السبت 05 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فن «رص الطوب».. ماركيز يتحدث من محراب الكتابة

ماركيز
ماركيز

- تنشأ القصة من مجرد فكرة، أو عبارة، ربما جملة عابرة، لكنها تستقر فى الذهن، وتستحوذ عليه

من منا لا يعرف جابو.. أو جابرييل جارسيا ماركيز؟ ربما تكون غير محب كتاباته، ربما لا تفهمها من القراءة الأولى، فقراءته تحتاج إلى درجة كبيرة من التركيز، من التفاعل مع النص والتوحد والاشتباك الكامل معه، لكننى على يقين من أنك إذا ما اقتربت منه، سمعت آراءه بخصوص الكتابة، أو تعرفت على نظرته لنفسه والآخرين والحياة ستنبهر بشخصيته، وستتوحد مع تلك الآراء بطريقة عجيبة، هى الطريقة نفسها التى توحدت بها مع كل نصوصه.

ربما إذا ذكرت اسم «ماركيز» ستأتى فى ذهنك رواياته الأعظم والأشهر، مثل «مئة عام من العزلة»، أو «الحب فى زمن الكوليرا»، قبل الانتقال للنقطة الثانية من الحديث عن الكتابة لا بد من التوقف هنا للإشارة إلى أن «ماركيز» لم يصبح مشهورًا أو معروفًا حتى بلغ الأربعين من عمره. وبعد سنوات قضاها فى الكتابة دون أن يعرفه أحد، إلا عدد قليل من القراء، وحدثت هذه الشهرة بعد نشره روايته الرابعة «مئة عام من العزلة».

إذًا نحن أمام كاتب فرض على نفسه حياة صارمة ليقدم مثل هذا الإنتاج الفارق فى تاريخ الأدب العالمى، وكذلك تحلى بالصبر على مختلف الظروف المحيطة، دون أن يشكو ويبكى الأقدار التى ألقت به فى دولة مثل كولومبيا تعانى انتشار الجهل والخرافة، ولا توجد مساحات حقيقية للكتاب والمثقفين بها، ومن أزمات تعرض لها للبحث عن فرصة نشر جيدة، مصممًا على كتابة ما يريد بأسلوبه المختلف غير المفهوم لأغلب الناشرين، فكيف أوجد هذا الكاتب تلك المساحة لنفسه؟ بل كيف صنعها من الأساس، ليصبح رمزًا لوطنه هذا؟ تلك هى القضية.

لم يتميز ماركيز فى كتابة الرواية فقط، وربما أنت لا تعلم أن للكاتب نفسه مجموعات قصصية فارقة فى مشواره الأدبى، كتبها أيضًا معتمدًا على أساليب وتكنيكات مختلفة تناسب القصة القصيرة التى يجب أن تكون مركزة، ومختصرة، وتصل إلى عمق وجوهر ومضمون الفكرة من أقصر الطرق، ولعلنى هنا أتذكر المجموعة القصصية «إرينديرا البريئة وجدتها القاسية».. ومجموعة «جنازة الأم العظيمة».

فيما يخص تكنيك الكتابة، أو النهج الذى وضعه وأبدعه «ماركيز» فى كتابته، قمت بالبحث عن ذلك، وقمت بجمع مجموعة من الحوارات التى تحدث فيها جابو عن تلك التقنيات التى أبدعها وخلقها من العدم، وقمت بصياغتها بشكل مترابط، حتى يبدو الحديث وكأنه قيل على دفعة واحدة، يمكن للقارئ أن ينال منه المتعة والإفادة بدلًا من البحث عن النصائح فى كل حوار قام به «ماركيز». وفى الجزء الثانى من الفصل نفسه سأتركك مع حوارات أخرى قام بها ماركيز تتعرف منها على مناطق أخرى فى حياته ربما.. أو بالتأكيد أثرت، على أسلوبه الأدبى، والتكنيك الذى يستخدمه.

والآن أتركك مع جابو:

«عندما أريد أن أكتب شيئًا فذلك لأننى أشعر أن هناك ما يستحق أن يُقال داخل هذه القصة، علاوة على ذلك؛ عندما أقرر أن أكتب قصة قصيرة فإننى أفعل ذلك.. لأننى كقارئ أريد أن أقرأ هذه القصة أو التقى بهذه الأفكار التى سيتم بثها من خلال القصة القصيرة». 

كتابة القصص تشبه عملية بناء أو وضع الأسس الخرسانية «صب الخرسانة» إذا لم تكن الخرسانة ثابتة وقوية، فربما تفسد المشروع بالكامل، وهنا سيتعين عليك البدء من جديد، ويجب أن تصنع تلك الخرسانة والأسس بمعايير ثابتة وراسخة وقوية، وأن تكون متناسقة للغاية، وأن تتحرك كل تلك الأفكار التى سيتم البناء عليها معًا فى وقت واحد.. أى أن هذا الصب يجب أن يتم على دفعة واحدة.

فى المقابل فإن كتابة الروايات تشبه عملية رص الطوب لإقامة جدار؛ إذا لم يتم رص الطوب بطريقة سليمة ومتناسقة، فإنك ستضطر لهدم الجدار لتعيد بناءه من جديد. 

فى القصة لا يمكن القيام بذلك، القصة تخرج كدفعة واحدة كما أشرت، أو كدفقة واحدة، إما أن تخرج كذلك أو لا تخرج. 

يجب أن يتصور ويتخيل الكاتب القصة فى صورتها النهائية قبل البدء فى كتابتها، وإذا لم يجد أنها متناسقة بما يكفى للخروج فى دفعة واحدة، فلا فائدة من كتابتها، فإذا لم تفعل ذلك؛ لن تعرف الطريقة التى يمكن إصلاحها بها، أو حتى لن تعرف الطريقة التى ستمكنك من الانتهاء منها.

وبمجرد الانتهاء من البنية الكاملة للقصة القصيرة، عند هذه النقطة بالضبط يمكنك كتابة رواية كاملة بناء على هذه الفكرة، ويمكنك أن تخرج الفكرة نفسها فى أشكال أدبية مختلفة، ربما تكتبها فى صورة مسرحية أو سيناريو للسينما أو للتليفزيون.

ففى اللحظة التى تتصور فيها القصة فى شكلها النهائى، هى اللحظة التى يجب أن تخرج فيها القصة فى دفقة واحدة جاهزة ومكتملة.

لقد اعتبرت همنجواى أستاذًا فى التقنيات الأدبية، بمعنى أنك من خلال قراءة أعماله يمكنك تعلم التقنيات التى ستجعل منك كاتبًا. لقد قلت دائمًا إن الروائيين- على عكس باقى من يكتبون فى مجالات أدبية أخرى- يقرأون الروايات لمعرفة كيف تُكتب. 

نحن نقرأ الرواية ونقلبها، نقلبها رأسًا على عقب، ونبدأ فى تفكيكها، ونضع البراغى ثم المسامير، ثم كل الأجزاء والمكونات على الطاولة، وعندما نعرف الطريقة التى تم تكوينها بها، أو كيف صنعت هذه الطاولة- الرواية- وما هى مكوناتها، لا نعود مهتمين. 

نفس الشىء حدث لى مع همنجواى. لقد قرأت جميع أعماله. لقد قمت بتفكيكها عمليًا قطعة قطعة، وجزءًا جزءًا، لأعرف كيف تمت كتابتها، وبهذا الشكل جاء تأثرى به وبأعماله، قد يكون هناك تأثير بالفعل. فكرة البحث عن الهوية بالتحديد هى التى يمكن أن أقول إنها تجمع بيننا. فى كل الأحوال، لدى إعجاب كبير به. إنه كاتب عظيم، وقبل كل شىء راوى قصص عظيم. 

رواية همنجواى ربما لا تجذبنى، أو لا تنال اهتمامى بالشكل الكافى، لكنه فى القصة القصيرة قد يصل إلى الكمال، لديه قصة قصيرة بعنوان «حياة فرنسيس ماكومبر السعيدة القصيرة»، وهى واحدة من أفضل القصص التى كتبت على الإطلاق.

القصة مثل جبل الجليد، يجب أن تكون مدعومة بأجزاء وعناصر كثيرة لا ترى مثل.. الدراسة والتأمل والمشاهد المختلفة، والتى سيتم تجميعها، والتى لا يمكن أن تستخدم بشكل مباشر فى القصة. نعم، يعلمك همنجواى أشياء كثيرة، بما فى ذلك كيف تدير وتوظف اللقطة أو المشهد، وتضعه فى السياق المناسب وتخرجه فى أفضل صورة.

إن قوة وصلابة البناء الداخلى للقصة أمر أساسى، قد يكون الأمر مختلفًا فى الرواية، فالرواية تحتاج لنوع آخر من البناء، السبب نفسه عندما تنتهى من قراءة قصة، يمكنك أن تتخيل ما يتبادر إلى ذهنك ما قبل قراءة الرواية وما بعد القراءة، وكل ذلك سيظل جزءًا من مادة وسحر ما تقرأه. 

تبدو القصة وكأنها النوع الطبيعى الأكثر تعبيرًا عن البشر، بسبب اندماجها العفوى فى الحياة اليومية. وربما اخترعها دون أن يعرفها رجل الكهف الأول الذى خرج للصيد بعد ظهر أحد الأيام ولم يعد إلا فى اليوم التالى بحجة أنه قاتل حتى الموت وحشًا عملاقًا أصابه الجوع. ومن ناحية أخرى، فإن ما فعلته زوجته، عندما أدركت أن بطولة رجلها لم تكن أكثر من حكاية أو قصة طويلة يمكن أن تكون أول وربما أطول قصة فى العصر الحجرى.

تنشأ القصة من مجرد فكرة، أو عبارة، ربما جملة عابرة، لكنها تستقر فى الذهن، وتستحوذ عليه، هناك الكثير من القصص التى استحوذت على ذهنى، وأفكر فيها بشكل دائم، وأحيانًا من الممكن أن أروى بعض هذه القصص فى شكل شفاهى ولا أضطر إلى كتابتها.

فى المقابل عند كتابة الرواية يمكنك أن تبدأ بمجرد فكرة أو صورة، وتستمر فى التفكير فيها، ويمكن أن تبدأ فى الكتابة من هذه النقطة التى هى الفكرة أو الصورة، ثم تبدأ الرؤية فى التبلور أثناء الكتابة. ولا أقصد بكلمة «الفكرة» ككلمة مجردة، فأنا لا أستطيع أبدًا أن أكتب رواية أو قصة من فكرة، أنا دائمًا أنطلق من الصورة، أو الشعور، وتكون الرواية بأكملها تطوير لهذا الشعور. 

دائمًا ما كانت لدى فكرة أو رؤية عما أريد أن أفعله، لكن شيئًا ما كان مفقودًا، ولم أكن أعرف ما هو حتى اكتشفت ذات يوم أن هذا الشىء هو النغمة الصحيحة، النغمة التى استخدمتها أخيرًا فى «مئة عام من العزلة». لقد كانت الرواية مبنية على الطريقة التى كانت جدتى تحكى لى بها القصص. لقد روت لى أشياء بدت خارقة ورائعة، لكنها قامت بحكيها وكأنها تتحدث عن شىء طبيعى تمامًا. وعندما عرفت أخيرًا الأسلوب الذى يجب أن أستخدمه، جلست للعمل كل يوم لمدة ١٨ شهرًا.

على الرواية- من ناحية أخرى- أن تحمل كل شىء فى داخلها. ويمكن الدفاع عن تلك الفكرة للنهاية، إن الاختلاف بين القصة والأخرى يمكن أن يكون فى نهاية المطاف ذاتيًا، مثل العديد من الجميلات فى الحياة الواقعية. من الأمثلة الجيدة على القصص المدمجة والمكثفة جوهرتان من هذا النوع، «مخلب القرد» للكاتب دبليو جى جاكوبس، و«الرجل فى الشارع» للكاتب جورج سيمينون.

البدء فى كتابة القصة، أو نقطة الانطلاق دائمًا ما تكون الشىء الأكثر صعوبة، وكذلك فى الرواية؛ فبداية كل فصل والطريقة التى ستبدأ بها كل فصل هما من أصعب الأمور فى الرواية. وأهمية البداية ونقطة الانطلاق شىء لا غنى عنه فى القصص، تتمتع كتابة القصص بميزة أنك لست مضطرًا للبدء إلا مرة واحدة. فى الرواية.. فى كل مرة ينتهى فصل، يكون اليوم الذى ستبدأ فيه بكتابة فصل آخر يومًا مرعبًا. حتى أحيانًا يخيل لى أن الرواية ستظل هكذا فى وضع معلق إذا لم أجد بداية جيدة للفصل، وأن العمل يمكن ألا يكتمل، لأن إيجاد بداية مناسبة لكل فصل أمر صعب للغاية.

فمن أصعب الأشياء فى الكتابة بشكل عام هى الفقرة الأولى. ذات مرة أمضيت أشهرًا فى قراءة ومراجعة الفقرة الأولى فقط لأكثر من مرة، وبمجرد الانتهاء منها- من الفقرة الأولى- يتدفق الباقى بسهولة. فى الفقرة الأولى عليك حل معظم المشاكل الموجودة في كتابتك، يتعرف القارئ بأسلوبك، والتكنيك الذى ستستخدمه- هذا على الأقل بالنسبة لى ككاتب- الفقرة الأولى هى نموذج ومثال ومدخل لما ستكون عليه بقية الرواية أو القصة».