد أن الاستشراق مرتبط بالضرورة بـ«الإسلاموفوبيا».

وبطبيعة الحال، هناك ضباط استعماريون عملوا كمستشرقين، وكانوا يتعمدون التقليل من شأن المجتمعات والتعاليم الإسلامية. وأوافق أيضًا على أن الاستعمار الأوروبى صار أكثر عنفًا فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومع ذلك، لا ينبغى لنا تجاهل حقيقة أن المسلمين كانوا ينتجون ويروجون للأدب المناهض لأوروبا والمعادى للمسيحية ولغير المسلمين لعدة قرون، ويطلقون على أراضيهم اسم «دار الحرب أو دار الكفر».

ما أقصده هو أن إذلال وتهميش الآخر لم يكن نهجًا غربيًا، بل كان عالميًا، واستخدمته بعض المجتمعات الشرقية الأخرى. لكن من ناحية أخرى، كان هناك أوروبيون مثل هنرى ستوب الذى كان من أهم المدافعين عن النبى محمد والتعاليم الإسلامية فى بدايات أوروبا الحديثة. وفيما يتعلق بخطابات «الإسلاموفوبيا» و«الاستشراق» ينبغى دراسة هذه القضايا مسبقًا. واسمحى لى أن أضيف أننى لا أضع الاستشراق بجانب الاستعمار. فالأول ينبع من العاطفة الإنسانية والثانى من أحلام الإنسان الجشعة.

■ ما دور العلماء والمثقفين فى تصحيح هذه الصورة؟

- لست متأكدًا إذا كان بإمكانى تصحيح تلك الصورة علنًا. وأفضل ما يمكننى عمله هو تثقيف نفسى. لقد أدركت أمرين حتى الآن. أولًا: الاستشراق لم يكن سيئًا بالمطلق بل كان مشروعًا فكريًا مفيدًا للغاية ومثيرًا للاهتمام. ثانيًا: الاستعمار كان مشروعًا إنسانيًا عامًا، أى شعب ضد شعب، أو الناس ضد الطبيعة، وليس بالضرورة الغرب ضد الشرق أو العكس.

■ فى كتابك عن «الشيخ طنطاوى الجوهرى» المفسر المصرى الذى عاش فى القرن الماضى، تحدثت عنه باعتباره رائد التفسير العلمى للقرآن.. ألا ترى أن كثيرًا من الناس اليوم وأغلبهم من المسلمين غير مقتنعين بهذا النوع من التفسير؟

- نعم، كان الشيخ طنطاوى الجوهرى من العلماء الأوائل بعد أحمد الإسكندرانى، الذى صاغ جنسًا جديدًا من التفسير القرآنى. اختلف العديد من المفكرين المصريين وعلماء الدين المسلمين مع الجوهرى فى تطبيقه للاكتشافات العلمية الحديثة فى تفسيره القرآن. ولكن شئنا أم أبينا بقى هذا النوع واستمر فى الأدب الإسلامى. ومن خلال هذا النوع ظهر اتجاه جديد يُعرف على نطاق واسع باسم الإعجاز العلمى فى القرآن. وتلقى هذا الاتجاه الكثير من النقد.

■ بما أن أبحاثك ذات صلة بالأديان.. هل تعتقد أن الاكتشافات والنظريات العلمية الحديثة، مثل نظرية الأكوان المتعددة وغيرها، ستشكل أكبر التحديات للأديان إذا ثبتت صحتها؟

- إن الإدلاء بإجابة مختصرة عن هذا السؤال وأمثاله أمر صعب للغاية. فالمسألة تعتمد على رؤية المرء للعلاقة بين الدين والعلم. فبعض الناس ينكرون أى علاقة بين الاثنين، ويقارنوهما بالزيت والماء مع استحالة اختلاطهما. بينما تصر مجموعات أخرى، معظمها من علماء الدين والأئمة، على إيجاد طريقة لإظهار العلاقة بين الكتب المقدسة والاكتشافات العلمية. فإذا كانت نظريات الأكوان المتعددة تتحدى التعاليم الدينية فهذا أمر قد يختلف الناس على تفسيره وفهمه.

■ ما خططك العلمية المستقبلية؟

- بدأت عدة مشاريع خلال السنوات القليلة الماضية، أحدها عن مجموعة قديمة من المخطوطات الشرقية فى الغرب، والآخر يتناول فكرة التعددية اللغوية الآسيوية والاستشراق الشرقى.