الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

رجل التلال.. أسرار «نائب ترامب» الروائى الذى كتب عن بؤس الريف الأمريكى

ترامب ونائبه
ترامب ونائبه

- الكتاب يركز على مناطق تغرق فى البطالة والإدمان وكراهية المجتمع

- جى دى فانس كتب «مرثية هيلبيلى» عن «فقراء أمريكا البيض»

- الرواية باعت 1.6 مليون نسخة.. وتحولت إلى فيلم من إنتاج «نتفليكس»

- والدته مدمنة أفيون وجده مدمن كحول.. وجدته أشعلت النار فى زوجها

اختار دونالد ترامب، الرئيس الأمريكى السابق، السيناتور جيه دى فانس نائبًا للرئيس، حال فوزه بالانتخابات الرئاسية، فى نوفمبر المقبل، رغم عدم مرور عامين على تولى أول مناصبه السياسية، وهى عضوية مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو.

وبمجرد ترشيحه لنائب الرئيس، تصدرت رواية «مرثية هيلبيلى» لـ«دى فانس» قائمة الكتب الأكثر مبيعًا على «أمازون»، بعد أن كانت قد دخلت قائمة «نيويورك تايمز» عقب شهرين من إصدارها فى 2016، بجانب بيع ما لا يقل عن 1.6 مليون نسخة منها، ما دفع لتحويلها إلى فيلم من إنتاج «نتفليكس» بنفس الاسم، فى 2020.

وتمنحنا قراءة رواية «مرثية هيلبيلى» بشكل متعمق شفرة دخول لعقل نائب الرئيس الأمريكى المحتمل، فهى عبارة عن مذكراته الشخصية، التى يتحدث فيها عن نشأته فى عائلة تعانى الفقر والوظائف المرهقة جسديًا والمنخفضة الأجر، إلى جانب المشاكل الاجتماعية والاقتصادية لمسقط رأسه فى «ميدلتاون» بصفة عامة.

فى السطور التالية، تلقى «حرف» الضوء على الرواية، التى تكشف الكثير من الأسرار عن حياة «دى فانس»، وكيف يرى نفسه، وهو الصبى الذى خرج من منطقة ريفية فقيرة ليتحول إلى خريج ناجح فى كلية الحقوق بجامعة «ييل».

ترامب ونائبه 

أهل التلال

تقدم رواية جيه دى فانس، التى تحمل عنوان: «Hillbilly Elegy: A Memoir of a Family and Culture in Crisis»، أو «مرثية هيلبيلى- مذكرات عائلة وثقافة فى أزمة»، صورة كاملة عن محنة سكان التلال من الطبقة العاملة البيضاء فى الولايات المتحدة، التى يطلق عليها «Hillbilly» أو «Redneck» أو «White trash».

وبعد نشر الرواية فى ٢٠١٦، عن دار النشر الشهيرة «هاربر كولينز»، أصبح «دى فانس» صوتًا جديدًا لمجتمع منسى، ومفتاحًا لفهم فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية فى هذا العام، بعد أن بدأ المحللون فى استخدامها لشرح شعبية «ترامب» بين الناخبين البيض والريفيين فى انتخابات عام ٢٠١٦.

وفقًا لتحليل «دى فانس»، فإن ارتفاع شعبية «ترامب» جاء نتيجة أزمة ثقافية متمثلة فى فشل القيم والعمل المتدنى للأمريكيين البيض، وليس العداء العنصرى، والتمييز الجنسى، وكراهية الأجانب، أو حتى الضائقة الاقتصادية الملموسة.

وسلطت الرواية الضوء على مناطق أمريكية تغرق فى البطالة والإدمان والإحباط، والشعور بالسخط على المجتمع، وترسم صورة لرجل مهووس بالمكانة وملىء بالازدراء لكل شخص يلتقى به تقريبًا.

وكشف «دى فانس» فى الرواية عن ذكرياته وذكريات عائلته من «أهل التلال» فى شرق «كنتاكى»، مُسلطًا الضوء على ثقافة وعادات شعب «الأبالاتش»، وهم الأمريكيون من أصل أسكتلندى أيرلندى، الذين يعيشون فى «منطقة أبالاتش» التى تتميز بالتنوع العرقى.

وتحدث نائب الرئيس الأمريكى المحتمل عن طفولته المضطربة فى «ميدلتاون»، حيث كانت والدته تعانى إدمان المواد الأفيونية، وعلاقات فاشلة مع الرجال، فضلًا عن إقامتها فى عدة مركز لإعادة التأهيل، قبل أن تفقد فى النهاية رخصة التمريض الخاصة بها.

وتطرق إلى علاقته المضطربة بأجداده، إذ كان جده يعانى من إدمان الكحول. ووصف جدته «ماماو»، بأنها «عنيفة»، حتى أنها فى أحد الخلافات، سكبت البنزين على جده وأشعلت فيه النار.

وعرج كذلك على الفترة التى قضاها فى مشاة البحرية بولاية أوهايو، وكيف كان «غريبًا ثقافيًا» فى كلية الحقوق بجامعة «ييل»، فى ظل الصدمة الثقافية التى واجهها بعد خروجه من حياة الفقر إلى الجامعة العريقة، مشيرًا إلى ارتفاع تكاليف التعليم فى الجامعة، مؤكدًا أن هناك جامعات كبرى مثل «هارفارد» و«ييل» لا تقبل العديد من الأشخاص من أماكن مثل «ميدلتاون».

وبَين «دى فانس» كيف كانت مدينة «ميدلتاون» عبارة عن قصور قديمة متهالكة ومتاجر مغلقة، تنظر إلى أيام مجد المدينة الفولاذية فى الماضى، وتعكس كيف عانت من التدهور الاقتصادى، بعد أن كانت مركزًا للصناعات الأمريكية، هى ومناطق أخرى تعرف بـ«جبال الأبالاش» وحزام الصدأ»، ولا توجد فيها أى فرصة للارتقاء. كما عرض استقراءاته السياسية والثقافية من هذه التجارب الشخصية، وغيرها مما يخلق صورة الرجل الذى يريد أن يُنظر إليه على أنه بطل شعبوى، أو رجل عادى صعد من الطبقة العاملة إلى نجاح خيالى.

وهكذا أصبحت الرواية التى تمثل فى الغالب تاريخًا شخصيًا لعائلة متناقضة ومحبة ومختلة وعنيفة فى بعض الأحيان، تقدم صورة عامة عن شعب الجنوب و«جبال الأبالاش» و«حزام الصدأ»، وليست عائلة «دى فانس» فقط، من خلال توجيه الأنظار إلى حياة سكان هذه المناطق التى تبدأ من نيويورك، مرورًا بكل من بنسلفانيا وفرجينيا الغربية وأوهايو وإنديانا ومناطق فى ميتشجان، وشمال إلينوى وشرق ويسكونسن، وغيرها من الأماكن المحاصرة بالمخدرات والعنف والفقر.

ومما جاء فى الرواية لوصف الطبقة العاملة البيضاء: «نحن نختار العمل عندما يتعين علينا البحث عن وظائف. فى بعض الأحيان نحصل على وظيفة، لكنها لن تدوم. سنُطرد بسبب التأخير، أو بسبب سرقة بضائع وبيعها على موقع إيباى، أو بسبب شكوى أحد العملاء من رائحة الكحول التى تنبعث من أنفاسنا، أو بسبب أخذ استراحة إلى الحمام لمدة خمسة وثلاثين دقيقة فى كل نوبة عمل».

ويضيف: «إننا نتحدث عن قيمة العمل الجاد. لكننا نقول لأنفسنا إن السبب وراء عدم عملنا هو بعض الظلم المتصور، فقد أغلق أوباما مناجم الفحم، أو ذهبت كل الوظائف إلى الصينيين. هذه هى الأكاذيب التى نقولها لأنفسنا لحل التنافر المعرفى، العلاقة المقطوعة بين العالم الذى نراه والقيم التى نبشر بها».

ترامب ونائبه 

فيلم نتفليكس

دفع نجاح رواية «دى فانس» شركة «Imagine Entertainment» لشراء حقوقها عام ٢٠١٧، ثم أنفقت شركة «نتفليكس» ٤٥ مليون دولار لتحويلها إلى فيلم سينمائى، والذى صدر بشكل محدود بدور السينما، فى نوفمبر ٢٠٢٠، قبل أن يُبث بشكل مباشر عبر المنصة بعد فترة وجيزة.

الفيلم من إخراج رون هوارد، وبطولة كل من جابرييل باسو فى دور «دى فانس»، وجلين كلوز فى دور جدته «ماماو»، وهى سيدة متسلطة صاخبة وخشنة لكنها محبة. بينما تلعب إيمى آدامز دور والدته، التى تعانى من مشاكل نفسية بسبب تعاطى المخدرات، إلى جانب فريدا بينتو فى دور «أوشا» زوجة «دى فانس».

وجرى تصوير أجزاء من الفيلم فى «ميدلتاون» بولاية أوهايو، حيث نشأ «دى فانس»، كذلك فى ولاية جورجيا، بسبب تسهيلات التصوير المادية التى تقدمها الولاية.

ويتناول الفيلم فى معظمه مذكرات «دى فانس»، ويتنقل بين طفولته غير المستقرة التى نشأ فيها، وسنوات شبابه كطالب فى كلية الحقوق بجامعة «ييل»، قبل أن ينحرف عن المذكرات فى بعض النواحى الأساسية.

مثلًا يعبر «دى فانس» فى الكتاب عن تقديره للوقت الذى قضاه فى جامعة «ييل»، قائلًا إن الأساتذة وزملاء الدراسة كانوا مهتمين حقًا به، مضيفًا: «لقد جعلتنى جامعة ييل أشعر لأول مرة فى حياتى أن الآخرين ينظرون إلى حياتى بحسد». لكن الفيلم، فى المقابل، يصور كيف يعامله زملاؤه وأساتذته بشفقة بسبب خلفيته الفقيرة.

ويتجنب الفيلم أيضًا بعض الأفكار السياسية المطروحة فى الرواية، بما فى ذلك فكرة أن بعض أفراد عائلة «دى فانس» ومعارفه يتحملون المسئولية عن عدم فقرهم وفشلهم فى الحصول على وظائف جيدة. وبدلًا من ذلك، يركز الفيلم على رحلة «دى فانس» من الفقر إلى القوة والسلطة.

وعلى عكس العمل الأدبى، وجد معظم النقاد الفيلم غير مرضٍ، قائلين إنه يصور مواضيعه بشكل كاريكاتورى، ويختصر مشاكل الحياة الواقعية إلى الميلودراما. لذا حصل على تقييم ضعيف بنسبة ٢٥٪ من موقع «Rotten Tomatoes»، قبل أن يمنحه المشاهدون الذين سجلوا الدخول إلى الموقع تقييمًا جديدًا بنسبة ٨٢٪. كما أنه فى الأسبوع الذى صدر فيه على منصة «نتفليكس»، احتل المرتبة السابعة بين الأعلى مشاهدة.

ولأدائها المتميز فيه، رُشحت الممثلة المخضرمة جلين كلوز لجائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة، وجائزة «جولدن جلوب»، وجائزة نقابة ممثلى الشاشة. كما رُشحت أيضًا لجائزة «رازى» لأسوأ ممثلة مساعدة، عن نفس الفيلم. وفى النهاية، لم تفز بأى من هذه الجوائز.

أفكار دى فانس

يتشارك جيه دى فانس مع دونالد ترامب وجهات نظر مماثلة بشأن العديد من القضايا، مثل الهجرة والتجارة والاقتصاد والسياسة الخارجية، وهو مؤيد قوى لإسرائيل، ومعادٍ للصين، ومعارض شرس لدعم أوكرانيا فى حربها مع روسيا.

ويعد اختيار «ترامب» لـ«دى فانس» بمثابة خطوة استراتيجية لتنشيط قاعدته الموالية، بعد أن أثبت «النائب المحتمل» نفسه كزعيم يمكنه حمل عباءة الرئيس إلى المستقبل، بفضل ظهوره المتكرر فى الدوائر الإعلامية المحافظة، واستعداده للسجال مع المراسلين والنواب فى الكونجرس، فضلًا عن نشأته فى قلب الطبقة العاملة، ومولده بعيدًا عن قاعات السلطة، وعلاقاته مع المزارعين والعمال الأمريكيين البيض، وهى قاعدة مترنحة فى تأييد «ترامب».

ورغم أن «دى فانس» كان ذات يوم منتقدًا صريحًا لـ«ترامب»، حتى إنه اعتبر إياه «محتالًا وأحمق وكارثة أخلاقية»، ووصل إلى وصفه بـ«هتلر أمريكا»، تحولت رؤيته للرئيس السابق تمامًا، مع ارتفاع حظوظه السياسية وشعبيته بين الأمريكيين، ليعود ويشيد لاحقًا برئاسة «ترامب»، وينسب إليه الفضل فى «تحقيق السلام والازدهار»..

ورغم أنه لم يذكر «ترامب» فى الرواية، قدم «دى فانس» فيها تفسيرًا لصعود الشعبوية، ودوافع الأمريكيين البيض من الطبقة العاملة والريفيين لانتخابه عام ٢٠١٦. وبين السطور ستجد «دى فانس» ناقمًا على البضائع الصينية، وعلى الوظائف التى تذهب لمهاجرين بدلًا من الأمريكيين.

ستجده يتحدث عن تدهور الاقتصاد فى بعض المناطق الأمريكية، ما سبب سخطًا كبيرًا قبيل انتخابات ٢٠١٦، وستشعر بتأييده لكل شعارات «ترامب» وسياساته، رغم أنه هاجمه بعد انتخابه فى هذا العام، قبل أن يعتبر الآن الحزب الجمهورى «حزب الشعب»، ويقول صراحة إن «ترامب» وحده هو القادر على توفير الفرصة للطبقة العاملة البيضاء.

وخلال خطابه الرئيسى الذى ألقاه فى المؤتمر الوطنى للحزب الجمهورى، الأربعاء الماضى، ومن قراءة روايته «مرثية هيلبيلى»، يمكن أن تعرف لماذا ركز فى خطابه على موضوعات مثل الأمن القومى والسياسة الخارجية، حاملًا شعارات «ترامب» مثل: «أمريكا أولًا» و«لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا».

تحدث بإسهاب عن تهديد الصين، لكنه لم يشر إلى الغزو الروسى لأوكرانيا، والحرب فى غزة، وإن كان قد كشف عن رؤية عالمية يمكن تلخيصها بأنها «مؤيدة لإسرائيل ومعادية للصين وتسبب القلق فى أوروبا».

ولا يؤيد الجندى السابق فى مشاة البحرية الأمريكية التدخل العسكرى الأمريكى فى الخارج. وباستثناء إسرائيل، يعارض المساعدات الخارجية إلى حد كبير، وسبق أن صرح سابقًا بأن «الولايات المتحدة لا تستطيع دعم أوكرانيا والشرق الأوسط، مع الاستعداد للطوارئ فى شرق آسيا».

وقال فى وقت سابق أيضًا: «نريد من الإسرائيليين والعرب أن يقوموا بدور الشرطة فى منطقتهم من العالم. ونريد أن يتولى الأوروبيون حراسة منطقتهم، وأن نركز بشكل أكبر على شرق آسيا».

وتتناقض وجهات نظر «دى فانس» بشكل قوى مع صانعى السياسات فى إدارة الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن، الذين يرون أن كل منطقة مترابطة، وأن الولايات المتحدة عليها أن تقودها جميعًا.

والحقيقة أن هدف «دى فانس» المتمثل فى انسحاب الولايات المتحدة من أوروبا والشرق الأوسط، مقابل التركيز على الصين، ليس جديدًا ولا جمهوريًا فريدًا. ورغم وجود أصوات كثيرة مماثلة لذلك على مدار سنوات، لا تزال الولايات المتحدة غارقة فى مستنقع الصراعات بكل من أوروبا والشرق الأوسط.

ويتماشى نائب الرئيس المحتمل مع إصرار «ترامب» على أن تقلل واشنطن دعمها لأوكرانيا، وإجبار الأوروبيين على لعب دور أكبر فى أمن قارتهم، وهو ما عبر عنه بقوله فى خطاب سابق: «لا أعتقد أن فلاديمير بوتين يشكل تهديدًا وجوديًا لأوروبا»، مضيفًا: «أوكرانيا يجب أن تسعى إلى السلام عن طريق التفاوض مع موسكو، حتى لو كان ذلك يعنى التنازل عن الأراضى».

ورغم دعمه لشعار «أمريكا أولًا»، تعد إسرائيل الاستثناء لـ«دى فانس»، وربما هذا نابع من معتقداته المسيحية، وهو مؤيد لإسرائيل أكثر من جو بايدن، ويدفع لاستمرار المساعدات العسكرية لها، ويعارض القيود على عملياتها العسكرية.

وقال بريان كاتوليس، المحلل فى معهد الشرق الأوسط: «دعم فانس القوى لإسرائيل هو انعكاس لأهمية بعض وجهات النظر الإنجيلية المحافظة فى الحزب الجمهورى اليوم، فضلًا عن مواقف الفكر القومى المسيحى الأبيض، التى نمت تحت رئاسة ترامب للحزب».