الأربعاء 04 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الإسلام الديمقراطى.. على هامش معركة فكرية تحاور فيها خالد محمد خالد ويوسف إدريس وفرج فودة

حرف

فى العام 1986 كان الكاتب الكبير خالد محمد خالد ينشر سلسلة من المقالات بجريدة الوفد، تناول فيها رؤيته التى يربط من خلالها بين الإسلام والديمقراطية، ليفتح بابًا كبيرًا للنقاش والحوار الذى كان كثيره عنيفًا ومتطرفًا ومتشنجًا، وقليله هادئًا وراقيًا ومتحضرًا. 

كتابات خالد محمد خالد بدأت بـ«من هنا نبدأ» فى العام 1950 وحتى آخر كتبه الذى صدر فى أبريل 1996 بعد شهر واحد من وفاته، ففد توفى فى مارس من نفس العام.

كان خالد قد قرر فى نهايات حياته أن يصدر كتابًا جامعًا يضع فيه معظم أفكاره، واختار له عنوان «الإسلام ينادى البشر»، وكان مقررًا له أن يصدر فى ثلاثة أجزاء، الأول عنوانه «إلى هذا الرسول»، والثانى «إلى هذا الكتاب- القرآن» والثالث «إلى هذا الدين». 

لم يتمكن خالد من إنجاز مهمته الأخيرة، انتهى فقط من كتابه الأول «إلى هذا الرسول» ولم يره بين يديه مطبوعًا، فقد صدر بعد وفاته، وهدف من خلال هذا الكتاب، كما قال، إلى تقديم الإسلام كما فهمه إلى الناس فى العالم المعاصر بتعقيداته وتشابكاته وسوء الفهم الذى يسيطر عليه ويسوقه. 

فى كل هذه الكتابات كان خالد مهمومًا بفكرة واحدة هى: كيف يصلح الدين حياة البشر؟ كيف يساعدهم على أن يعيشوا حياة سعيدة؟ كيف يكون إضافة لهم لا خصمًا منهم؟ كيف يحررهم من كل أشكال الاستغلال التى تراد لهم؟

فالدين عند خالد محمد خالد هو الحرية. 

لا أستطيع أن أتجاهل أن هناك ما يشبه الثغرة فى تفكير وكتابات خالد. 

ففى كتابه الأول «من هنا نبدأ» حاول بكل الطرق أن يثبت أن الإسلام دين لا دولة، ثم بعد سنوات عاد ليقول فى كتابه «الدولة فى الإسلام» أن الإسلام دين ودولة، وكتب مقدمة طويلة شرح فيه أسباب تراجعه عن رأيه الأول.

فصّل خالد أسباب تراجعه، واحتفل أنصار الدولة الدينية بما قاله، ولا أعتقد أنه لم يكن فيما قاله أو حتى قاله مناصروه ما يكشف عن حقيقة هذا التحول، بقدر ما فعل ذلك الكاتب الكبير خليل عبدالكريم. 

فى مارس 1996 ودع عبدالكريم خالد بكلمات قليلة لكنها كاشفة. 

تحت عنوان «خالد محمد خالد.. الكتابات الأولى الصادمة» قال عبدالكريم: فى العام الفاتح للعقد الخامس حضرنا من الصعيد الأقصى تحدونا آمال عراض، وتدفعنا الرغبة فى النهل من العلوم والأفكار فى عاصمة المحروسة. 

فى ذلك العام أصدر كاتب مجهول كتابًا أثار ضجة كبيرة، أما الكاتب فهو خالد محمد خالد، وأما الكتاب فهو «من هنا نبدأ». 

يحكى لنا خليل: رغم أن خالد أزهرى فإن ما ورد فى مؤلفه كان غريبًا على الأزهريين، وتصدت له جحافل الظلمة والظلاميين التى لا تطيق كلمة فيها استنارة أو عقلانية، وكان فى مقدمة أولئك من أصبح اليوم من رموز الفكر الإسلامى- يقصد الشيخ محمد الغزالى- نشر كتابًا عنوانه «من هنا نعلم» سداه ولحمته كما هو شأنه فى سائر مصنفاته العبارات الإنشائية والجمل الخطابية، ولم ينتبه أحد إلى أن إصداره ذلك الكتاب كان علامة الطريق الذى سوف يسلكه ذلك الواعظ طول حياته، فبعد ما يقرب من عقد ونصف العقد اشترك فى إصدار فتوى بمصادرة رائعة نجيب محفوظ «أولاد حارتنا»، وبعد ثلاثة عقود طلع علينا بفتوى أخرى «أن الذى يقتل مسلمًا يرى أنه مرتد لا تثريب عليه وليس للحاكم إلا أن يعزره». 

خالد محمد خالد شابًا

خالد محمد خالد عاش مدافعًا عن العقلانية وحرية الرأى وحقوق الإنسان بعامة والديمقراطية

يترك خليل عبدالكريم محمد الغزالى فى حاله، ويعود إلى خالد محمد خالد. 

يقول: المهم أن خالد استمر فى طريقه وهو الكتابات الصارمة، فعندما مات ستالين نشر مقالًا عنوانه «طبت حيًا أو ميتًا يا رفيق»، وهى العبارة التى نطق بها الصديق أبو بكر، رضى الله عنه، عندما كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما انتقل إلى الرفيق الأعلى راضيًا مرضيًا ثم قبل وجنتيه الشريفتين، ومرة أخرى هبت عواصف هوج، وهاجت أقلام صفر، وماجت عمائم بيض، ولكن خالد لم يعبأ. 

ثم يصل بنا خليل إلى التحول الذى طرأ على خالد محمد خالد. 

يقول: وبعد حين عدل خالد عن هذه الكتابات، وخفت حدة أسلوبه وتوسط منهجه، إنما ظل مدافعًا عن العقلانية وحرية الرأى وحقوق الإنسان بعامة، والديمقراطية وضرورة سيادة سلطة الشعب، وإن كان بآخره رجع عن رأيه فى الحكومة الإسلامية وفى صلة الدين بأمور الحكم، فإن مرد ذلك فى اعتقادنا إلى تقدم العمر والغبن الذى ران على الفضاء الفكرى فى العقدين الأخيرين، ولكن هذه الردة الجزئية لا تمحو ماضى الرجل ولا تنال كثيرًا من قدره.. رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والوطن خير الجزاء. 

كان كبار الكتاب والمفكرين والمبدعين يعرفون عن خالد محمد خالد ذلك، ولهذا كانوا يتعاملون مع ما يطرحه بجدية شديدة. 

فى مقالاته عن الإسلام والديمقراطية التى نشرها فى العام ١٩٨٦ وصل إلى ما يمكننا اعتباره نظرية تلخص ملامح ووضعية الديمقراطية فى الإسلام، وهى ملامح تتمثل فى أن الأمة هى مصدر السلطات، وحتمية الفصل بينها، وأن الأمة هى صاحبة الحق المطلق فى اختيار رئيسها، وصاحبة الحق المطلق فى اختيار ممثليها ونوابها، ولا بد من تعدد الأحزاب وقيام معارضة برلمانية حرة وشجاعة تستطيع إسقاط الحكومة حين انحرافها، هذا إلى جانب صحافة حرة يعمل المجتمع على إعلاء شأنها. 

خاطب خالد محمد خالد وقتها التيارات الإسلامية على اختلافاتها وتناقضاتها، وهمس فى أذنهم بأن هذا هو نظام الحكم فى الإسلام بلا تحريف ولا انتقاص منه. 

لستم فى حاجة لأن أقول لكم إن التيارات الدينية شنت هجومًا طاغيًا على خالد، واعتبرت ما قاله ردة على الردة، فما يقول به بالنسبة لهم أبعد ما يكون عن اعتقادهم فى نظام الحكم فى الإسلام، وهو النظام الذى يقوم على نموذح استدعاء الخلافة دون مراعاة لما طرأ على المجتمعات من تغييرات، ودون النظر إلى التطور الذى شهدته البشرية. 

بعيدًا عن الصخب الذى أثاره الإسلاميون حول رؤية خالد محمد خالد كان هناك من التقط ما كتبه وقرر أن يتعامل معه بجدية فكرية حقيقية، ليصبح لدينا فى تراثنا الثقافى حوارًا راقيًا ومتحضرًا يحترم أطرافه بعضهم بعضًا، يمنح كل واحد منهم الآخر ومكانه ومكانته وقدره باحترام شديد وتوقير أشد. 

كان يوسف إدريس على علاقة قوية بخالد محمد خالد، وعندما قرأ مقالاته وعده بأن يكتب له مناقشًا بصرف النظر عن مساحات الاتفاق أو الاختلاف. 

كتب يوسف رسالة إلى خالد بعنوان مجرد كان: «إلى الأستاذ خالد محمد خالد». 

 يوسف إدريس: الخطر الأكبر يأتى من أعداء الإسلام القابعين فى غرف مكيفة

بدأها بقوله: وعدتك- يا حبيب المؤمنين بالدين والحياة– على إثر مقالاتك عن الإسلام والديمقراطية التى شرعت فيها لتطبيق ديمقراطى، حديثًا تمامًا وأصيلًا جدًا للشريعة الإسلامية، وكان فى نيتى أن أكتب لك رسالة مطولة ومسهبة، ولكنى بعد ترو، وجدت أن رسالتى إليك إذا طالت ستتحول إلى نوع من المونولوج، مع أن الممتع فيك ومعك أن يكون الأمر ليس سجالًا- معاذ الله- لكن يكون حوارًا صادقًا خلاقًا، لا تأخذ فيه الإنسان العزة برأيه ونفسه إلى درجة قد تدفع إلى مجافاة الحق والعدل. 

وفى رسالته، قال يوسف إدريس: نحن فى حاجة ماسة إلى حوار حقيقى خلاق، ليس فقط حول تطبيق الشريعة الإسلامية، بطريقة ديمقراطية أو شمولية، ولكن فى كل أمور حياتنا، بحيث يسمع الجميع، فلا يدفع انعدام السمع إلى ثورة الطرش على المتكلمين، ولا تدفع كثرة الكلام الذى لا يسمعه أحد إلى أن يئوب مجتمعنا إلى نعاس، أو تئوب حياته إلى كابوس على أوهن الفروض، نحن فى حاجة إلى الحوار، وبالذات حول قضية تطبيق الشريعة، لأن السيل قد بلغ الزبى، وأصبح الشغل الشاغل لصحف الحكومة والمعارضة «والمعارضة بالذات وهذا هو وجه العجب» هو تطبيق الشريعة الإسلامية، وتطبيق الحكم الإسلامى.

يوسف إدريس

قرأ يوسف إدريس آراء علماء دين أجلاء، عن وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية فورًا ودون إبطاء، وكان يطوى الجريدة ويحدث نفسه: أى حكم إسلامى يريد تطبيقه هؤلاء؟ هل هو الحكم الإسلامى الخمينى، أى تحويل المشايخ إلى حكام حول آية الله «الملالى» إلى حكومة وحكام؟ أم هو حكم إسلامى وهابى كالسائد فى السعودية ودول الخليج؟ أم هو حكم إسلامى كالسائد فى ليبيا؟ أم هو حكم كحكم ضياء الحق فى باكستان؟ حيث أعلن عن الاستفتاء على رئاسته يعنى تطبيق الشريعة الإسلامية، وأنه هو ومن يرتضيهم من علماء الدين الذى سيتولى صياغة الشريعة مثلما فعل نميرى، ويفكر غيره فى فعله؟ هل هو تطبيق فقه الإمام الشافعى الذى يعتنق مذهبه معظم المصريين، أو فقه الإمام مالك، أو الإمام أبو حنيفة، أو ابن تيمية، أو مذهب ابن حنبل؟ 

يواصل يوسف أسئلته التى ضمنها فى رسالته لخالد محمد خالد، يقول: كيف نشرع فى تطبيق هذا المذهب أو ذاك إذا اخترناه، هل نعتبر أن كل حياتنا المعاصرة التى جدت بعد وفاة هؤلاء الأئمة الكبار، وقفل باب الاجتهاد، كل ما جد على حياتنا تلك، من ملابس معاصرة، وبدل وراديوهات وساعات وتليفزيونات وسينمات ومسارح وموسيقى وغناء وركوب سيارات والحج بالطائرات والسفر إلى الخارج، ومشاهدة النساء السافرات هناك، والبنوك والمعاملات والتصنيع والتكنولوجيا والنظريات الكثيرة فى تفسير الكون والحياة والهندسة البيولوجية، وآلاف غيرها من الأشياء، هل نعتبر كل ذلك خروجًا على الشريعة، باعتبار أنه لم يرد بها حديث أو اجتهاد، فنلغيها كلها، ونعود نحيا فى خيام أو مساكن من الطين، ونرتدى الجلاليب، ولا يعود لنا من عمل إلا العبادة فى المساجد والبيوت، إذ إن بعضهم يفسر الأمر هكذا استشهادًا بالآية الكريمة «وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون» والحديث الشريف: العمل عبادة؟ 

الأسئلة تتواصل: هل يعنى تطبيق الشريعة أن نتبع نظام البيعة الذى أخذ به المسلمون فى صدر الإسلام، فيجتمع ٤٦ مليون مصرى «تعداد السكان وقتها» أو بالأصح ١٢٠ مليون عربى فى مكان واحد، ليختاروا واحدًا يبايعونه إمامًا للمسلمين جميعًا وحاكمًا مطلقًا، حتى الشورى بالنسبة إليه ليست أمرًا ملزمًا؟ 

ويضيف يوسف: كيف يتم اجتماع كهذا؟ وعلى أى أساس نعرف نوع الخليفة لنبايعه؟ لقد بويع أبو بكر لأنه كان صديق النبى وحبيبه ورفيق رحلته العظمى فى إبلاغ الرسالة، وبويع عمر لأن أبا بكر أوصى ببيعته، وبويع يزيد بن معاوية بسيف معاوية وذهبه وأثناء حياته، فماذا نفعل نحن الآن؟ وعلى أى أساس نبايع أمير المؤمنين فى عصرنا الحديث؟ أعلى أساس فصاحته أو قدرته على الخطابة، وأسر النفوس أو عدد مرات ظهوره فى التليفزيون مثلًا، أم نختار رئيس جمهوريتنا الحالى باستفتاء، وما الفارق بين نظام الانتخابات الحديثة ونظام البيعة؟ أم لا بد أن تكون البيعة لفقيه من فقهاء الدين؟ بمعنى أن المسألة فى النهاية ليست فى كيفية الحكم، ولا فى تطبيق الشريعة، أو عدم تطبيقها، ولكنها فى نهاية الأمر الطريقة الوحيدة لكى يحكم رجال الدين؟

ويوجه يوسف كلامه مباشرة إلى خالد محمد خالد: قرأت كتابك «من هنا نبدأ» وكنت أيامها أتساءل أنا الآخر: من أين نبدأ؟ وهدانى تفكيرى مثلما هداك تفكيرك إلى أن بدايتنا هى بالترتيب التالى: 

أولًا: طرد الاستعمار البريطانى من أرضنا. 

ثانيًا: خلع الملك وإقامة نظام جمهورى ديمقراطى حقيقى، يتم فيه كل شىء بالانتخاب المطلق، من العمدة إلى مأمور المركز، إلى النائب العام، إلى رئيس الجمهورية. 

ثالثًا: عن طريق هذا الانتخاب يختار الشعب ممثليه فى مجلس تشريعى فيه أعضاؤه أولى الأمر، وتحت رقابة الشعب والصحافة أيضًا. 

رابعًا: أن تقوم فى بلادنا نهضة تعليمية صناعية نستعيد بها أسرار التقدم العلمى، الذى أخذته منا أوروبا، وطورته إلى أن استعمرتنا وأذلتنا بتطويرها لحياتها وأسلحتها به. 

خامسًا: أن تبدأ مرحلتنا الحضارية الحقيقية مبنية على الأسس السابقة، بحيث نتعرف على حقيقة ديننا ولغتنا وهويتنا، ونطور مفهوماتنا إلى درجة تصل بنا إلى أن نصبح مصدرى فكر وثقافة وحضارة وتمدين، وليس كما صرنا مستهلكين لمواد تمدين نشتريها بالقروض من أمريكا. 

فرج فودة

سادسًا: أن نحمى هذا كله بجيش قوى وطنى عظيم. 

ويضيف: لقد آمنت بما جاء فى كتابك، لأنه كان يتمشى مع معتقداتى الشخصية كطالب وطنى يحب بلده وشعبه ودينه، إلى درجة لا يتردد فيها لحظة فى أن يضحى بحياته من أجل هذا الدين وهذا الشعب، وما زلت أحمل عواطف ذلك الطالب إلى الآن، ما زلت أحلم أننا سنتغلب على كل عقباتنا، وفى النهاية سننتصر. 

ولكن... هنا يستدرك يوسف إدريس، ليصل إلى فكرته الكبرى. 

يقول لخالد: لا أريد أن أقول فى الوقت الذى يذبح فيه المسلمون بأيد مسلمة، وتقوم حرب ضروس بين شعبين مسلمين، ويبتسم الإسرائيليون فى أكمامهم، لأن المسلمين والعرب أنفسهم قد كفوهم عناء إفنائهم، إذ هم يتولون الآن وبأيديهم إفناء بعضهم البعض، ألا ترى معى أن هذا الحديث عن تطبيق الشريعة وقطع يد السارق فى هذا الوقت بالذات، وعلى صفحات الجرائد المصرية والسعودية بالذات، يشكل فى حد ذاته تساؤلًا لا بد أن يطرأ لأى إنسان لديه ذرة من العقل؟ لقد كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه يبشر بالرسالة، وهى بعد فى حيز عدد قليل من المؤمنين، وهو يحارب أعداء الإسلام وأعداء الرسالة، لم يكن هم المسلمين بقيادة الرسول عليه الصلاة والسلام، أن هذا المسلم الفرد قد سرق أو زنى، بقدر ما كان همهم الأوحد أن يقهروا أولًا عدو الله وعدوهم، ثم يتفرغوا بعد هذا للتشريع والتهذيب والعقاب. 

يشرح يوسف فكرته أكثر، فلم يكن هم المسلمين فى ذلك الوقت أن امراة زنت وجاءت تعترف لرسول الله الذى حاول إثناءها عن اعترافها فأصرت، وليس علينا إلا أن نتأمل الرسول بجلالة قدره يحاول إثناء زانية لأن نفسه العظيمة تدرك مدى ضعف البشر وتعرضهم الدائم للخطأ وللخطيئة، بمعنى أنه كان يتلمس لها العذر أو البراءة، وأصرت فأقيم عليها الحد، حالة واحدة أو عدد قليل من حالات السرقة أو الزنا حدثت، إذ كان هم المسلمين الأكبر ليس هو الحكم، ولكنه رفع راية الإسلام والمسلمين، إذ تلك هى المهمة الجديرة حقًا برسالة النبى الكريم. 

يدخل يوسف إلى عمق ما يريد، فيقول: الخطر الأكبر يأتى من أعداء الإسلام القابعين فى غرف مكيفة، لديهم الإحصاءات والمعلومات والخطط، ويعرفون كيف يوقعون بين السنة والشيعة، وبين اللبنانيين والفلسطينيين، وبين المصريين والعرب، وبين مصر والسودان، وبين مصر والمغرب وليبيا وسوريا، وبين إيران والعراق، وبين أفعانستان وباكستان، كيف يستقطبون ماليزيا لتصبح إسلامًا نموذجًا وحده، ويوقعون بين الصومال والحبشة، ويهربون الفلاشة ويقنعونهم بأنهم يهود أبناء يهود، ويرشون ويتلمسون نقط الضعف ومن خلالها ينخرون. 

يقول يوسف لخالد: هذا هو الخطر الحقيقى على الإسلام والمسلمين يا مولانا الشيخ خالد، وإذا كان البعض منا يريد تطبيق الشريعة فأول بنودها، كما هو واضح لكل ذى عينين حماية الإسلام نفسه من أعدائه الخارجيين أولًا، أعدائه الحقيقيين، فأعداؤه فى الداخل قلة ممن يسمون فاسقين أو مارقين أو ماركسيين، أمرهم سهل تمامًا، أما الأمر الصعب فهو أن يواجه هؤلاء الزاعقون باسم الإسلام أعداء الإسلام، ويشيرون إليهم بجماع أيديهم وحناجرهم، ويحضون المسلمين على التكتل لاتقاء شرهم. 

وكما يرى يوسف، إذا لم يكن هذا هو العمل الأول للمنادى بتطبيق الشريعة، فماذا يكون عمله إذن؟ قطع يد ٢٠٠ سارق كما حدث فى السودان، وجلد عشرين زانيًا وزانية، بينما يموت كل يوم فى العراق وإيران ولبنان مئات من المسلمين الأبرياء، تركهم ولاتهم وشيوخهم لأنهم متفرغون لقضية أهم بكثير: تطبيق الشريعة باعتبار أن أعداء الإسلام هم داخل الإسلام نفسه، هم هؤلاء النساء اللاتى لا يغطين كل شعورهن، ومذيعات التليفزيون اللاتى لا يظهرن بأزياء شرعية محتشمة. 

وبسخرية نعرفها عن يوسف، قال: اللهم إذا كان أعداء الإسلام هؤلاء، فما أسهل قضية المسلمين إذن، حاضر يا أسيادنا، سنعيد كل نسائنا إلى البيوت، وسنغلق التليفزيونات والمسارح والفنادق وسنرتدى الجلاليب، فهل تكف إذن الحروب بين المسلمين؟، هل تتوقف المذابح؟ هل سينصرنا الله على الكفار القابعين بيننا؟ أم أننا سنعصى الله حينئذ عصيانًا لن يغفره لنا سبحانه، إذ سنفعل مثلما فعلوا فى أحد، وننشغل بالغنائم الكبرى؟ إن معركتنا مع عدو لا يرحم ولن يرحمنا. 

وفى محاولة كبرى للتفاهم، يقول يوسف: الأستاذ العظيم خالد محمد خالد، لقد قلت لنا يوم كنا نحلم، كيف نبدأ. ومن أين نبدأ؟ والآن نحن ما زلنا نخوض معركة البداية الشرسة ضد أعداء شرسين جدد، دخلت أنت الحلبة لتسهم فى معركة تطبيق الشريعة، أو تطبيقها على الأصح بشكل متحضر يستوعب كل ما آلت إليه حياتنا المعاصرة.

يضع يوسف خالد محمد خالد أمام مسئوليته بصراحة، ختم رسالته له قائلًا: يبقى السؤال يا أستاذ خالد، ألست ترى معى أنهم قد شغلوكم جميعًا، يا فضلاءنا ومشايخنا بقضية داخلية ليتفرغوا هم للإجهاز علينا من الخارج، ليتفرغوا هم للطوفان الذى يريدون به القضاء علينا؟ كتابك أتذكره جيدًا، هذا أو الطوفان، وقد أعطوكم هذا وامتلكوا هم ناصية الطوفان يأتون علينا به، فما قولك، دام فضلك، ودام فضل أساتذتى وشيوخى وعلمائى الأجلاء؟

التقط خالد محمد خالد رسالة يوسف إدريس، وكتب ردًا بليغًا عليها، وضع له عنوانًا دالًا وموحيًا: يوسف أيها الصديق.. قد سألت وإليك الجواب. 

بدأه بقوله: من بين ما حفظت من الحكم، هذه الحكمة الجليلة التى قالها المفكر الأمريكى «أمرسون» وهى «ليس من شر الأمور أن يساء فهمك، قديمًا أسىء فهم المسيح ومحمد، وأسىء فهم سقراط وبوذا، ومن بين كل عشرة من الرواد الشجعان أسىء فهم خمسة على الأقل، فلا تجعل إساءة الفهم معوقة لخطاك، ولا مثبطة لعزيمتك، ليس ذلك فحسب، بل ولا تطلب على ولائك للحق، ولا على فعلك الخير أجرًا، فإن أكثر الناس جهلًا بقيمتهما هو أعلاهم صوتًا فى طلب الأجر عليهما. 

ويضيف خالد: راودتنى هذه الحكمة البالغة وأنا أطالع- فى حب وتقدير- رسالة أخى وصديقى الدكتور يوسف إدريس، الذى نادانى من محرابه الفكرى بجريدة الأهرام يوم الإثنين ١٧ يونيو ١٩٨٦، ولم أكد أبلغ نهاية المقال أو الرسالة، حتى حمدت للذاكرة استدعاء هذه الحكمة التى وجدتها خير كلمات أصدر بها رسالتى هذه إلى الدكتور الصديق. 

وفى مداعبة ملحوظة يقول خالد: وكان الدكتور يوسف إدريس قد وعدنى بأنه سيوجه إلىّ خطابًا مفتوحًا على صفحات الأهرام، ولقد فهمت بواعث وعده، أما دوافع إيعاده ووعيده فلم تسعفنى القريحة بتبنيها، وحين خايلتنى حكمة إمرسون- ليس من شر الأمور أن يساء فهمك– وحين اخترتها استهلالًا لهذه الرسالة، لم يكن ذلك لإحساس بأن الكاتب الكبير قد أساء فى رسالة فهمى، فيوسف إدريس وأنا منذ التقينا، والعهد بهذا اللقاء الأول بعيد، ومنذ راح كل منا يتابع صاحبه فى بحثه النبيل عن الحقيقة، والثقة بيننا فى رقة الشوق بحرارته. 

ويضع خالد أمامنا جميعًا قبل أن يضع أمام يوسف حقيقة مؤداها: لم يكن الدكتور يوسف إذن هو الذى خشيت على نفسى سوء فهمه لى، إنما أولئك الآخرون الذين ستقضى رسالته المنشورة بهم إلى إساءة فهمى، سواء منهم الضاعنون على تطبيق الشريعة أو الهاتفون بتطبيقها. 

يقول خالد: فى ظنى، وربما فى يقينى أن الدكتور يوسف إدريس لا يوجه رسالته إلىّ فهو يعرف تمامًا رأيى فى هذه القضية التى طرحها، بل ويحمد هذا الرأى، إنما يوجهها عن طريقى إلى آخرين، لا يريد أن يحمل عبء مواجهتهم أو مجابهتهم. 

ورغم قناعته بأن الرسالة ليست له، فإن خالد أجاب عن أسئلة يوسف إدريس فى نقاط محددة.

كانت تساؤلات يوسف كما رصدها خالد: 

أولًا: أية شريعة هذه التى ينادى بها المنادون؟ هل هى شريعة الخمينى فى إيران؟ أم شريعة القذافى فى ليبيا؟ أم الوهابية فى السعودية؟ أم حكم ضياء الحق فى باكستان؟ أم شريعة النميرى قبل أن يبتلعه الطوفان؟ 

 

ثانيًا: هل يعنى تطبيق الشريعة أن نتبع نظام البيعة الذى أخذ به المسلمون فى صدر الإسلام، فيجتمع ستة وأربعون مليونًا من المصريين، أو مائة وعشرون مليونًا من العرب ليختاروا إمامًا يحكم حكمًا مطلقًا، حتى الشورى لا تكون بالنسبة إليه أمرًا ملزمًا؟ 

ثالثًا: أهذا هو الوقت المناسب لنجعل من تطبيق الشريعة قضيتنا الأولى، بينما الساحة العربية والإسلامية تمتلئ بالأشلاء والدماء، نتيجة لحروب طائشة وآثمة بين العربى والعربى وبين المسلم والمسلم؟ وأيضًا فهناك تلك الأطماع اللاهثة والمؤامرات البشعة التى يطارد بها الإسلام أعداؤه فى الخارج؟ 

رابعًا: هل قطع أيدى مائتى سارق كما حدث فى السودان، وجلد عشرين من الزناة والزانيات سيوقف سيل الدماء التى تراق من آلاف الضحايا فى حرب إيران والعراق؟ وهل سينهى ذلك المذابح والحروب؟ 

خامسًا: أليس أعداء الإسلام وأعداء شعوبه وأوطانه قد أفلحوا فى أن يشغلونا بقضية الشريعة عما يبيتونه لنا من غدر وعدوان؟ 

وقبل أن يجيب خالد على تساؤلات يوسف، قال: إننى سأجيب بيد أنى أقدم بين يدى إجابتى ملحوظتين: 

الأولى: أننى أجبت عن هذه التساؤلات، وعن كثير سواها من خلال عشرات المقالات والأحاديث الصحفية التى نشرت على أوسع نطاق. 

الثانية: إن إجابتى لن تتضمن آراء الآخرين، ولا فهمهم للقضية، ولا منهجهم فى الهتاف بها والدفاع عنها، إنما ستحكى رؤيتى الخاصة، وهى رؤية تستمد صدقها من أصول الشريعة ومبادئها وروحها. 

ويجيب خالد فى نقاط محددة: 

أولًا: مصر من خير بلاد الله إسلامًا، ولشعبها دائمًا فى ساحة الدين والتدين قدم صدق، وسابقة فضل وحسب جموع هذه الأمة، وصف الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بأنهم «خير أجناد أهل الأرض» لأنهم وأهليهم فى رباط إلى يوم القيامة، ولقد صدق فينا قول الرسول الكريم، فأباؤنا المرابطون قهروا التتار الذين كنسوا الأرض كالوباء، وأجهزوا على المتاجرين بالمسيحية وبالصليب، وخاضوا معهم قرابة مائتى عام حروبًا لم تكن تريد أن تؤذن بانتهاء، ثم فطموا أخيرًا ملوك الحروب الصليبية، وآباء الكنيسة فى أوروبا عن غرورهم وطيشهم وضلالهم، وها نحن أولاء نجد أنفسنا فى رباط جديد أمام عدو رجيم هو إسرائيل. 

وإذا كانت مصر بهذه المثابة فإن أى محاولة لاستكمال ما ينقص قوانينها من مبادئ الشريعة الإسلامية يجب أن يشار إليها بأسلوب الدعوة والإصلاح، وليس بالعنف والطفرة، ولهذا فإنى أشجب كل مظاهر التطرف الدينى الذى أقل ما يوصف به أن إثمه أكبر من نفعه. 

وبالتالى فأنا أشجب محاولة إخراج الألوف من الشباب حاملين المصاحف فى مظاهرة استفزازية بكل مقاييس الاستفزاز، إن هذه الخطيئة لم تحدث فى تاريخ الإسلام، وخلال أربعة عشر قرنًا، سوى مرة واحدة، حين شق الخوارج عصا الطاعة على الإمام كرم الله وجهه، وكرم به وجه الإسلام، فذهبوا إليه حاملين المصاحف وصائحين: لا حكم إلا لله، فصاح الإمام العظيم فى وجوههم بكلمته الخالدة قائلًا: كلمة حق أريد بها باطل.

إن حمل المصاحف فى مظاهرة دينية مغامرة غير محسوبة نتائجها، وإن دلالتها لخطيرة، وإن نتائجها لمخيفة، وأهون هذه الدلالات أن الخوارج يعودون، وأهون هذه النتائج ماثل فيما لو اصطدمت الشرطة بالمتظاهرين، إذن لسقطت المصاحف من أيمانهم على الأرض وديست-والعياذ بالله- بالأقدام، لقد قلت إن مصر من خير بلاد المسلمين إسلامًا، وكانت هذه هى النقطة الأولى من نقاط إجابتى. 

ثانيًا: الشريعة حين تطبق فى بلادنا لن تكون كما تساءلت شريعة الخمينى، ولا شريعة نميرى، ولا شريعة القذافى، ذلك أن الحق لا يعرف بالرجال، إنما يعرف الرجال بالحق، وكل انحراف فى تطبيق مذهب ما، أو نظام ما، فإنه لا يعنى فسادهما، وبالتالى لا يعنى رفضهما، وإلا لم يتبق فى الدنيا مذهب ولا نظام، وإن قضية تطبيق الشريعة كثر فيها اللغط، وقل الفهم الصحيح.

لقد أفلح بعض دعاة التيار الإسلامى وقادته، أن يجعلوا قضية التطبيق مصدر خوف وإزعاج حين حاولوا تقديمها بوجه متجهم يئوس عبوس، معرضين لماذا؟ لست أدرى عن تقديم إشراقها الباهر، وعطائها الزاخر فى مجال الحرية والمعاصرة والتقدم والارتقاء. 

ثالثًا: لماذا الشريعة؟ لا بد من الاتفاق على أن الإسلام دين ودولة، كذلك حين يملأون وجدان الشباب المتدين بالعنف، والنار والحريق، ولا أدعو أحدًا إلى مسألة نصوص الإسلام وفقهه للتأكد من أنه دولة، بل يكفى أن نسأل التاريخ،، وإذا كان الإسلام دولة فلا بد أن تكون له شريعة، وقوانينه النابعة منه كدين. 

ويوجه خالد كلامه ليوسف: إنك يا صديقى لن تجد فيما حولنا من مجتمعات ودول، دولة اشتراكية تطبق الإشتراكية، ولا دولة رأسمالية تتخذ من رأس المال لماركس دستورًا لها ومصدرًا لقوانينها، ولن تجد دولة علمانية بالمفهوم السياسى للعلمانية– الهند مثلًا– تستلهم فى شريعتها دين الهندوس أو المسلمين أو السيخ، إذن فالاسلام الدولة صاحب حق مطلق فى أن يستدعى شرائعه وقوانينه من الإسلام الدين. 

ويضيف خالد: من الذى سيضار بتطبيق الشريعة، لا أحد، لا أحد على الإطلاق، لا من المسلمين، ولا من المسيحيين، ولا من الأجانب داخل البلاد وخارجها، ولو أن المقام يسمح بالإفاضة، إذن لرأيت يا صديقى عجبًا من عدالة هذا الإسلام، وسماحته وإنسانيته، ونبله العظيم. 

رابعًا: ماذا يعنى تطبيق الشريعة؟... إنه لا يعنى بحال إحداث انقلاب فى حياتنا نحاذره ونخشاه، إن الشريعة تتجه إلى إحقاق العدل والحرية والفضيلة فى القانون وفى المجتمع، أما القانون عقوبات- مدنى وتجارى- فتسعة أعشاره مسايرة للمنطق الإسلامى، ولن يحتاج قانون العقوبات إلا إضافة الحدود التى لو عرفنا فلسفة الإسلام فيها، والشروط التى اشترطها لما أثرت فى أفئدة الجهلاء، فضلًا عن العقلاء أدنى قدر من التهيب والخوف. 

وتطبيق الشريعة الإسلامية لا يعنى بحال- شاء دعاة التطبيق أم أبوا- أى رجعة إلى الوراء، ولا أى تقهقر، فأعظم مزايا الإسلام احترامه المعاصرة، ومعنى المعاصرة قدرته بمبادئه وبروحه وبتجربته على التفاعل الذكى، مع التطور المستمر لأشكال الحياة، واحتياجات الناس، والذين يجردون الإسلام من مزية العصرية، إنما يسلبونه حقه فى أن يكون دينًا عامًا وخالدًا، كذلك فإن تطبيق الشريعة لا يعنى الحياة خارج أسوار الحضارة، إذ الإسلام رائد من أعظم روداها، وإذا قلنا الحضارة، فهنا نعنى بها الحضارة العلمية والفنية والفكرية والروحية والاجتماعية، ولو أن الإسلام نأى بجانبه ولو عطفه عن هذا الالتزام الحضارى فى الوقت الذى هو فيه خاتم الأديان، لكان معنى لك أنه يحجر على مستقبل البشر، ويضع الحياة فى جهاز التبريد، ويدفعها إلى غسق الليل وظلماته. 

ويأخذ خالد يوسف إلى مربط الفرس فيما يعتقد: وإذا كنت تسأل عن مصير الفن ومؤسساته من مسرح وسينما وتليفزيون وإذاعة وموسيقى، فأقول لك يا صديقى العزيز إن هذه قضية لها حديث طويل، بيد أنى أضع أمامك نقطة البدء، فيما يتصل بموقف الشريعة من هذا كله، فأقول: سئل الإمام الشافعى رضى الله عنه عن الشعر، فقال: حسنه حسن وقبيحه قبيح، وهذا ما تقوله شريعة الإسلام عن الفن فى شتى مجالاته فحسنه حسن وقبيحه قبيح، وأسمعك تسألنى: ومن الذى يحدد معايير الحسن والقبيح؟ وأجيبك: إنه الذوق العام للمجتمع فى ظل القيم الخالدة التى يدور فى فلكها الجنس البشرى كله، وليس المسلمين وحدهم. 

خامسًا: كيف ستحكم الشريعة المجتمع؟ وهذا أخطر جوانب القضية كلها؟ 

يقول خالد ليوسف: اعلم يا أخى وليعلم جميع الداعين إلى تطبيقها أن نظام الحكم فى الإسلام هو الشورى، وما الشورى؟ إنها الديمقراطية التى نراها اليوم فى بلاد الديمقراطيات، وللمرة العشرين أفصل مقوماتها وأركانها وعناصرها: الأمة مصدر السلطات، حتمية الفصل بين السلطات، الأمة صاحبة الحق المطلق فى اختيار رئيسها، وصاحبة الحق المطلق فى اختيار ممثليها ونوابها، وقيام معارضة برلمانية حرة وشجاعة تستطيع إسقاط الحكومة حين انحرافها، تعدد الأحزاب ضرورة من ضرورات الشورى والديمقراطية، الصحافة الحرة- كل الحرية- هى الرئة الثانية التى يتنفس بها المجتمع، ومن ثم فلا بد من إعلاء شأنها وصون حقوقها.

ويؤكد خالد ما يراه بقوله: هذا يا أخى هو نظام الحكم فى الإسلام بلا تحريف فيه ولا انتقاص منه، ومن حاول فى هذا تحريفًا أو انتقاصًا فهو متفيقه لا فقيه. 

سادسًا: أما لماذا الآن؟ فلأن التيار المتمادى فى المطالبة بتطبيق الشريعة سيجد فرصته دائمًا فى تحويل دعوته إلى تجهيل للحكم وللمجتمع، قد يفضى به- بل سيفضى به- إلى كل ما يقدر عليه من وسائل العنف، ثم ما دام هناك احتمال بأن يصل هذا التيار يومًا- قرب أو بعد- إلى الحكم أو المشاركة فيه، فنحن أمام فرصة عظيمة لنبدأ تقنين الشريعة بتقنين نظام الحكم على النحو الذى أسلفناه، وهنا يبدأ التزام التيار الإسلامى بهذا النظام، ويقضى الشعب كله زمنًا طويلًا فى معايشته باعتباره نظامًا إسلاميًا، لا يسنح لأحد ولا لفئة أن تخرج عليه، بل إنى أقترح عندما نبدأ تقنين الشريعة- بادئين حتمًا- بتقنين نظام الحكم، أن يعرض هذا النظام فى استفتاء عام، ليصبح وثيقة ترفض المروق منها والخروج عليها فى يوم من الأيام، ولن نحتاج إلى حكومة دينية تحكمنا بالشريعة، بل سنظل دائمًا فى ظل حكم قومى خالص ومتكامل. 

احتفى يوسف إدريس بالرد الذى كتبه خالد محمد خالد، قال: القضية أوفيتها حقًا فى ردك عليها، وهذه الطريقة فى الحكم الإسلامى هى الطريقة الجديرة بإسلام له أربعة عشر قرنًا، يعلم الناس علم التفكير وقيمة العقل والأخذ بأسباب التحضر، ولو كان الحكم الإسلامى سيطبق بالطريقة التى أوجزتها لكان شيئًا أعظم بكثير من كل المذاهب الدنيوية المعاصرة، لكن الجنة على الأرض، ولكان اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة التى يحلم بها البشر منذ أفلاطون إلى الآن، ولكن أبدًا لن يطبق كما ذكرت تطبيقًا يراد به رقينا خلقيًا وإيمانيًا وعلميًا وفكريًا وفنيًا واقتصاديًا. 

ويهمس يوسف فى أذن خالد، يقول له: إن السائد الآن هو تطبيق لإسلام الميكروفونات، إسلام الإرهاب الفكرى، واتهام أى ممن يجرؤ على معارضته بالكفر والإلحاد، نوع غريب لم نعرفه عن الإسلام أبدًا، فهو لا يدعو إلى حكمة، ولا إلى موعظة حسنة، وإنما يدعو إلى إطلاق الرصاص على المشايخ فى عيونهم اليسرى- فى إشارة إلى مقتل الشيخ الذهبى على يد جماعة التكفير والهجرة- وإلى الانقضاض على الأمة بقوة السلاح، والفتك بالمواطنين الآمنين والعساكر الغلابة، وعلى هذا البحر من الدم يصعد الدعاة ليتسلموا زمام حكم يذبح أول ما يذبح المسلمين أنفسهم، بدعوى تقصيرهم فى عبادتهم أو إيمانهم، أو شق عصا الطاعة على يد هذا الراعى أو ذاك. 

ويؤكد يوسف لخالد: هذا هو شكل الإسلام الذى سينتصر إذا نجح دعاة الميكروفونات فى قيادة الشعب وتنظيمه، والاستيلاء على حكمه، وليس إسلامك أبدًا يا مولانا، ولا إسلام الإمام محمد عبده ولا جمال الدين الأفغانى، ولا أى من الأئمة الأربعة، وتلك جماعات ولدت فى ظل الإرهاب الجسدى الذى قاومت به ثورة ٢٣ يوليو جماعة الإخوان المسلمين، وفى ظل رعاية بعض الدول النفطية لمن لجأوا إليها من قيادة الجماعة، جماعات كان مفروضًا أن تحاور وترشد، وتدفع لها بأمهات الكتب الإسلامية تقرؤها، فلا عقيدة أبدًا تصفى بالكرابيج، أو حتى بالمشانق. 

أخذ يوسف خالد محمد خالد إلى منطقة الجد، لينتهى هذا الحوار، قال: دعنى أعود بك إلى الحاضر لترى كيف يذبح المسلمون الملسمين، وكل منهم لا يحمل المصحف الشريف على سيفه فقط، ولكن باسم الإسلام يطعن قلب زميله المسلم إيمانًا منه بأنه هو الذى على حق، وأن الآخر كافر ومارق، نفس الشىء يحدث هنا، كل ما فى الأمر أنه لا يزال فى مستوى الاتهامات، ولكن الطعن بالسيف قادم، ألست ترى معى الفارق الهائل بين ما كان حادثًا فى الستينيات وبيننا الآن، حين كنا عربًا ومسلمين فى صف، والاستعمار هو العدو فى الجانب الآخر، وحين أدرك الاستعمار ذلك قادم بدهائه الشديد بتحويل مواجهة الإسلام ضد الاستعمار إلى الإسلام ضد الإسلام، والعرب ضد العرب، فكسب معركته دون إراقة قطرة دم، إنما هى البحور من دماء المسلمين بأيدى المسلمين وباسم الإسلام هى التى أبقت؟ 

فى رده على يوسف إدريس كما قرأنا، قال: أقترح عندما نبدأ تقنين الشريعة- بادئين حتمًا- بتقنين نظام الحكم، أن يعرض هذا النظام فى استفتاء عام، ليصبح وثيقة ترفض المروق منها والخروج عليها فى يوم من الأيام، ولن نحتاج يا صديقى إلى حكومة دينية تحكمنا بالشريعة، بل سنظل دائمًا فى ظل حكم قومى خالص متكامل. 

ويرد يوسف، يقول: كيف يتأتى هذا يا أستاذنا الكبير، وما نفعل بملايين إخواننا الأقباط المصريين، إذا هم أصروا هم الآخرون على تطبيق الشريعة المسيحية، هل نقسم مصر حينذاك أم نتحول إلى لبنان آخر؟ يا أيها الرجل الملهم المسلم: إن الحفرة التى يحفرونها لمصر واضحة لكل ذى عينين، وإسرائيل لن تأمن على بقائها وبجوارها شعب مصرى وصل إلى الخمسين مليون مصرى متحد متكاتف ولا سبيل إلى فك مصر وإيقاع الفتنة بأهلها إلا بأن تزأر وتجأر هذه النعرة التى تستنكرها وتزداد خوفًا من غلوها، وتزودها بأن تسلم لها مفتاح الفتنة. 

ويختم يوسف تعليقه: ألا ترى معى أيها الصديق الأستاذ أن المسألة أبعد بكثير من مجرد تطبيق الشريعة أو عدم تطبيقها؟ إن هذه إلا الخطوة الأولى فى المؤامرة الكبيرة على مصر أم العرب وموحدتهم، وحامية حمى الإسلام وقبلته الفكرية، حتى قبل أن تخترع الميكروفونات. 

بعد أن كتب يوسف إدريس رسالته إلى خالد محمد خالد ورده عليها ثم تعليقه على ما جاء فيها، تلقى عددًا من الخطابات تتهمه وتشكك فى نياته، وهو ما دفعه إلى أن يكتب مقالًا وضع له عنوانًا هو «خطأ الإعلام». 

شرح يوسف كواليس كتابته للرسالة، فقد جاءت بعد أن قابل الأستاذ خالد فى حفل إفطار فى رمضان، ودار الحوار حول فكرة الدولة الإسلامية التى ينادى بها خالد، خلافًا لما بدأ به فى أوائل الخمسينايت فى كتابه «من هنا نبدأ»، وكان وقتها يؤكد أنه لا طريق للخلاص إلا بفصل الدين عن الدولة، ثم إذا به ينادى بأن الإسلام دين ودولة معًا، ولا سبيل إلى دين إسلامى إلا بدولة إسلامية. 

كان معنى ذلك لدى يوسف أنه إذا كانت الدعوة قد أخذت هذا الشكل عند الأستاذ خالد، فإنها أخذت شكلًا بل أشكالًا أخرى، أحدها أن لا حل لمشاكل مصر إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية فورًا ودون إبطاء. 

وهنا ثار عند يوسف سؤال عن رأى الأستاذ خالد، وعن رأيه فى تطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية، ووعده بأن يرسل له رسالة مفتوحة يسأله فيها عن هذا كله، ويقول فيها رأيه الخاص فى مشكلة مصر والمصريين والعرب والمسلمين. 

حدث هذا كله فى النصف الأول من رمضان، ولكن حال دون كتابة الرسالة أن يوسف كان يكتب سلسلة من المقالات عن زيارته لبعض البلاد الأوربية والأمريكية، وجاءت ظروف الرسالة التى كتبها متزامنة مع مسيرة أعلنت التيارات الإسلامية أنها ستقوم بها رافعة المصاحف، وهو ما كان مفزعًا للجميع بمن فيهم خالد محمد خالد نفسه.

يأخذ يوسف إدريس على الصحف ما فعلته فى التعليق على المسيرة وعلى حواره مع خالد محمد خالد، فلقد لجأت إلى التسخيف مما يقال، لكنه يتوقف بنا عند رسالة وصلته من مواطن اسمه عزت على أحمد قال له فيها: 

«قرأت تعليقك على رد الأستاذ خالد محمد خالد عليك، وكنت أتمنى أن تخرص وتقف عند جدك، لأنك أصغر وأجهل من أن ترد على الكاتب خالد، لأنك لا تساوى صفرًا على الشمال بالنسبة لهذا الكاتب العظيم، وكذلك إن مسألة تطبيق الشريعة أكبر من أنك تكتب أو تتكلم فيها، لأنك معروف، ألست أنت اليسارى الكلب والناصرى؟ أليس أنت عدو كل مسلم، وذيل الديكتاتور عبدالناصر وعصابته؟ 

يعلق يوسف على الرسالة بقوله: الغريب أنه ليس الخطاب الوحيد الحافل بالقبح والبشاعة، مما جعلنى أتساءل: أليس من حق المتخوفين ليس من تطبيق الشريعة وحكم الإسلام، ولكن ممن سيطبقون الشريعة ويحكمون باسم الإسلام أن يجزعوا من أن يكون القائمون على هذه الدعوة-وهم بعد لم يصلوا إلى حكم ولم يمسكوا سيفًا أو صولجانًا- بهذه الدرجة من البذاءة والسفالة، وأن يرتكبوا هذا جميعًا باسم أسمى شريعة؟ 

وبعد تفكير غير غاضب ولا ساخط يصل يوسف إدريس إلى أن الخطأ ليس خطأ هؤلاء، إنما هو خطأ الإعلام الذى وضع على ألسنتهم تلك الكلمات والصفات، إنها نوبة من هجمة السفالة والاتهامات والبذاءات التى سادت حياتنا فى فترة ليست ببعيدة. 

ويضيف يوسف: ليس هذا هو الخطأ الوحيد للإعلام، فقد حشدنا فى أجهزة إعلامنا أشد التفسيرات الإسلامية رجعية وتخلفًا، لم نجعلها منابر للتعاليم الإسلامية الحقة، الرحمة والحب والتواصل والعفو والمغفرة، إنما جعلناها منابر لتكفير الآخرين ولإرهابهم، لحض الناس على التعصب، مع أن الإسلام مفروض أنه يحتوى على حب الجنس البشرى كله، ذميين وغير ذميين. 

ويفصل يوسف إدريس رؤيته فى الإسلام بقوله: الإسلام هو البشر فى أرقى حالاتهم، وليس أبدًا هو الإسلام الذى جلست أمام التليفزيون مرة لأشاهد برنامجًا كان اسمه قضاء حاجات المسلمين، وتصورت أن الشيخ الجليل سيحثنا على مساعدة بعضنا البعض، فإذا به يتحدث عن قضاء الحاجة بمعنى دخول المراحيض، وكيف على المسلم أن يدخل المرحاض بقدمه اليسرى، وأن يتجه فى جلسته بعيدًا عن القبلة، إلى آخر هذه الأشياء التى قتلت فينا روح الإسلام الحقيقية. 

ويضيف يوسف: الإسلام دين كفاح ونضال وثورة، جاء ثورة على العالم القديم كله وروحه محشودة بالآيات التى تحض على قتال الأعداء، وكأنها أوامر عسكرية يومية كان يصدرها المولى سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، كى يحاربوا أعداءهم المفسدين، الذين كانوا يمثلون قمة الجشع والإجرام، والوثنية والجاهلية، «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ»، أليس هذا أمرًا عسكريًا واضحًا، كل ما فى الأمر أننا حين حولناه إلى أنغام يقرؤها قارئون ويتمايلون على وقعها فقد مضمونه الحق، واستحال إلى شكل قرآنى غنائى لا يمكن أن يتبين معه المؤمن المقصود بمعناه ومحتواه.

ويلوم يوسف على الإعلام مرة أخرى: نحن أطلقنا من خلال إعلامنا كله صحافة وإذاعة وتليفزيون أنواعًا غريبة من إسلام لا علاقة بينه وبين روح الإسلام، إسلام لا يريد إدخال الناس فيه زمرة ووجدانًا، ولكن يريد أن يبعد الناس عنه بل ويحرمه عليهم ويكفرهم، ولا يجذبهم أبدًا إلى ساحته، إسلام لا يعرف لغةً يصف بها من يعتقد أنه أخطأ إلا بقوله: الكلب أو الكافر، أو اللص أو الزنديق. 

على خط هذا الحوار الراقى المتحضر دخل الكاتب الكبير الدكتور فرج فودة من خلال مقال عنونه بـ«رد هادئ على أستاذ جليل». 

فرج فودة متحدثًا عن خالد محمد خالد: هو الذى عاش عمره مدافعًا أصيلًا عن الديمقراطية مجاهدًا يسعى جاهدًا لربطها بحلم رائع لدولة إسلامية تتبنى مفاهيمها العصرية وهى دولة التفت للخلف فى صحائف التاريخ فلا أرى لها أثرًا

بدأه بقوله: حين قرأت رد الأستاذ خالد محمد خالد على الدكتور يوسف إدريس أحسست بأن أستاذنا الجليل قد شحذ من أسلحته أسلوبًا هو السهل الممتنع، وأملاً رائعًا يملأ عليه وجدانه وخياله، وإن كان لا يزيد على كونه حلمًا لا يرتبط بالواقع بسبب، ولا يؤيده من التاريخ سند، وهو حلم الدولة الإسلامية، تلك التى حاول أستاذنا الكبير إقناعنا بقبولها، مؤكدًا أن الإسلام دين ودولة، ولعله وهو العاشق للديمقراطية أبدًا تعمد ألا يكمل العبارة، فلم يذكر أنه مصحف وسيف، ربما لعلمه وهو العالم الجليل، بما فعل السيف- سيف المسلمين- برقاب المسلمين، تأكيدًا لجور الحاكمين باسم الإسلام على مدى قرون طويلة، يصعب أن تتمثل فيها بأكثر من فترة حكم الرسول والعمرين، وأنى لنا بأمثالهم. 

ويدخل فودة مباشرة إلى ما أراده خالد، يقول: إن الأستاذ خالد يرى أن مصر من خير بلاد الله إسلامًا، وأنا له مؤيد، بل إننى أزيد وأقول إنها خير بلاد الله إسلامًا، وهو يرفض كل مظاهر التطرف الدينى، وأنا أنحنى لمقولته إعجابًا، وأؤكد له أننى لم أتوقع منه غير ذلك، وهو الذى عاش عمره مدافعًا أصيلًا عن الديمقراطية مجاهدًا، يسعى جاهدًا لربطها بحلم رائع لدولة إسلامية تتبنى مفاهيمها العصرية، وهى دولة ألتفت للخلف فى صحائف التاريخ فلا أرى لها أثرًا، وأنظر حولى متأثرًا بالإعلان الشهير إلى دولة ترفع الراية فلا أجد لها محلًا، وأقرأ وأسمع للمتشدقين بحديث الدولة الإسلامية فى مصر، فلا أرى فى أعينهم إلا شرًا مستطيرًا، ولا أسمع منهم إلا توعدًا ونذيرًا، ولا أرى فى الأفق إلا نكوصًا عن ركب الحضارة، وفتنة تمزق وحدة الوطن الآمن، وظلامًا يسدل أستاره على الفن والفكر والثقافة، ولا أحسب إلا أن ذلك كله أو بعضه هو ما جال فى خاطره، وهو يستدرك فى الفقرة التالية بقوله: إن الشريعة حين تطبق فى بلادنا لن تكون شريعةَ الخمينى ولا شريعةَ النميرى ولا شريعةَ القذافى، ذلك أن الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق، وهو قول عظيم وصادق وأمين، لولا أنه يدفع إلى تساؤل يراود أذهاننا عن ذلك الحق الذى لم يصادف رجلًا يعرف به منذ ألف عام، ألا يدفع ذلك إلى التروى فى أحسن الأحوال، ولا أحسب أن وصف حالنا بالحسن جائز، أو إلى الرفض فى أسوأ الأحوال، ولا أحسب أن سوء حالنا يخفى على أستاذنا الأريب.

ويضيف فودة: إن أستاذنا يتساءل: لماذا الشريعة؟

وهو يجيب: لأن الإسلام دين ودولة، بمعنى أن قبولنا بالدين يترتب عليه قبولنا بالدولة الإسلامية، ولا أظن أن صياغة العبارة بصورة عكسية يمكن أن تؤدى إلى نتيجة صحيحة، بل إنى لا أحسب أن واحدًا يمكن أن يتحمل وزر القول بأن عدم القبول بالدولة الإسلامية يخرج مسلمًا عن دينه، وحجتى فى ذلك أننى لا أعتقد أن ثلاثة ممن يتصدرون مجال الدعوة للدولة الإسلامية يمكن أن يجتمعوا حول مفهوم موحد لها، والأستاذ خالد يعلم أكثر منى أن أغلبية الفقهاء يجمعون على أن الحاكم ملزم بأن يستشير، لكنه غير ملزم بأن يأخذ برأى الأغلبية أو حتى برأى الإجماع، وهو عكس ما ينادى به الأستاذ خالد، وهو أيضًا عكس ما تؤكده روح الديمقراطية وجوهرها، وهو أيضًا ما يدفع إلى أن نتساءل: هل الدولة الإسلامية جزء من العقيدة، فيصبح أحد الطرفين خارجًا على صحيح الدين والعياذ بالله، أم أنها لزوم ما لا يلزم فنتردد أمام مقولة الدين والدولة؟

والأستاذ خالد- كما يعتقد فودة- يعلم أيضًا أكثر منى أن اختيار أبى بكر فى السقيفة بإجماع أغلبية المسلمين مناقض لأسلوب اختيار أبى بكر لعمر، مناقض لأسلوب اختيار عثمان على مرحلتين، أُولاهما اختيار أهل الحل والعقد لعثمان وعلى، وثانيتهما ترجيح عبدالرحمن بن عوف لاختيار عثمان، مناقض لأسلوب اختيار على ببيعة أهل المدينة، مناقض لتولية معاوية بحد السيف، مناقض لتولية يزيد بالوراثة، مناقض لتولية الرشيد للأمين، ثم أخيه المأمون، ثم أخيه القاسم! ومعاذ الله أن يكون أسلوب اختيار الحاكم- وهو أحد أهم الأركان السياسية للدولة- جزءًا من عقيدة الإسلام وإلا كان الاختلاف خروجًا على صحيح الدين، والعياذ بالله، والله أكبر من أن يفرط فى الكتاب من شىء إلا أن تكون رحمته قد علت بالعقيدة على السياسة، ونزهت الدين عن الدولة.

ويرى فودة أن الأستاذ خالد يعلم أن من استندوا إلى القرآن والسنة فى تبرير المنحى الرأسمالى للإسلام لم يخرجوا على قاعدة فى الدين، ولم يتعسفوا فى تفسير نصوصه، وأن من استندوا إلى القرآن والسنة فى تبرير المنحى الاشتراكى للإسلام لم يخرجوا على قاعدة فى الدين، ولم يتعسفوا فى تفسير نصوصه، وإنما وجد كل ضالته فى الإسلام، لأنه دين الرحمة الذى يسع متغيرات الزمان والمكان، ولا يضيق لكى يرتبط بشكل من أشكال الدولة أو نظمها الاقتصادية والسياسية، وإنما يتسِع لها جميعًا رحمة بالعباد وتأكيدًا أن الدين أشمل من الدولة، وأن العقيدة أكثر اتساعًا وشمولًا من المفهوم الضيق لنظام الحكم. 

ويصل فرج فودة إلى تساؤل خالد: ماذا يعنى تطبيق الشريعة؟

وبدون أن يدخل فى متاهة الشريعة والفقه، أو أن يتساءل كما يتساءل الكثيرون عن ماهية الحدود، وهل هى مقصورة على ما ورد فى القرآن نصًا؟ 

أم أنها تشمل أيضًا ما طبقه الرسول، أو تتسع أكثر لكى تشمل تطبيقات الخلفاء الراشدين، أو تزداد اتساعًا لكى تشمل اجتهادات الفقهاء فى مرحلة زمنية تالية؟ 

فتلك قضية فقهية لا يتوقف عندها لأن ما يعنيه هو الجانب السياسى للقضية، ذلك الجانب الذى يدفعه إلى إجابة خالد عن تساؤله بأن تطبيق الشريعة سوف يجعل المواطن المسيحى مواطنًا من الدرجة الثانية لا تقبل له شهادة، ويزداد البعض تطرفًا بالقول إن لا ولاية له، وسوف يصبح غناء المطربات دعوة للزنا لا تستقيم مع إقامة حده، وسوف يصبح الرقص مجونًا، والتمثيل فسقًا، وتزين المرأة تبرجًا من الجاهلية الأولى، ونحت التماثيل كفرًا إلا إذا دمرنا موقع القلب فيها أو الكبد، والله وحده يعلم مصير تماثيل الفراعنة التى تصور آلهة المصريين القدماء، وهى معلومة غابت عن حكام الدول الإسلامية المتعاقبة رحمةً من الله بالتاريخ، وشاءت إرادته جل شأنه أن يطمرها التراب فتبقى لنا صامدة إلا من نقب المأمون للهرم، أو تشويه أحد الزهاد لوجه أبوالهول العظيم. 

خالد محمد خالد يرى أن الإسلام دين ودولة بمعنى أن قبولنا بالدين يترتب عليه قبولنا بالدولة الإسلامية

أما إجابة الأستاذ خالد عن تساؤله: كيف ستحكم الشريعة المجتمع؟ التى سرد فيها أروع ما أتت به الديمقراطيات الحديثة، من كون الأمة مصدرًا للسلطات، وحرية تعدد الأحزاب، وإصدار الصحف، واختيار أعضاء البرلمان وحق نوابه فى المعارضة وإسقاط الحكومة. 

فيقول عنها فودة: لا يوجد نص دينى واحد فى قرآن أو سنة، يؤكد صراحةً على بند واحد من البنود السابقة، غير أن الأقرب إلى المنطق أن نقول: إنها روح الإسلام وليست شريعته، تلك الروح التى لا تناقض عدلًا ولا تنقض حقًا، غير أن طرح الأمر بهذه الصورة ينشئ مأزقًا، ويطرح تساؤلًا، ويدفع إلى دعاء. 

أما المأزق فيتمثّل فى خروج نظم حكم «إسلامية» مجاورة وغير مجاورة من دائرة روح الإسلام. 

وأما التساؤل فمن الإصرار على نعت المبادئ السابقة بمسمى إسلامى، وهى مبادئ وإن التقت مع روح الإسلام وجوهره، فإنها بالقطع نشأَت فى غير دياره وتسمّت بغير مسمياته. 

خالد محمد خالد: أشجب كل مظاهر التطرف الدينى الذى أقل ما يوصف به أن إثمه أكبر من نفعه

وأما الدعاء فللأستاذ خالد بأن يحفظه الله من ألسنة وأقلام وربما حناجر من يرفعون راية الإسلام، ولا يرون فيه إلا حزبًا لله قائمًا وحزبًا للشيطان مقضيًا عليه، ولا يعترفون للإنسان بحق فى التشريع، ويتزيد بعضهم فينكر عليه حق الاجتهاد أو حتى حرية الفكر والعقيدة، ويشغلهم حديث الذبابة فى عالم منشغل بحرب النجوم، ويلهون مواطنيهم بالحديث عن الطين الأرمنى فى وقت ينشئ فيه الآخرون متاحف لصخور القمر.

ويصل فودة إلى التساؤل الأخير لخالد، ويقول: أليس عجيبًا يا أستاذنا الفاضل أن تكون إجابتك عن سؤالك لماذا الشريعة الآن؟ موجزة فى أنه ما دام هناك احتمال لأن يصل هذا التيار يومًا- قرب أو بعد- إلى الحكم فلنبدأ بتقنين الشريعة ونِظام الحكم الآن، ولنطرحه الآن فى استفتاء عام حتى لا يخرج عليه أحد بعد، ألا يشبه ذلك لجوء صاحب المنزل القديم إلى إحراقه بأكمله تخوفًا أو توهمًا لسقوطه على رأسه يومًا ما؟ أما قولك إن الشريعة مطلب شعبى، فإنه يفتح علىّ بابا من أبواب الهم لا لكونها كذلك، ولا لرفض ذلك، بل لأننى موقن بأنها تبدو بهذه الصورة لكونها طرحت على الرأى العام كقضية دينية، وأمام الدين لا يملك أحد، ولا أملك أنا، أن يختلف أو يعترض، بينما لو عرض الأمر على وجهه الصحيح، وهى أنها قضية سياسة ودنيا وحكم، لاختلف الأمر، وليس هذا مبعث الهم الوحيد، وإنما مبعثه إفلاس الساسة حين يتوسلون إلى صوت هنا أو هناك بالمزايدة على أمن الوطن ومستقبله.

ويختم فرج فودة رسالته إلى خالد محمد خالد بقوله: ما علينا أيها الأستاذ العظيم، بل رب ضارة نافعة، فقد استمتعنا بما ذكرت وسعدنا بالحوار معك.

عندما نستعيد معًا وقائع هذا الحوار، نتحسر على أيامنا، ونسأل: من أين لنا بهؤلاء الرجال مرة أخرى؟ ومن أين لنا بحوارهم الراقى المتحضر رغم ما بينهم من خلاف واختلاف؟