السبت 05 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أقنعة الختان.. الباحثة إيرينى سمير: تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى يحدث فى أكثر الدول تحضرًا

الباحثة إيرينى سمير
الباحثة إيرينى سمير

- «تسليع» مظهر المرأة أصبح ملازمًا لأضواء الشهرة

- الهوس بعمليات التجميل قناع من أقنعة الختان

- نشرت كتاب «أقنعة الختان المختلفة» على نفقتى الخاصة لتعرضه للتهميش

قبل أسبوعين، أصدرت الباحثة إيرينى سمير حكيم كتابها «أقنعة الختان المختلفة»، معتمدة فى نشره على نفسها كلية، بداية من تحمل نفقاته كاملة، ثم تصميم وتنفيذ غلافه بيديها؛ لدرجة تعلمها برنامج «In Design» خصيصًا لإخراج كل التفاصيل الداخلية والخارجية للكتاب حسب رؤيتها الخاصة.

هذا الشغف والإصرار الكبيران على إصدار هذا العمل، لا ينم إلا عن إرادة فولاذية لصاحبته، التى تحمل فى عقلها أفكارًا خلاقة حول القضايا والأوضاع الصعبة، التى تعيشها المرأة فى الشرق الأوسط وباقى بلدان العالم.

ويتناول الكتاب القضية الأخطر فى حياة المرأة، وهى «الختان»، لكن من منظور فلسفى، مقدمة عرضًا بانوراميًا بالصور والمراجع حول الظاهرة المنتشرة فى كل أنحاء العالم، موثقة كل معلومة بشكل يجعل القارئ يشعر وكأنه يشاهد فيلمًا وثائقيًا يخطف الذهن والعين طوال مدة القراءة. 

عن الكتاب وكواليسه وقصته ولماذا تحملت تكلفته على نفقتها وتفاصيل أخرى، كان لـ«حرف» هذا الحوار مع إيرينى سمير حكيم.

■ نشرت كتابك «أقنعة الختان المختلفة» على نفقتك الشخصية.. من أين جاءتك الفكرة؟ وهل حاولت نشره فى إحدى دور النشر قبل أن تصدريه بنفسك؟ ولماذا موضوع الختان تحديدًا؟

- راودتنى الفكرة بشكل عام منذ عام ٢٠٢٠م، حين بدأت فى كتابة بحث عن الحذر من «صور الختان المختلفة»، حيث توقفت أمام معلومة «تقليد طىّ الأقدام» فى الصين، وقد تأملت أبعاده وتشابهه مع «الختان»، فكلاهما يحمل نفس المنهج الفكرى فى جوهره، بينما يكمن الاختلاف بينهما فى طريقة التطبيق وموضع التنفيذ فى الجسم، وبمتابعة البحث والتحليل، وجدت تكرارًا لنفس التشابه مع صور أخرى لممارسات تُطبق على المرأة، تحمل نفس التشابه الجوهرى مع «الختان التقليدى»، حتى وإن كان تنفيذها يتم فى صور متناقضة، فهى بالرغم من اختلافات طرق تطبيقها، حسب اختلاف العصر، وتقاليد وثقافات المجتمعات، تبقى ذات رؤية منهجية واحدة.

ومن هنا ركزت على كشف صور «الختان» الذى يستتر خلف صورته التقليدية الشهيرة، وهى «تشويه الأعضاء التناسلية للإناث»، للتنقيب فى أعماق جذوره، المنتشرة فروعها المتلونة الأشكال على سطح حياتنا، دون أن ندرك مدى اتصالها الجذرى بهذا الفعل.

وهنا أشير إلى جوهر «الختان» بشكل عام، وهو ذاك التقليم اللئيم الذى يحدث للمرأة فكريًا وجسديًا، فى صور شتى، ويخرج من أماكن ومصادر معتقدات متعددة، مستهدفًا مناطق مختلفة فى جسدها، للتشذيب، فالأنثى باعتبارها كائنًا شديد التميز فى تكوينه، وفى دوره وفى امتداد الحياة منه، كانت منذ البدء حتى اليوم، محط التقييد والتقليم معنويًا وفعليًا، لذا اجتهدت فى أن آخذ من هذا البحث الموسع، سبيلًا حقيقيًا لوعى المرأة وكرامتها وحريتها، بمواجهة حقائق موثقة، وبعيدة عن الشعارات الزائفة، ومحدودية المعرفة الرائجة.

أما عن نشر الكتاب على نفقتى الخاصة، فقد كان لزامًا علىَّ، بعد أن تعرض الكتاب لمحاولات طمس وتهميش أكثر بكثير من فرص الوجود، ولم تكن أماكن النشر المختلفة المطروقة، متعاونة حقًا لخروج هذا الكتاب البحثى للنور.

■ ماذا قصدت بـ«الختان الذهنى للنساء»؟

- الذهن هو حاوية العمليات العقلية فى الإنسان، به يكمن الفكر والإدراك، والخبرات الشخصية «لشىء ما»، والتى غالبًا ما يتأثر جميعها بالوعى الجمعى المجتمعى، وبهذا فإن استخدامى هذا المصطلح المجازى فى هذا السياق البحثى، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعرفة والخبرة الشخصية المشوهة للأنثى عن نفسها، سواء كان فى هذه الثقافة أو تلك، لهذا دعمت هذا التعبير بمصطلح «الختان الثقافى» و«المعرفى»، وهو ذاك القصف لتواصلها مع الوعى الإدراكى لما يحيط بها، عندما تتصل إنسانيًا بالعالم من حولها.

إنه «الختان» لفرصتها الشعورية والذهنية، وبما يدور حقًا فى بيئتها وما حولها وهو إسقاط رمزى، على تقييد وعى الذهن، على غرار ما يحدث من «ختان للأنثى» فى الجسم، إنه تقليم الذهن، وتشذيب الفكر وضرب الخيال، وإقامة أسوار وحدود تجمع فى تكوينها، بين الخوف والرهبة والشعور بإذلال الوحدة والنبذ، حتى تتاح الفرصة لزرع ما بين هذه الأسوار المخيفة، بكل ما يريده المجتمع أيًا كان بلده، أو ثقافته أو عصره، فيضع بذوره غير الطبيعية وغير العادلة وغير السوية فيه، لتتشبع الأنثى بهذا الغذاء الذهنى المشوه، فتنجب إناثًا يحملن تلك الأمراض الإنسانية باستسلام وإيمان وطواعية.

والجدير بالذكر هنا أنى قد ربطت هذا الختان «الذهنى والثقافى» بالرجال أيضًا، حيث يقبع هنا ما اسميه «الختان الوراثى»، الذى لا يفرِّق بين نسل من الذكور أو الإناث، فلا داعى للشك أن هذه الأم التى تربى ابنتها، على فكر وفعل «الختان» بأى صورة من صوره المختلفة، لتجعلها هى الأخرى أسيرة مثلها لعادات هذا الختان فى حياتها، أن تكون من باب الوراثة والتوريث، ناقلة هذا التشوه إلى ابنها كذلك، ولكن بنمط آخر، وفى صور أخرى، وهكذا تستمر دورة الختان المجتمعى إلى هلم جرا، فإن كان الرحم قيدًا فالنسل سجون، لكن يبقى ما هو أدهى من ذلك، وهو: أن الرجل لا يدرك، أنه وريث لهذا الختان بصورة أو بأخرى.

■ قلت إن «الختان» فعل يتقن التلون عبر العصور.. كيف ذلك؟

- هناك «مقايضة ختانية» وجودها ثابت فى جميع النماذج المرصودة فى الكتاب أنثروبولوجيًا، وهى مقايضة سلامة الأنثى وصحتها وكرامتها، بالقبول المجتمعى والسماح لها بممارسة حقها فى التعايش معه، كزوجة وأم وامرأة غير مغضوب عليها جمعيًا، وهذه «المقايضة» هى نفس الدافع الجوهرى الذى يتسم به جوهر «الختان التقليدى»، يتضح ذلك فى الأمثلة المذكورة كتقليد «كى الثدى» فى «الكاميرون»، و«جلد الفتيات» فى قبيلة «الهمر»، و«بيع الزوجات» فى إنجلترا فى القرن ١٦م، و«بيع العرائس» فى «بلغاريا» حتى وقتنا الحالى.

■ اعتبرت أن عمليات التجميل قناع من أقنعة الختان.. ما تفسيرك لذلك؟

- هذا فى حالة «الهوس» بإجراء عمليات تجميل بالتأكيد، ولم أعمم، حيث الدفع المجتمعى الهستيرى للنساء، للوصول لمقاييس جمال محددة، فى شكل الجسم ولون البشرة وإخفاء علامات تقدم العمر، واستسلام النساء للدفع التعس بهن نحو قولبة أشكالهن فى هذه المقاييس، وإيذاء صحتهن الجسدية والنفسية، وذاك بالرغم من انتشار الوعى بأضرارها ومخاطرها، واسترسال العديد من هؤلاء المهووسات فى إجراء عملية تلو الأخرى، ليتحول المسار من «عمليات تجميل» إلى «تشويه»، وبالاستشهاد بحوادث لثقافات مختلفة من العالم، وذكر المراجعات الطبية للحالات، اتضح كيف تقبع «المقايضة الختانية» هنا أيضًا، فى «الهوس» بالإجراءات التجميلية.

إيريني سمير

■ قلت إن للختان أقنعة ساحرة مغرية تصاغ تفاصيلها بخدع أكثر تحضرًا ورقيًا.. فما هى هذه الأقنعة؟ وكيف تصاغ؟ وما الغرض منها؟

- نعم ومنها المثال السابق، وكذلك «الاتجاه العالمى لتعهير مظهر المرأة»، الذى تخطى هدف تسليعها وتحرر ملبسها، وخرج من مقاييس الأناقة والموضة وتعدى على خصوصية جسدها، وأصبح تعهير مظهرها أمرًا ملازمًا لأضواء الشهرة، ولمظاهر مجتمعات تربطه بالتحضر الزائف والرائج مؤخرًا، وهو مثال يندرج تحت مصطلح وصفته به، وهو «ختان الإناث فى ما بعد الحداثة» فكما فككت «ما بعد الحداثة» النص، ونحت سلطة مؤلفه عليه، هكذا فكك «ختان ما بعد الحداثة» الأسوار المقامة حول جسد المرأة، التى للحبس والتى للحماية معًا، ونحت سلطتها عليه، وأصبح المجتمع المتلقى مظهرها، هو ما يحدد ما تكون عليه كيفما يشاء، والتى لم ترجع المرأة إلى قيود العبودية الرجعية فحسب، بل سجنتها فى أسوار شفافة، من حرية زائفة وثقافة مضللة، ما يصعب عليها فرص الوعى الحقيقى، وهكذا فالمجتمعات المتبنية الأفكار «ما بعد الحداثية»، «تختن» الأنثى بأقنعة جديدة للختان، بينما ترجم «الختان التقليدى»، وتشجبه.

وفى بعض الثقافات والتطبيقات ينساب «الختان» فى صور تبدو أكثر ودًا وصداقةً فى التعامل مع المرأة، حيث تحدثها عن حريتها وأنوثتها وحقوقها بدبلوماسية خادعة، برغبة مبطنة فى تملكها، وبهذا تتمكن من فرض قيود «الختان» الجوهرية وجنى ثمارها، مهما كانت متطلباتها متكلفة وقاسية، إنما بطرق أكثر لطفًا وخبثًا فى خداع المرأة.

■ فى رأيك كباحثة.. ما أسباب استمرار «الختان» رغم جهود التوعية بمخاطره؟

- قدرة «الختان» على التلون والإقناع، لكل ثقافة بما يناسب مجتمعها، وتشبثه بكل إمدادات وراثية مادية ومعنوية أتيحت له أيًا كانت، ولا يمكننى أن أقول الإجابة التقليدية، وهى «الجهل»؛ لأن ما وجدته فى بحثى وأصررت على فضحه هو أن قدرات «الختان» فى مجتمعاتنا المختلفة، تتغذى على «القبول» أكثر منه على «الجهل»، وإن قلنا «الجهل» فلابد أن نحدد أولًا ماهية الجهل، فقد رصدت صورًا خبيثة للختان ونماذج موثقة بالإحصائيات والصور، فى أكثر دول العالم تنعت بالتحضر وتحظى بالرفاهية، لذا ربما يكون انتشار «الوعى الزائف» هو أخطر مسببات «الختان» وباعث استمراريته.

■ كيف تم حصار الفكر الأنثوى فيما بين فكرتى «الشعور بالدونية» و«الرغبة فى الإرضاء»؟ وكيف تم تمريره تحت قناع التحضر؟

- بالتهديد الدائم لأنوثة المرأة وفرض شرط «الختان» عليها، لإتمام قبولها الاجتماعى، وممارسة حياتها الطبيعية كزوجة وأم، أى وضعها تحت وطأة الابتزاز الاجتماعى، وتنفيذ «المقايضة الختانية» عليها.

■ هل وضع معايير بعينها للجمال صورة من صور الختان؟

- نعم، ربما يكون هذا عندما يرتبط تقييم المرأة وقبولها، وإتاحة فرص تحققها فى الحياة من خلال قالب معين للجمال، فبه تتزوج وتمارس أمومتها وتستحق حياتها، وهذا يختلف نسبيًا من ثقافة إلى أخرى، فمثلًا فى قبيلة «مُرسى» فى إثيوبيا، إن لم تشق الفتاة شفتها السفلى أو العليا أو الاثنتين معًا لتضع «طبقًا» للتزين، ستعانى من العنوسة، وربما من النبذ المجتمعى، بل كلما استطاعت أن تمد شفتيها أكثر وتضع طبقًا أكبر، كبر مهرها، وهكذا فى قبيلة «الكايان» فى تايلاند بالنسبة لارتداء «خواتم العنق»، وقبيلة «الأباتانى» شمال شرق الهند، بالنسبة لـ«سدادات الأنف»، وغيرها من الأمثلة.

■ رصدت فى كتابك العديد من صور انتهاكات النساء عبر الثقافات.. فما أغرب هذه الصور؟

- من الصعب تحديد أى منها أكثر غرابة، فجميعها تتسم بالفجاجة والإدهاش، ولكنى سأذكر واحدة منها مؤلمة ومهينة للغاية، وهى تقليد «التطهير الجنسى» فى مالاوى وزامبيا وكينيا، وفيه تطبق هذه الثقافة «ختانها» على الإناث، المرتبط بمفهوم «التطهير» على طريقتهم ورؤيتهم الخاصة، وهو جزء من فقرة طقسية بهذا الاسم فى احتفال سنوى قديم، وخلال هذا التطهير يمارس رجال مأجورون معروفون باسم «الضباع البشرية» الجنس مع الفتيات والسيدات، ويحدث ذلك للأنثى، بعد دورتها الشهرية الأولى، أو بعد موت الزوج أو بعد الإجهاض.

و«الضبع البشرى» بالنسبة للأطفال العذراوات، هو رجل يقابلنه فى مقتبل حياتهن، بعد أول لقاء لهن مع الدماء فى دورتهن الشهرية الأولى، حيث يواجهنه بالخوف والغصب فى ليلة غبراء، بعدما يدفع له، من قِبل ذويهن الذين يجبرونهن على الخضوع لهذا التقليد، لكى يمارس الجنس مع الطفلات منهن، اللائى تتراوح أعمارهن ما بين 12-17 عامًا، ويعتبر هذا التطهير فى ثقافتهم، هو بمثابة طقوس مرور للفتيات الصغيرات من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الأنوثة، وتطهير للقبيلة جميعها من لعنات الأرواح الشريرة.