الخميس 10 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الأسطورة المنسية كمال الدين صلاح.. الدبلوماسى المصرى الذى حرر الصومال بدمه

افتتاحية العدد الخامس
افتتاحية العدد الخامس والثلاثين

- قصة عمرها 67 عامًا تستحق أن نرويها الآن من جديد 

- الصوماليون اطمأنوا إليه وفتحوا قلوبهم له واعتبروه واحدًا منهم يقاسمهم حياتهم ومستقبلهم ومشاكلهم

- شغل منصب مندوب مصر فى مجلس الأمم المتحدة بالصومال.. وذهب إلى هناك لإعداد الشعب الصومالى للاستقلال

- استشهد بعد أن طعنه رجل بـ«سكين طويل» فى ظهره وهو يعبر الشارع أمام بيته فى العاصمة الصومالية مقديشو

- رصد مبكرًا أطماع إثيوبيا وصراعاتها من أجل أن يكون لها موطئ قدم فى الصومال

- منع القيام بأعمال عنف يستغلها المستعمرون.. ولعب دورًا كبيرًا فى طمأنة المستثمرين الذين قصدوا أرض الصومال

- قاتله هو شاب فى حوالى الثلاثين من العمر وكان طالبًا فى إحدى البعثات الصومالية بمصر خلال سنتى 1953 و1954

ليست المرة الأولى.. ولن تكون الأخيرة. 

العنوان الذى يمكن أن يلخص الحالة جميعها هو «مصر فى الصومال». 

لا فرق بين ما جرى فى العام 1957.. وما يجرى فى العام 2024. 

لم تهدأ فضائيات العالم ووكالات أنبائه بعد توقيع اتفاق الدفاع المشترك بين مصر والصومال، والذى جاء مشفوعًا بتصريح الرئيس عبدالفتاح السيسى بأن مصر ترفض أى تدخل فى شئون الصومال. 

فى منتصف أغسطس 2024 كان الرئيس الصومالى حسن شيخ محمود يقف إلى جوار الرئيس عبدالفتاح السيسى بعد أن عقدا جلسة مباحثات ثنائية، كان عنوانها العريض بحث تعزيز أطر التعاون الثنائى وتطورات الأوضاع الإقليمية. 

لم تكن هذه المباحثات جديدة، أتت استكمالًا لمباحثات سابقة جرت فى يناير 2024 والتى كان هدفها التأكيد على قوة العلاقات التاريخية بين مصر والصومال وتدعيمها على مختلف الأصعدة. 

الرئاسة المصرية أكدت فى بيان رسمى أن الرئيس أكد موقف مصر الداعم لوحدة وسيادة الصومال على أراضيه والرافض لأى تدخل فى شئونه. 

كان لا بد لهذا التصريح من ترجمة عملية على الأرض، فتم إطلاق خط طيران مباشر بين القاهرة ومقديشو وافتتاح السفارة المصرية بالعاصمة الصومالية، وتوقيع بروتوكول تعاون عسكرى بين الدولتين. 

على هامش هذه المباحثات كشف الرئيس السيسى أن مصر ستتولى فى أكتوبر 2024 رئاسة مجلس السلم والأمن الإفريقى، وبحلول نهاية العام 2024 سيتم تجديد بعثة حفظ السلام فى الصومال، وأشار الرئيس إلى أن الأمر سيكون متروكًا للدولة المضيفة، فإذا رغب الصومال أن تكون القوات المصرية موجودة سيحدث ذلك، وإذا لم يرغب ستظل العلاقات الأخوية بين الجانبين. 

بعد أسبوعين من هذه التصريحات الواضحة التى لا تقبل لبسًا ولا تأويلًا، وصلت معدات ووفود عسكرية مصرية إلى الصومال تمهيدًا لمشاركة مصر فى قوات حفظ السلام فى العاصمة مقديشو. 

سفير الصومال لدى القاهرة أكد أن مصر هى أولى الدول التى تنشر قوات لدعم الجيش الصومالى بعد انسحاب قوات الاتحاد الإفريقى الانتقالية، وهو الانسحاب الذى سيتم بحلول يناير 2025. 

ولأن المريب يكاد يقول خذونى، أعلنت إثيوبيا عن قلقها من الوجود العسكرى المصرى على أرض الصومال، رغم أنه لا مصر ولا الصومال تحدثا عن شىء يخص أديس أبابا، فالأمر كله ينصرف إلى دعم الصومال والحفاظ على استقلاليته، بالمشاركة فى قوات حفظ السلام، فليس فى الوجود العسكرى المصرى شىء غير عادى، وليس المقصود به إلا دعم الصومال والحفاظ على سيادته. 

كان رد الفعل الإثيوبى غريبًا وغير منضبط، ولفت انتباهى أحد المحللين السياسيين الإثيوبيين الذى تساءل عبر إحدى الفضائيات عما جاء بمصر إلى الصومال فى هذا التوقيت؟ وما الذى تريده من وجودها العسكرى بها؟ 

لم أنصت إلى ما قاله المحلل الإثيوبى، تركته فى غيه يهيم على وجهه، فهو يرسم صورة غير صحيحة لما يحدث على الأرض، ثم يبنى عليها مواقف غير منضبطة، وعدت بذاكرتى إلى أكثر من عشرين عامًا عندما وقع فى يدى لأول مرة كتاب «مؤامرة فى إفريقيا» لكاتبنا الكبير أحمد بهاء الدين. 

من على سور جامعة القاهرة التقطت نسخة الكتاب التى كانت على وشك التمزق، اسم أحمد بهاء الدين كان كافيًا، العنوان غامض، يمكن أن يجذبك باعتباره مثيرًا، ويمكن أن ينفرك باعتباره دعائيًا.

فتحت الكتاب قبل أن أتحرك مودعًا بائع الكتب القديمة، لأجد المدخل مختلفًا. 

بدأ بهاء كتابه هكذا: كان مندوب مصر فى مجلس الأمم المتحدة بالصومال يعبر الشارع أمام بيته فى العاصمة «مقديشو» وفجأة هجم عليه من الوراء رجل فى يده سكين طويل طعنه فى ظهره، وظل يطعنه إلى أن سقط مضرجًا بدمائه، وتمكن بعض الذين رأوا الحادث من القبض على القاتل، أما مندوب مصر فقد كانت لديه بقية من قوة، مد بها يده إلى الوراء، وانتزع السكين المغروس فى ظهره، ولكنهم عندما وصلوا به إلى المستشفى.. كان قد أسلم الروح. 

كان أحمد بهاء الدين يتحدث عن كمال الدين صلاح، الشهيد المصرى الذى ارتقى إلى ربه من على أرض الصومال، كان هناك ممثلًا للأمم المتحدة ضمن المجموعة التى ذهبت إلى هناك لإعداد شعب الصومال للاستقلال. 

جرت وقائع هذه الحادثة الدرامية تحديدًا فى 16 إبريل 1957. 

لم يتعامل بهاء الدين مع اغتيال كمال الدين صلاح على أنه قضية قتل عادية من القضايا التى تقع كل يوم، فقد كان صلاح هو الرجل الثانى الذى استشهد وهو ينفذ رسالة الأمم المتحدة، الأول هو الكونت «برنادوت» وقد قتلته إسرائيل، والثانى هو كمال الدين صلاح، وتساءل بهاء عمن قتله؟ ثم بدأ فى رحلة بحث عن الرجل وعن نهايته. 

يقول بهاء: كان هذا هو السؤال الذى يتردد على لسان كل مصرى، وكل مهتم بسياسة مصر ومستقبل إفريقيا، ولم أكن أقل من الآخرين اهتمامًا بالعثور على إجابة هذا السؤال. 

أما كيف حصل بهاء على إجابة السؤال؟ 

فقد كانت هناك قصة طويلة.

جنود إيطاليون يغادرون من نابولى فى إيطاليا متوجهيون إلى الصومال عام ١٩٤٨

كان من عادة كمال الدين صلاح أن يدون مذكراته وخواطره، وأن يحتفظ بها لنفسه، وقد ترك وراءه كمية هائلة من الأوراق الخاصة والمسودات وقصاصات الصحف والخطابات التى كان يبعث بها إلى زوجته وإلى أصدقائه المقربين. 

حصل بهاء على كل هذه الأوراق، وقرر أن يكتب منها القصة كاملة. 

ففى إبريل ١٩٥٤ كان كمال الدين صلاح يعمل كقنصل لمصر فى مرسيليا عندما تلقى قرار الحكومة بنقله إلى الصومال، ولم يكن هناك تمثيل سياسى لمصر فى تلك البلاد، ولكن مجلس الوصاية فى الأمم المتحدة كان قد شكل لجنة ثلاثية من مصر وكولومبيا والفلبين، مهمتها أن تقيم فى الصومال الموضوع تحت الوصاية، وأن تراقب عملية نقل الصومال من مرحلة الوصاية إلى مرحلة الاستقلال. 

اعتقد كمال أنه سيجد عملًا هادئًا فى ذلك الركن الهادئ من العالم، فقد كان حظه قبل ذلك عاصفًا على الدوام، لا يذهب إلى بلد إلا وهو يجتاز مرحلة خطيرة مضطربة من حياته. 

فقد بدأ حياته الدبلوماسية فى القدس فى العام ١٩٣٦ والثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الإنجليزى الإسرائيلى فى أعلى مراحلها، ثم نقل إلى اليابان، عندما كانت الحرب اليابانية الصينية هى مشكلة العالم الأول، ومن اليابان ذهب إلى بيروت، إذ كانت الحرب العالمية الثانية قائمة، وجيوش حكومة فيشى تحتل لبنان وجيوش إنجلترا وفرنسا تتهيأ لغزوها، والمجاهدون العرب يفرون من قبضة الإنجليز فى العراق وفلسطين وإيران إلى بيروت التى كادت أن تغلق كالمصيدة عليه. 

ساعد كمال الدين هؤلاء اللاجئين حتى طلب لورد» كيليرن» من حكومة مصر أن تسحبه من لبنان بسبب نشاطه فسحبته، وأعادته إلى القاهرة حتى أشرفت الحرب على نهايتها، وصدر قرار بنقله إلى سان فرانسيسكو التى اختيرت لمحاولة وضع أول ميثاق للأمم المتحدة بعد الحرب، وفجأة وقع حادث اغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر، واعتقل قريبه وصديقه فتحى رضوان، وذهب صلاح ليسأل عنه ويزوره، فألقوا القبض عليه من باب الاشتباه، فتشوا بيته ووضعوه فى السجن يومًا وليلة، قبل أن تتبين حكومة النقراشى خطأ ما فعلت، فأطلقت سراحه. 

ومن سان فرانسيسكو إلى اليونان ليشهد هناك الحرب الأهلية بين الحكومة والشيوعيين، ومن اليونان يصل إلى عمان ليشارك فى الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل، ثم إلى تشيكوسلوفاكيا ليحضر فترة الانقلاب الشيوعى هناك، ثم إلى دمشق ليشهد أعصب أيام حكم الشيشيكلى واصطدامه بالشعب السورى ثم يأخذ هدنة فى استكهولم حتى قامت الثورة فى مصر فى العام ١٩٥٢. 

نقلت حكومة الثورة كمال الدين صلاح إلى مرسيليا قنصلًا لمصر فى العام ١٩٥٣، وكانت مرسيليا وقتها مركزًا هامًا من مراكز الثوار الجزائريين، وكان الفرنسيون يراقبون كل مصرى رسمى أو غير رسمى خشية أن يكون ممن يقدمون مساعدات للثوار، وكان لا بد أن يصطدم بهم كمال الدين صلاح لهذا السبب أكثر من مرة. 

ترك صلاح وراءه كل هذا الشريط من المتاعب معتقدًا أنه سيركن إلى الراحة فى الصومال، لكن ما جرى أنه لم تكن هناك أي راحة. 

كان الصومال تحت نظام الوصاية. 

فعندما انعقد مؤتمر سان فرانسيسكو لوضع ميثاق الأمم المتحدة ولد مبدأ عالمى جديد هو أن الشعوب المستعمرة والمتخلفة مسئولية من مسئوليات المجتمع الدولى كله، وأن العلاقة بين الدولة المستعمرة والدولة الخاضعة للاستعمار ليست علاقة خاصة بينهما، إنما هى علاقة عامة من حق الأمم المتحدة ومن واجبها كممثلة للمجتمع الدولى أن تتدخل فيها. 

تم الاتفاق على تقسيم البلاد غير المستقلة إلى نوعين: 

الأول هو المستعمرات بوجه عام. والثانى هو المستعمرات التى كانت خاضعة لنظام الانتداب قبل الحرب والمستعمرات التى كانت تستعمرها دول الأعداء، أى ألمانيا أو إيطاليا أو اليابان. 

وكان النوع الثانى هو الذى تقرر وضعه تحت الوصاية، وبهذا القرار أشرفت الأمم المتحدة على إدارة الأقاليم المشمولة بالوصاية، وكان من بينها الصومال، من خلال تكوين جهاز خاص من أجهزتها يتفرغ لهذه المهمة، على أن تتلقى تقريرًا سنويًا من هذا الجهاز، وتقوم بفحص العرائض التى يتقدم بها البلد المشمول بالوصاية، وترسل بعثات دورية تزور هذه الأقاليم، بهدف محدد هو إعداد الشعب الموضوع تحت الوصاية للاستقلال الكامل طبقًا لمعاهدة محددة. 

كان الصومال وعدد سكانه وقتها مليون و٣٠٠ ألف نسمة تحت وصاية إيطاليا، وكان من الطبيعى ألا تسلم الدولة الوصية سريعًا بضرورة إنهاء وصايتها أو الإسراع بإعداد الإقليم التابع لها للاستقلال.

وهنا جرت مناورات عديدة. 

ركب كمال الدين صلاح طائرته إلى مقديشو، وكان أن وقع فى حب الشعب الصومالى، كما وقع شعب الصومال فى حبه. 

لم يشعر أنه غريب، فقد كان حفيد المصريين الذين ذهبوا إلى الصومال منذ أربعة آلاف سنة للتجارة. 

أدرك الصوماليون قيمة وحقيقة كمال الدين صلاح، فهو وإن كان يمثل الأمم المتحدة، لكنه من دينهم ومن جنسهم ومن قارتهم، فاطمأنوا إليه وفتحوا قلوبهم له واعتبروه واحدًا منهم، يقاسمهم حياتهم ومستقبلهم ومشاكلهم، فقد وجدوا فيه مصر البلد الإفريقي الذى استطاع أن يتحرر وأن يستقل ويصبح دولة مرموقة متحضرة، فهو صورة معبرة عن الأمل المفتوح أمام الإفريقيين جميعًا. 

فى رسالته الأولى التى كتبها كمال الدين صلاح إلى عائلته، يقول: قمت بجولة فى أنحاء الصومال دامت أسبوعين، قطعت خلالها ثلاثة آلاف ميل بسيارة جيب، اجتزت خلالها أراضى صحراوية وغابات استوائية ومناطق زراعية ومراع، لقد اختلطت خلال هذه الرحلة بالأهالى، وتحدثت معهم، صليت إلى جوارهم فى المساجد، وخطبت فيهم شارحًا وضع بلادهم والدور الذى يجب أن يقوموا به ليحققوا استقلالهم، والدور الذى تقوم به الأمم المتحدة لمساعدتهم. 

ويضيف صلاح: الناس هنا فى فقر شديد، كثيرون منهم يعيشون على الفطرة كيوم هبط جدنا آدم إلى الأرض وعشرات الألوف فى الغابات والمراعى شبه عرايا ليس على أبدانهم سوى ما يستر عوراتهم ويأكلون مما يحصلون عليه من صيد الغابة وألبان الإبل والأبقار والأغنام وفى المناطق الصحراوية والمراعى يبيت الناس فى العراء، وقد يكون لسلطان القبيلة أو زعمائها أكواخ من القش وفروع الأشجار، حتى العاصمة نفسها نجد أن أحياء الوطنيين فيها فقيرة كئيبة، ورغم مساحات الأرض الواسعة الصالحة للزراعة، فإن أغلبية الناس منصرفون عن الزراعة، فهم لا يعرفون طرقها ويعجزون عن مجاراة الإيطاليين الذين يزرعون المناطق القريبة من النهرين بالآلات الحديثة. 

ويستكمل كمال الدين صلاح رسم صورة ما رآه، يقول: هؤلاء الفقراء الذين يسكنون العراء ويأكلون من صيد الغابات يتقدمون فى فهمهم السياسى والقومى بشكل عجيب، ففى أقصى الغابات نجد واحدًا عنده «راديو بطارية» يسمع منه الآخرون نشرات الأخبار، لقد وجدتهم يعرفون أخبار مصر معرفة دقيقة، إنهم يتابعون معاهدة الجلاء، والحلف العراقى التركى، وسفر جمال عبدالناصر إلى مؤتمر باندونج الذى يتكون من الشعوب الآسيوية والإفريقية، إنهم يتعلقون بمصر تعلقًا شديدًا وينتظرون منها أن تساعدهم. 

بعد وصول كمال الدين صلاح بشهور أرسلت هيئة الأمم المتحدة بعثة من رجالها إلى الصومال، كانت مكونة من ثلاثة رئيس نيوزيلندى وعضو أمريكى وعضو هندى اسمه مستر «جايبال». 

فى إحدى الليالى سأل النيوزيلندى مستر جايبال: أين سيسهر الليلة؟ 

فقال له: سأتعشى عند مندوب مصر. 

تغير وجه النيوزيلندى وقال إنه يلاحظ توثق العلاقات بينه وبين كمال الدين صلاح وتتعدد مقابلاتهما. 

فرد عليه جايبال قائلًا: إننى أتآمر مع صديقى المصرى على تصفية ما تبقى من الإمبراطورية البريطانية. 

وفى إحدى الجلسات سأل العضو الأمريكى كمال الدين صلاح: هل هناك نشاط شيوعى فى الصومال؟ 

فرد عليه صلاح: هناك وعى واضح بين الأهالى يتطور بسرعة نحو المطالبة بحقهم فى أن يعيشوا فى بلادهم كآدميين، أما إذا استمر الوضع كما هو الآن بأن يظل الإيطاليون الذين توطنوا منذ العهد الفاشستى هم المسيطرون على أفضل مناطق الزراعة، وهم المالكون للصناعات القليلة القائمة، وهم المحتكرون للأسواق التجارية فإن هذا لن يؤدى إلا إلى وقوع الانفجار ذات يوم. 

فى أوائل العام ١٩٥٥ فوجئ الجميع ببيان مشترك من الحكومتين الإنجليزية والحبشية تعلنان فيه أنهما اتفقتا على أن انجلترا ستسلم المنطقة التى كانت باقية تحت يدها من «الأجاودين» إلى الحبشة، على أن تبقى الإدارة الإنجليزية هناك فى الوقت الحاضر، وكان معنى هذا أن الأرض التى كانت إنجلترا مؤتمنة عليها فى الصومال قد سلمتها إلى الحبشة دون أن تأخذ رأى الحكومة الإيطالية ولا الزعماء الصوماليين، وثار الرأى العام فى الصومال، وأرسل الزعماء برقيات استنكار إلى كل من اعتقدوا أنهم قد ينجدونهم، إلى الحكومة البريطانية وإلى الأمم المتحدة وإلى الجامعة العربية. 

طلاب كلية البوليس الصوماليين مع جنرال إيطالى فى روما ٢٠ يناير ١٩٥٤

يروى كمال الدين صلاح فى مذكراته ما جرى. 

يقول: عدت من إجازتى يوم الخميس، فوجدت رؤساء الأحزاب السياسية ينتظرون وصولى، قالوا لى إنهم قرروا القيام بمظاهرة كبرى لاستنكار الاتفاقية الإنجليزية الحبشية، وسألونى رأيى: هل أؤيد الفكرة أم أعارضها؟ وطلبت منهم أن أؤجل رأيى إلى الغد حتى أدرس الموقف وأعرف مختلف وجهات النظر، خصوصًا وجهة نظر الإدارة الإيطالية ودوائر الأمم المتحدة. 

تبين لكمال الدين صلاح أن الإدارة الإيطالية تبارك هذه المظاهرة سرًا، فنفوس الإيطاليين تطيب أن يروا الشعور العام فى هذه البلاد ثائرًا ضد بريطانيا التى صفت إمبراطوريتهم وطردتهم من إفريقيا. 

يقول صلاح: وفى أوساط الأمم المتحدة فهمت أنه قد ترامى إلى سمعهم أن هناك بعض عناصر ستنتهز فرصة المظاهرة للاعتداء على المتاجر بالسلب والنهب، وسيكون الخاسر هم أهل الصومال، إذ سيكون لذلك رد فعل سيئ فى الأمم المتحدة، إذ يمكن الادعاء بأن الصوماليين غير أهل للاستقلال وحكم بأنفسهم، ومن مصادر أخرى فهمت أن القنصل البريطانى بذل جهودًا كبيرة لمنع هذه المظاهرة، وحاول أن يشترى الناس بالمال، فلما فشل فى ذلك وتأكد أن المظاهرة سوف تقوم لا محالة، بدأ يصرف مبالغ كبيرة لبعض العناصر كى تقوم بإحداث شغب ولو بالاعتداء على القنصلية البريطانية نفسها. 

فى اليوم التالى قابل الزعماء الصوماليون صلاح، فقال لهم إنه لا يعترض على قيام المظاهرة الصامتة، لكنه نبههم إلى النتائج السيئة التى قد تنجم عنها من شغب أو عدوان، ونصحهم بضرورة وجودهم بأشخاصهم فى المظاهرة هم والأعضاء البارزون من أحزابهم لإرشاد الناس وتوجيههم. 

قامت المظاهرة، ولما وصلت إلى مكتب الأمم المتحدة لتقديم احتجاجها، هنأهم كمال الدين على المثل الطيب الذى يضربه الشعب الصومالى على النظام والتضامن والروح الوطنية العالية والقدرة على ضبط النفس.

أصبح كمال الدين صلاح محل ثقة طوائف الصوماليين جميعًا، فجعلوا منه مستشارهم الأول فى كل شىء، وكانت الإدارة الإيطالية تعرف ذلك، فلجأت إليه أكثر من مرة. 

جنود إيطاليون يغادرون من نابولى فى إيطاليا متوجهيون إلى الصومال عام ١٩٤٨

زاره الدكتور «بنادر يللى» مدير الشئون الداخلية وأخبره أن لديه معلومات عن قيام المحاربين الصوماليين القدماء باضطرابات فى العاصمة، يستدعون فيها زملاءهم من الأقاليم للاشتراك معهم فى ذلك، وطلب منه أن يتدخل لديهم للعدول عن هذه الاضطرابات، لأنها ستعطى فكرة سيئة عن عدم الاستقرار فى الصومال فى الوقت الذى ستصل فيه بعثة من البنك الدولى لمعرفة ما يمكن تقديمه من العون المالى للصومال. 

تواصل كمال الدين صلاح مع المحاربين القدماء فوجد أن من بينهم من يريدون القيام بأعمال عنف، وعرف أن القنصل البريطانى هو الذى يحرضهم، وأقنعهم بأنهم لو استعملوا العنف فسوف يحصلون على مطالبهم، لكن صلاح أقنعهم بتأجيل المظاهرات شهرًا كاملًا، وبالفعل عندما قامت المظاهرات كانت هادئة بعد أن هدأت النفوس، وكان السبب ما اقترحه كمال الدين كحل دائم لمشاكل المحاربين القدماء وهو أن يتملكوا مزارع تعاونية. 

لعب صلاح دورًا كبيرًا فى طمأنة المستثمرين الذين قصدوا أرض الصومال. 

نقرأ فى مذكراته بتاريخ فبراير ١٩٥٥ قوله: جاء مستر آدم، مدير شركة سنكلير الأمريكية للبترول فى زيارة قصيرة لمقديشو، وزارنى فى مكتبى بالأمم المتحدة، وسألنى عما يتردد من إشاعات عن المصير المظلم لرءوس الأموال الأجنبية والخسائر التى ستتعرض لها الشركات والأفراد الأجانب عندما يعود حكم هذه البلاد إلى أهلها فى ١٩٦٠، تسود موجات من التطرف الوطنى مصدرها كراهية كل ما هو أوروبى أو أجنبى. 

قال له صلاح: أستطيع أن أؤكد بحكم اتصالاتى الدائمة الوثيقة مع زعماء هذه البلاد وأهلها، ومعرفتى بحقيقة نواياهم أنهم لا يضمرون أى شر نحو الأجانب أو المؤسسات الأجنبية، بل إنهم على العكس سوف يعملون على تقديم كل الضمانات الممكنة لتشجيعهم على الاستمرار فى توظيف رءوس أموالهم فى البلاد لاستثمار خيراتها، لأن هذا يتفق مع مصالح البلاد. 

لم يتوقف كمال الدين عند هذا الحد، بل أضاف: إننى يمكن أن أعطيك باسم زعماء هذه البلاد تأكيدًا قويًا بأن ممتلكات شركات سنكلير ومصالحها فى الصومال ستلقى كل الحماية والرعاية عندما يصير حكم الصومال فى يد أبنائه، والمهم فى الأمر هو أنه على الشركات من جانبها أن ترعى حقوق البلاد وتحترمها. 

رد آدم على كمال الدين بقوله: لقد ارتحت كثيرًا لما سمعته منك، وتأكيداتك لى مطمئنة وهى أكبر ربح حصلت عليه من زيارتى الصومال، وأنا أفهم مدى مكانة مصر عند أهالى هذه البلاد. 

جمع كمال الدين صلاح مسئولى الشركة الأمريكية وجميع الأحزاب الصومالية على غداء فى بيته، وبعد هذا الاجتماع الذى قرّب فيه وجهات النظر بين الطرفين، وجد مدير شركة شنكلر يقول له: أنا أعرف أن نفوذ ممثل مصر قوى فى الصومال، وأرجو أن تكون صديقًا للشركة ومعينًا لها، سواء لدى الأهالى أو أمام هيئات الأمم المتحدة. 

فأجابه صلاح: أنا صديق للشركة على شرط أن تبقى حقوق الشعب الصومالى مصونة ومعترفًا بها. 

وفى نوفمبر ١٩٥٦ أصدر الحاكم الإدارى الإيطالى للصومال مرسومًا بإنشاء وكالة للتنمية الاقتصادية، وهى عبارة عن هيئة مستقلة لها شخصيتها القانونية، تستمد اعتماداتها من الإدارة الإيطالية ومن أى جهات مالية أخرى. 

فى مذكراته كتب كمال الدين صلاح معبرًا عما جرى بعدها، يقول: يظهر أن وكالة التنمية الاقتصادية هذه قد أنشئت بناء على مشورة الخبراء الأمريكيين، على أن تكون هى الوسيلة التى تسيطر بها أمريكا على توجيه اقتصاد الصومال ومستقبله، ولم يمض إلا بعض الوقت على إنشائها حتى أعلن عن انضمام الولايات المتحدة إليها ممثلة فى إدارة النقطة الرابعة، وقد بحثنا مرسوم إنشاء هذه الوكالة فى المجلس الاستشارى للأمم المتحدة، وتبين لى من مناقشتى الدكتور جاسبارى ممثل الإدارة الإيطالية أن هذه الوكالة هى صاحبة الكلمة الأخيرة فى إقرار أو رفض أى مشروع اقتصادى يعرض عليها، وأن موافقة اللجنة الوزارية التى أنشئت لبحث المشروعات الضرورية للتقدم الاقتصادى وإحالتها إلى الوكالة لا تقدم ولا تؤخر فى الأمر شيئًا. 

بعد ذلك وقف كمال الدين صلاح فى لجنة الأمم المتحدة يعارض بشدة فى طريقة تكوين وكالة التنمية الاقتصادية وفى اختصاصاتها، وطالب بوجود إشراك الصوماليين فى تكوينها حتى يكون لهم نصيب فعال فى إقرار أى مشروع يعرض للبحث، وقال إنه لا يجوز بأى حال إخضاع نمو البلاد الاقتصادى لتحكم الأجانب مهما كانوا خبراء أو فنيين، حتى ولو كانوا يمثلون الجهات المتبرعة بالأموال، وإلا أدى ذلك إلى فرض سيطرة سياسية على الصومال، وأخذ المجلس برأى كمال الدين، وأرسل كتابًا إلى الحاكم الإدارى بذلك. 

احتفالات صومالية بذكرى الشهيد كمال
الدين صلاح

ويرصد كمال الدين صلاح أطراف الصراع حول الصومال، فيذكر إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وأمريكا، لكنه يتوقف عند إثيوبيا التى كانت تتصارع هى الأخرى ليكون لها موطئ قدم فى الصومال. 

فطبقًا لما رصده أن الصومال له جارة أكبر وأقوى وهى إثيوبيا، وقد كان المفروض أن يجد الصومال فى جارته الإفريقية نصيرًا ومساعدًا له، كان المفروض أن يجد فيها جدارًا يسند ظهره إليها إذا تكاثر عليه الطامعون، ولكن الظروف السياسية مع الأسف جعلت من هذه الجارة مصدرًا آخر للخطر على الصومال، وطامعًا آخر يشترك فى الصراع الدائر فى هذا البلد الصغير. 

من بين خذلان إثيوبيا للصومال أن لأديس أبابا مطامع إقليمية فى مقديشو.

فعندما انتصرت القوات الإنجليزية سنة ١٩٤١ على القوات الإيطالية وطردتها من الصومال والحبشة على السواء، بقيت هناك حتى عاد الإمبراطور «هيلاسيلاسى» إلى عاصمته أديس أبابا، فانسحبت إنجلترا من إثيوبيا وبقى الصومال حتى سنة ١٩٥٠ عندما تقرر وضعه تحت وصاية إيطاليا، وقبل أن تنسحب إنجلترا من الصومال، قامت برسم خط حدود بين الصومال وإثيوبيا، وصفته بأنه خط مؤقت، وبمقتضاه انتزعت منطقة «أوجادين» من الصومال وأعطتها لإثيوبيا، ومن ذلك الوقت خلقت إنجلترا أزمة حدود بين الصومال وإثيوبيا، ومن ذلك الوقت وكل المباحثات التى تجرى لتسويتها تفشل، وإثيوبيا بالذات ليست متلهفة على الوصول إلى حل، ف«الأجاودين» على أى حال فى يدها، وكل يوم يمر يثبت أقدامها هناك. 

وفى سنة ١٩٥٥ فوجئ الصومال باتفاقية سرية تعقد بين إنجلترا وإثيوبيا تعطيها بمقتضاها مناطق أخرى صومالية كانت تحت الإدارة الإنجليزية، ومن ذلك الوقت ثار الصوماليون على إثيوبيا، وأصبحوا يعادونها ويشكون فى نواياها كما يعادون الإنجليز ويشكون فى نواياهم. 

وعندما نوقشت قضية الحدود بين الصومال وإثيوبيا أمام لجنة الوصاية فى الأمم المتحدة، ظهر دور أمريكا واضحًا، ويكشف كمال الدين صلاح الأمر بوضوح: 

كان رفيق عشى مندوب سوريا قد تقدم بمشروع قرار خاص بمشكلة الحدود يوصى فيه بتعيين وسيط فى حالة فشل المفاوضات بين إيطاليا وإثيوبيا لتسوية الحدود بينها وبين الصومال، وقد نشط الوفد الأمريكى فى الاتصال بوفود الدول للتصويت ضد مشروع القرار السورى. 

تواصل كمال الدين صلاح ورفيق عشى بالوفود للحصول على تأييدها، وقد عاونهما فى ذلك مندوبو الهند وسلفادور وهايتى، وكان يتزعم الحملة على مشروع القرار مستر «مولكاهى» عضو الوفد الأمريكى الذى يعتبر مستشار وزارة الخارجية الأمريكية فى شئون شرق ووسط إفريقيا الإستوائية، وذلك لسابق خدمته فى إريتريا، ولما كانت الولايات المتحدة قد بدأت تبدى اهتمامًا واضحًا بهذه المناطق، واتخذت من إثيوبيا مركزًا لمباشرة نشاطها وتنفيذ سياستها الإفريقية فقد كان من المنطقى أن يعارض الوفد الأمريكى فى مجلس الوصاية فى أى إجراء فيه تعريض أو إحراج للحبشة. 

وفى أثناء مناقشة خاصة بين كمال الدين ومستر مولكاهى ذكر الأخير أن مشروع القرار السورى سيكون له رد فعل سيئ فى الحبشة، لأنه مقدم من دولة إسلامية، والأحباش يشعرون أنهم جزيرة مسيحية فى بحر إسلامى، ويشعرون بالأخطار التى تهدد كيانهم من كل جانب. 

ويبدو أن الفقرة الأخيرة من كلام المندوب الأمريكى كانت فلتة لسان، فقد حاول بعد ذلك أن يفسرها بمعنى آخر، وأن يقول إن هذا تفكيره الشخصى، فأجابه كمال الدين بأنه لا مبرر لمثل هذا الشعور أو التفكير، وأن الاعتقادات الدينية وحدها ليست أساسًا تبنى عليه تصرفات الدول، ثم إن رفض مشروع القرار السورى معناه بقاء مشكلة الحدود معلقة مع ما يؤدى إليه ذلك من متاعب وعدم استقرار فى هذه المنطقة. 

وافق المجلس على الاقتراح السورى. 

وبذكاء وفطنة يتوقف أحمد بهاء الدين عند فقرة مهمة فى كلام المندوب الأمريكى عن شعور الحبشة بالأخطار التى تتهددها من كل جانب. 

ويتساءل: ما هى الأخطار التى تتهدد الحبشة من كل جانب؟ 

ويجيب: إن كل الدول المحيطة بها إما مستعمرات، أو دولًا مستقلة أقل منها قوة، ولم يعرف أحد أن هناك دولة واحدة فى هذه المنطقة لها مطامع فى أى مكان على الأرض، إنها كلها شعوب تريد أولا أن تستقل أو أن تحل مشاكلها الداخلية، ثم إن اثيوبيا فى منطقة بعيدة عن التوتر الدولى والحرب الباردة، فهى نموذج للبلد الذى لا تتهدده أى أخطار. 

ويرصد كمال الدين صلاح تعامل الصوماليين مع ضابط الاتصال الحبشى، يقول فى مذكراته: قابله الصوماليون بنفور شديد وإعراض تام عن الاتصال به، فأخذ يتقرب من الأهالى محاولًا كسب مودتهم، وقد واظب على الجلوس فى فناء الفندق الذى ينزل فيه، وبدأ يتلطف مع القادمين، ويقدم القهوة أو الشراب لمن يجلس معه أو حتى لمن يجلس على مائدة قريبة منه، يريد بذلك أن يغرى الكثيرين ممن يريدون تناول أى شىء دون دفع ثمنه أن يجلسوا معه أو حوله لتبدو الدائرة المحيطة به كبيرة، على أن هذه الطريقة لم تستمر طويلًا. 

فقد حدث يومًا أن أقبل أحد الشبان وهو مدرس فى مدارس الإدارة الإيطالية على الفندق فدعاه إلى الجلوس معه- فلما شاهد من بين الجالسين مع المبعوث الحبشى السيد عبدى نور زعيم حزب «دجل ومرفلة»، وكان المبعوث الحبشى قد رآه فدعاه إلى الجلوس معه، ثار الشاب واندفع نحوهم ووجه إليهم عبارات تهديد عنيفة بصوت مرتفع، وكان نائب حاكم مقديشو موجودًا فى الفندق فى ذلك الوقت فأسرع إلى التدخل، وأخذ المدرس الثائر إلى البوليس. 

ومن بين ما رصده كمال الدين صلاح من أمر المبعوث الحبشى قوله: يقوم بالحملة على مصر وعلى الشعوب العربية كلها صراحة وعلانية، مع جميع من يتصل بهم من الصوماليين. 

قضى كمال الدين صلاح فى الصومال ما يقرب من ثلاثة أعوام، تمكن فيها من القيام بدور أقل ما يمكننا وصفه بأنه أسطورى. 

فإلى جانب دوره فى تهيئة الصومال إلى الاستقلال، لعب دورًا كبيرًا فى الحفاظ على هويته، وقاوم انسلاخه من ثقافته، فقد وقف ضد رغبة المحتلين الذين جلبوا معهم المبشرين الذين يدعون إلى المسيحية، وتعليم اللغات الأجنبية وإحياء اللهجات المحلية، وجلب المدرسين المصريين وعلماء الأزهر الذين أنشأوا المدارس الأهلية، وأرسل طلابًا إلى القاهرة وبعض البلاد العربية لتعليمهم فى الجامعات، ووقف ضد مؤامرات السفارة الإيطالية فى القاهرة التى حاولت إبعاد الطلبة الصوماليين عن مصر وإرسالهم إلى أوروبا. 

وأعتقد أن الصوماليين أحبوا كمال الدين صلاح لأنه كان يحافظ على كرامتهم، وذلك من خلال وقوفه ضد أمور قد تبدو بسيطة لكنها تحمل دلالات خطيرة جدًا، منها مثلًا تخصيص شباك بريد للصوماليين والعرب، ورفضه منح الحاكم العسكرى للصومال بقشيشًا لضابط صومالى فى حفل ترقيته، معتبرًا أن البقشيش إهانة ولا يعطى إلا للخدم. 

كل ذلك جعل كمال الدين صلاح غير مرغوب فيه من الجميع، وهو ما يجعلنا نصل مع أحمد بهاء الدين إلى الظروف التى أدت إلى اغتيال كمال الدين صلاح. 

سأل كمال نفسه وهو وسط هذا الصراع العميق عما يجب أن يفعله؟

ووصل إلى قناعة أنه لا بد أن يؤدى واجبه نحو الأمم المتحدة التى يمثلها ويمثل رسالتها الإنسانية فى هذه البلاد، ثم واجبه نحو هذا الشعب الباسل الصغير، ثم واجبه نحو قارته إفريقيا، ونحو بلده مصر، ونحو كل الشعوب المستضعفة فى العالم. 

يقول بهاء: لم يبدأ كمال الدين صلاح بمعاداة أحد، ولكنّ أداءه لواجبه كان لا بد أن يجلب له صداقات وعداوات مختلفة، ومع ذلك لا نجد فى أدائه لواجبه تزمتًا ولا تعسفًا، إنما نرى سماحة، ورحابة صدر، وسعة أفق، ورغبة فى التعاون، بشرط ألا يجعله هذا يتخلى عن مصلحة حقيقية لشعب الصومال أو عن مبدأ أساسى من مبادئ الأمم المتحدة. 

كانت الأدوار التى قام بها كمال الدين صلاح لصالح الشعب الصومالى سببًا فى أن تجمع كل الأطراف على ضرورة إخراجه من الصومال، كان التخلص من وجود مصر فى هذه المنطقة من إفريقيا هو الرغبة التى يتلاقى عندها الجميع، إنجليز وفرنسيين وأمريكيين وإيطاليين وأحباشًا، وشمر كمال الدين صلاح عن ساعده ليخوض هذه المعركة، وكان ثمنها فى النهاية حياته. 

حاولوا تشويهه بكل الطرق، شنت عليه صحف الدول المتصارعة هجومًا طاغيًا، وضعوا فى طريقه العراقيل. 

فى خطاب منه إلى زوجته يقول: إن بعض المسئولين هنا يتعمدون مضايقتى والإساءة إلى حتى تصبح إقامتى فى الصومال غير محتملة، وحتى يضطرونى إلى الرحيل بأى شكل». 

وفى خطاب آخر يقول لها: يظهر أن الإنجليز وحلفاءهم لا يهدأ لهم بال، ويداومون على تدبير المكائد لنا، وقد أصبح واضحًا أنهم يريدون التخلص منى شخصيًا. 

لكنه لم يستسلم، فقرروا التخلص منه. 

فى ١٦ إبريل ١٩٥٧ وقبل سفر كمال الدين حسين إلى نيويورك بثلاثة أيام هجم شاب صومالى بسكين عليه وظل يطعنه حتى سقط على الأرض مضرجًا بدمائه. 

كان القاتل- وكما جاء فى أوراق التحقيقات- هو محمد شيخ عثمان، شاب فى حوالى الثلاثين من العمر، طالب فى إحدى البعثات الصومالية بمصر خلال سنتى ١٩٥٣ و١٩٥٤، ولكن طباعه الشاذة جعلت زملاءه أعضاء البعثة يضيقون به، ويسعون لإعادته إلى بلاده، بل إنهم أرسلوه بصحبة قنصل إيطاليا فى مصر إلى أحد الأطباء النفسيين الإيطاليين فى مصر، فوصفه هذا الطبيب بأنه ذو نفسية سريعة التحول، ثم انتهى الأمر إلى إلغاء بعثته وإعادته إلى الصومال. 

كان القاتل عضوًا فى حزب «دجل ومرفلة»، وفى أول تحقيق أجرته النيابة معه اعترف بأنه كان فى بلدته «بيضوا» عندما أرسل إليه أحد تجار البلدة واسمه الحاج محمد عمر المخرومى، وقال له إنه كان فى العاصمة مقديشو، وإن عبدالقادر آدن سكرتير عام حزب «دجل ومرفلة» طلب منه أن يخبره بأن يذهب إلى العاصمة فورًا ويقابله لأنه يريده فى أمر شديد الأهمية. 

أعلام إيطاليا والصومال والأمم المتحدة

ترك محمد شيخ عثمان بلدته وسافر إلى العاصمة يوم ١٠ أبريل، وفى يوم ١٤ أبريل التقى عبدالقادر آدن سكرتير عام حزب «دجل ومرفلة» وعبدالله مرسل نائب الحزب وصحبه الاثنان فى سيارة عبدالقادر آدن وانطلقا يتحدثان معه. 

قالا له: لقد دعوناك من أجل مصلحة عليا للحزب، فنحن نريد أن تتحول الصومال إلى اتحاد فيدرالى بين ولايات، ما يعزز شأن النظام القبلى، ولكن كمال الدين صلاح يؤيد حزب وحدة الشباب الذى يريد دولة واحدة مستقلة، فلابد من محو كمال الدين هذا من الوجود، إذ طالما هو موجود فى الصومال لا يمكن أن يتم مشروع الاتحاد الفيدرالى، ولا بد أن يتم التخلص منه بسرعة، قبل أن يسافر فى نهاية الشهر إلى نيويورك، حيث سيمثل المجلس الاستشارى أمام مجلس الوصاية بالأمم المتحدة أثناء مناقشة الحدود بين الصومال والحبشة، ثم طلبا منه صراحة أن يقوم هو باغتيال كمال الدين. 

عاد القاتل فعدل عن أقواله، وقال إن أحدًا لم يحرضه، وإنه ارتكب الجريمة بمفرده، ثم عاد فعدل عن عدوله هذا، ورجع إلى أقواله الأولى واتهام النائبين. 

يقول بهاء الدين: إن هناك شكوكًا كثيرة تحيط بالموضوع، فالسيدة أمينة صلاح زوجة الشهيد كمال الدين صلاح لا تصدق اتهامهما، فقد كانا من أعز أصدقاء زوجها، وهذان النائبان كانا من أشد معارضى الإدارة الإيطالية.. فهل كان هناك تواطؤ وتلفيق فى القضية؟ 

فالجندى الواقف أمام باب القنصلية المصرية لم يتحرك لإنقاذ كمال الدين، ولم يتحرك للقبض على القاتل، وكانت العادة أن يتغير جندى الحراسة كل يوم، ولكن هذا الجندى بالذات لم يتغير طوال الأيام الثلاثة التى سبقت وقوع الجريمة، والتى كان القاتل قد وصل إلى العاصمة فيها، وبدأ يستعد لانتهاز فرصة يرتكب فيها جريمته، وحالة الطوارئ أعلنت لسبب غير مفهوم صباح يوم ارتكاب الجريمة أى قبل وقوعها بساعات. 

حكمت المحكمة بالأشغال الشاقة المؤبدة على القاتل وبراءة النائبين. 

ويسأل بهاء الدين: من هو المسئول عن قتل كمال الدين صلاح؟ 

ويجيب فى ختام كتابه: لا يهمنا كثيرًا أن نقف عند تحقيق النيابة، أو أن نتابع جلسات المحكمة، لنعرف من الذى قتل كمال الدين صلاح، إن الذى قتله أكبر من الشاب الأسمر، وأكبر من النائبين اللذين قال القاتل إنهما حرضاه، وأكبر من الذين أعطوه النقود، لقد راح كمال الدين ضحية استراتيجية عالمية واسعة.. والذى قتله هو الاستعمار فى إفريقيا.