الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حسن الصبّاح.. أسطورة شيخ الجبل بعيون تركية

حرف

- على يد «الحشاشين» جرى اغتيال نحو30 ألفًا من رجال الدولة فى إيران وخراسان والعراق وأذربيجان

- لزعيم «الحشاشين» عدة كتب لم ينجُ منها بعد أن دمر المغول قلعة «آلموت» سوى كتاب واحد

- «سيد آلموت» التى قضى فيها 35 عامًا من عمره ولم يغادرها أبدًا حتى وفاته لجأ إلى أساليب جهنمية لإنشاء قلاع حصينة

من هو حسن الصبّاح حقًا؟ هل هو داعية استثنائى من أبناء الطائفة الإسماعيلية، استطاع أن يقيم عدة دويلات شيعية فى قلب العالم السنى، أم أنه «إرهابى» من دهاة القرون الوسطى، حارب إمبراطورية السلاجقة فى عقر دارها وعز مجدها، وأنشأ تنظيم «الحشاشين» أول جماعة إرهابية فى التاريخ؟

كتاب «الحشاشون: الأساطير والحقائق»، الصادر مؤخرًا فى بيروت، للكاتبة التركية عائشة أتيجى أرايانجان، واحد من عدة كتب ظهرت بعد نجاح مسلسل «الحشاشين» فى رمضان الماضى، كرد فعل لما حققه المسلسل من صدى إعلامى كبير، رغم اعتماده على الخيال أكثر من الحقيقة. وهو صدى أوجد حالة من الجدل بين طيف واسع من الجمهور العربى حول شخصية الصبّاح، وحقيقة الجماعة التى أسسها فى القرن الثانى عشر الميلادى.

ولم يختلف المؤرخون، قدامى ومعاصرون، على شخص فى التاريخ كما اختلفوا على الصبّاح، الذى كان يقرأ ويكتب بأربع لغات، هى: العربية والفارسية والتركية واللاتينية، ومتبحرًا فى علوم الهندسة والفلك والكيمياء والسيمياء. والأخير، السيمياء، ليس علمًا بمعنى الكلمة، بل هو مسعى خرافى اشتغل عليه بعض الكيميائيين العرب الأوائل، قائم على إمكانية تحويل النحاس إلى ذهب باستخدام «حجر الفلاسفة».

وبالمناسبة، فمن المستحيل على الشخص، وفق التصور الإسماعيلى، أن يكتسب المعرفة بطريقة «التعلّم الذاتى» مثلًا، بل عليه أن يتتلمذ خطوة بعد خطوة على يدىّ معلّم، حصّل- بدروه- العلم عن طريق الإمام. لذلك عُرفوا فى الأدبيات التاريخية باسم «التعليمية». وجاء فى بعض كتبهم أن المعلّم الحق هو «حجر الفلاسفة»، ومُريده هو النحاس الذى سيتحوّل بلمسة منه إلى ذهب!

التنظيم السرى الإسماعيلى

كان عمر الصبّاح ١٧ سنة حينما بدأت تنتابه شكوك حول الإسلام نفسه، فتحوّل على إثر مرض خطير أصابه من مذهب الشيعة الإمامية «الاثنى عشرية» إلى المذهب الإسماعيلى، نسبة إلى إسماعيل الابن الأكبر المخُتلف عليه للإمام جعفر الصادق، والذى مات شابًا، ويُقال إن والده «جعفر» قتله بالسم بعد أن نصحه مرارًا بالكف عن معاقرة الخمر، ولم يرتدع. فكلّف الأب أحد علماء الكيمياء فى عصره بأن يصنع له سمًا لا يُكتشف أثره لكى يقتل الابن، وقد كان.

ويحكى حسن، وفق الكتاب، فى موضع من سيرته المكتوبة بالفارسية والمسماة «سيرة سيدنا»: «كنت من طائفة الاثنى عشرية، وهو مذهب أجدادى. وكان هناك شخص اسمه أمير ضرّاب من الطائفة الإسماعيلية فى مدينة الرِى، حيث نشأت. كنا نتجادل حول المذاهب، ودائمًا ما يدحض آرائى ويهين مذهبى. فى ذلك الوقت، لم يكن إيمانى قويًا. ورغم أننى قاومت، فقد ظل أثر كلماته فى قلبى، لكنى لم أتمكن من الحديث عن ذلك لأى شخص بسبب تعصبى الشديد».

يضيف: «فى ذلك الوقت، أُصبت بمرض خطير. وقلت لنفسى: إذا جاء موعد الموت، فسأموت دون أن أصل إلى الحقيقة. ولكن، بسبب هذا التغيير فى الاعتقاد الذى حدث معى، تغلبت على المرض دون معونة طبيب. وعرفت، بعد أن تعافيت، أسرار الطائفة من شخص آخر يُدعى نجم الدين السراج، فأصبحت واحدًا من أتباعها المخلصين».

وكان لا بد أن يدخل الصبّاح إلى الطائفة على يد أحد الدُعاة المعتمدين من التنظيم السرى الإسماعيلى. فلم تكن مسألة الالتحاق بالطائفة أمرًا متاحًا لكل شخص، بل تطلّب الأمر تزكية من عبدالملك بن عطّاش، الداعية الأول فى منطقة بلاد فارس، فوافق على التحاق حسن بالجماعة، وكلّفه بمهام كبرى صنعت منه ذلك الرجل المثير للجدل، الذى عرفه التاريخ بعد ذلك.

أول مهمة كانت السفر إلى مصر، ومقابلة الخليفة الفاطمى المستنصر، وأخذ الإذن منه لإقامة إمارة تابعة له فى إيران، التى كانت ضمن مناطق سيطرة السلاجقة السُنة وقتها. وبناء على ذلك التكليف، تخفى الصبّاح فى زى تاجر، وسافر عبر سيناء ومنها إلى القاهرة، مع قافلة من الجمال محملة ببضائع من الشام. 

أقام فى القاهرة ١٨ شهرًا، وليس ٣ سنوات كما تقول المؤلفة، قابل خلالها المستنصر مرة واحدة. وشهد الصراع على السلطة بين ابنىّ الخليفة نزار والمستعلى، فانحاز إلى أنصار نزار حتى قُتل الأخير، فبات الصبّاح مُطاردًا من رجال المستعلى. واستطاع الهرب إلى الإسكندرية، والتحق بباخرة مسافرة إلى بلاد الشام. 

الهروب من مصر

بعد هروبه من مصر، تخفى فى زى الدراويش المتجولين، وظل يجوب مناطق سيطرة الإمبراطورية فى أنحاء بلاد فارس لمدة ٩ أعوام، حيث أقام فى المبانى الملحقة بالمساجد وتكايا المتصوفة، المنتشرة عبر مدن «كرمان ودمغان ويزد»، وراح يدعو سرًا إلى إمامة نجل نزار بن المستنصر.

وبعد ٦ سنوات من التجوال والدعاية ضد الخليفة العباسى، تبيّن له أن من الأفضل اختيار المناطق الجبلية فى إيران، وتحديدًا «جيلان وديلم ومازندران»، مناطق سُكنى القبائل المتمردة على حكم العباسيين وحلفائهم السلاجقة، فظل يتنقّل سرًا هناك ٣ أعوام أخرى، ويمارس دعوته خفية فى حذر شديد.

وفى عام ١٠٩٠ م، تسلل إلى قلعة «آلموت» بمنطقة الديلم، التى كانت ملكًا لرجل اسمه المهدى من نسل الحسين بن على. عاش الصبّاح فى القلعة فترة تحت اسم «دهودا» مخفيًا هويته الحقيقية، واستطاع أن يقنع معظم الحراس باعتناق مذهبه، حتى انقلبوا جميعًا وهو معهم على المهدى، وخيّروه بين بيع الحصن أو طرده منه بالقوة، فاختار البيع. وحصل مقابل ذلك على ثلاثة آلاف دينار ذهبًا، لم يصدّق نفسه وهو يحصل عليها. 

فى ذلك الوقت، كانت الدولة السلجوقية تشهد صراعًا داخليًا، فعمل النزاريون بقيادة «شيخ الجبل» دون توقف على استغلال هذا الاضطراب، وحوّلوا «الموت» إلى حصن منيع يمكن أن يصمد أمام أى حصار زمنًا طويلًا.

وتقول الكاتبة إن السلطان السلجوقى «بركياروق» لم يتمكن من مواجهة الإسماعيليين بسبب الحرب الأهلية، واضطر أن يغض الطرف عنهم على مضض. وبينما كان هؤلاء يرسلون دعاة نشطين إلى الأراضى السلجوقية، ويؤثرون على الجهلة منهم، بدأوا- من ناحية أخرى- فى قتل الذين يعارضون معتقداتهم بالخناجر عبر «الفدائيين».

وتشير إلى أن لزعيم «الحشاشين» عدة كتب، لم ينجُ منها بعد أن دمر المغول قلعة «آلموت» سوى كتاب واحد، اسمه «الفصول الأربعة»، أورد فيه بعضًا من أصول طريقته التعليمية، وأعطى لحركته اسم «الدعوة الجديدة»، تمييزًا لها عن دعوة الفاطميين التى انطلقت من مدينة «سلمية» السورية، ووضع أسسها علماء الجامع الأزهر خلال حقبة الحكم الفاطمى.

توفى الصبّاح يوم الجمعة ٢٣ مايو عام ١١٢٤، فى التسعين من عمره، وتم دفنه بعد طقوس احتفالية كبيرة استمرت ٣ أيام فى مقبرة بُنيت خلال حياته بجوار قلعة «آلموت». وظل قبره مزارًا لأبناء الطائفة حتى دمّره المغول، مع القلعة نفسها فى القرن الثالث عشر، وذبحوا خلال ذلك ١٢ ألف شخص.

سيد «الدعاية المظلمة»

يواجه الباحث المعاصر فى تاريخ النزاريين خلال فترة الصبّاح صعوبة فى استجلاء حقيقتهم، بسبب تضارب الروايات عنهم. خصوصًا أن «سيد آلموت» التى قضى فيها ٣٥ عامًا من عمره ولم يغادرها أبدًا حتى وفاته، لجأ إلى أساليب جهنمية لإنشاء قلاع حصينة، كانت بمثابة دويلات إسماعيلية استمرت لمدة ١٦٦ سنة. وذلك اعتمادًا على مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة». وكان أول من ابتكر أسلوب «الدعاية المظلمة» فى التاريخ. 

رغم ذلك، تقول المؤلفة، إنه لا ينبغى إنكار مكانة النزاريين عبر فصول التاريخ الإسلامى، لكونهم لعبوا الدور القيادى فى فترة مضطربة. صحيح أنهم فشلوا فى تحقيق أهدافهم، لكنهم شكلّوا تهديدًا سياسيًا ودينيًا واجتماعيًا خطيرًا للنظام القائم، وأصبحوا جزءًا من سلسلة دعاية مظلمة وشعبية للغاية، اتخذت طابعًا دينيًا، وكانت موجهة بالأساس إلى «الجهلة» من المعاصرين، حسب تعبير الكاتبة. 

ويختفى عبر صفحات الكتاب ذلك الخيط الرفيع، الفاصل بين الإرهاب والعمل الثورى فى حالة «تنظيم الحشاشين»، تمامًا كما حدث مع تنظيمات مسلحة أخرى فى مراحل تاريخية لاحقة، من بينها «بادر ماينهوف» الألمانى و«الألوية الحمراء» الإيطالى، وغيرهما من التنظيمات اليسارية التى ظهرت خلال القرن العشرين، واستخدمت أسلوب الهجمات الإرهابية، ولكنها فشلت فى تحقيق أهدافها المعلنة، فى نهاية المطاف.

وهنا، نتوقف عند نقطة بالغة الأهمية، وهى تبرير الباحثة التركية أعمال العنف الدموية التى ارتكبها أتباع الصبّاح ممن سمّتهم «الفدائيين»، بأنها كانت الوسيلة المتبعة آنذاك لـ«تغيير العالم». وحسب هذا المعتقد، جرى اغتيال نحو ٣٠ ألفًا من رجال الدولة فى إيران وخراسان والعراق وأذربيجان. وكان فى «قوائم الاغتيالات» المعلقة على جدران قلعة «آلموت» ٧٤ شخصًا من الأمراء والوزراء والقضاة والولاة. 

فى الوقت نفسه، لا تبرر الباحثة قيام الصبّاح بقتل ابنيّه «محمد» و«الحسين»، فقد لقى الأول مصرعه تحت تأثير الجَلد حينما أقام عليه أبوه «حد الخمر»، بعد أن ضبطه وهو يتعاطى النبيذ. بينما مات الابن الثانى بعد اتهامه ظلمًا فى مؤامرة داخلية بقتل أحد الأتباع، فأُقيم عليه «حد القصاص»، مشيرة إلى أن الأب ندم ندمًا شديدًا بعد موت الابن، وأمر بقتل الضالعين فى هذه المؤامرة أيضًا.

من جهة أخرى، وقعت الكاتبة على مدار الكتاب فى أخطاء جسيمة، لم يكن لها أن تقع فيها، من بينها ما ورد فى صفحتى ١٦ و١٧ حيث تقول: «بعد استيلاء حسن على قلعة آلموت، وإعلان استقلاله «عن السلاجقة» لم يستخدم أبدًا لقب سلطان أو أمير، واكتفى بلقب «سيدنا»، دون أن يطلق دعوة دينية باسمه. وبينما انتظر ظهور الإمام السرى لنشر الدين، كان بمثابة الدليل لهذا الإمام القادم».

ومن المعلوم أن الطائفة «الاثنى عشرية» هى وحدها، من بين طوائف الشيعة، التى تعتقد فى وجود الإمام الغائب، أو المهدى المنتظر، وهو- حسب معتقدهم- الإمام الثانى عشر محمد بن الحسن العسكرى، الذى اختفى داخل سرداب فى مدينة سامراء العراقية عام ٨٧٤ م. 

أما الطائفة الإسماعيلية فإمامها حاضر على الدوام، سواء كان فى شخص الخليفة الفاطمى قديمًا، أو كريم الحسينى «آغاخان الرابع» فى الوقت الراهن. وهو وجه الخلاف الأصيل بينها وبين الطوائف الأخرى، بل هو أمر أساسى فى الانقسام الشيعى الذى يعود تاريخه إلى أكثر من ألف عام. وهذا الأمر يعرفه أى باحث مبتدئ فى تاريخ الشيعة. 

كما يؤخذ على «أرايانجان»، أيضًا، انحيازها شبه التام للرواية الإسماعيلية، وتجاهلها كتابات المؤرخين والباحثين من الطوائف الأخرى، ناهيك عن مؤرخى وفقهاء السُنة، وعلى رأسهم أبوحامد الغزالى، الذين قدّموا رواية مختلفة تمامًا، ظهر فيها الصبّاح كزعيم لأول تنظيم إرهابى فى التاريخ. كما ظهر أبناء الطائفة، عمومًا، فى صورة «الباطنية» الحاقدين على الإسلام و«الخارجين عن الملة». 

أخيرًا، تعود المؤلفة إلى السؤال الصعب: «فى النهاية، هل كان مجتمع النزاريين، فى مناطق حكمهم الذاتى، دولة أم تنظيمًا أم طائفة؟ الجواب العام عن مثل هذا السؤال هو أن الحركة التى بدأها حسن الصبّاح بهوية دينية وأيديولوجية، تحولت إلى تنظيم مسلح من حيث الأساليب الدعائية التى ابتكرها، وأصبحت دولة مستقلة حافظت على وجودها خلال فترة طويلة من الزمن».