الخميس 23 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

لؤى حمزة عباس: القصة أقرب فنون الأدب إلى الرياضيات وأعمقها صلةً بالفلسفة

لؤى حمزة عباس
لؤى حمزة عباس

رغم العمر القصير نسبيًا للقصة القصيرة بالقياس إلى باقى أعمار فنون الأدب، حافظت على حضورها المؤثر، مؤكدةً فاعليتها على ساحل الكتابة الإبداعية، ومردُّ ذلك، فى تصورى، إلى طبيعتها الجوهرية، وما تنهض بتأديته من أدوار ومهمات بوصفها فن الإنصات العميق للتجربة الإنسانية. من هنا كانت القصة القصيرة أشد فنون الأدب قربًا من الرياضيات، وأعمقها صلةً بالفلسفة. الرياضيات بمعادلاتها الدقيقة وأنظمة حساباتها، والفلسفة فى تطلعها إلى جوهر السؤال المعرفى للوجود. وقد عبّرا منذ أقدم العصور عن رفعة العقل، وإحكامه فى تأمل العالم لفهمه وترجمته ترجمةً محكمةً. 

وكلما ساد ضجيج الأنواع وعلت أصواتها زادت حاجتنا للكتابة القصصية، والإنصات لصوتها الخفيض، لتأمل وفهم العالم الذى يموت ويحيا كل لحظة، العالم الذى يجدد نفسه بتجديد عناصره. فى كل لحظة تموت كائنات وتحيا كائنات، وتموت عناصر وتحيا عناصر. بعيدًا عن قدراتنا على النظر والفهم، للعالم حركة خفيّة مبهمة تتواصل خارج قدراتنا وفوق إمكاناتنا. وبالإبداع يمكننا أن نتقدم فى فهم العالم وإدراك تعقيداته، والإنصات إلى ما يقوله فى نشيد سرى يضىء كل ما هو جوهرى فى الحياة. أرى أن حضور الكتابة القصصية فى معترك الأنواع مبنى على قدرة القصة القصيرة كنوع أصلى يكشف نزوعًا قديمًا لدى الإنسان فى التقاط شظايا الوقائع وتحولاتها الفارقة، والتعبير عنها تعبيرًا مبدعًا.

يمكننى الحديث عما يميّز الفن القصصى بوصفه فنًا أصيلًا من ممكنات الخلق والابتكار، فى مقابل ما يميّز الفن الروائى بوصفه فنًا «هجينًا مفترسًا» بتعبير ماريو فارغاس يوسا، للتعبير عن التجربة الإنسانية بجريان نهرها العظيم. وليس من الغريب أن تعمل القصة القصيرة على التقاط ما هو جوهرى فى هذه التجربة، تحتويها وتحتفى بها على طريقتها، كما تحتوى قطرة الماء روح المحيطات الشاسعة وتحتفى بها على طريقتها.

المساحة التى شغلها الشعر فى حياتنا الثقافية والعلمية لم تعزّز حضوره إلا على حساب الأنواع النثرية التى عاشت انحسارًا طويلًا، مثلما شكّل فى دواخلنا سنةً بعد سنة تلقّيًا شعريًا للعالم، وما استجد من مشكلاته التى انتبهنا فوجدناها أوسع من قدراتنا على فهمها واستيعابها. والتعويل الكامل على إبداعية الشعر، وتصديره بوصفه ديوانًا أبديًا للعرب وحقل إبداعهم الفريد، أسهم إلى حدٍّ بعيد فى بناء نظام مجازى لفهم العالم والتعامل معه. هكذا عشنا انفصالنا عن الواقع وتحدياته.

وما نحن بأمس الحاجة له اليوم: بناء نظام ثقافى جديد لكى يعيدنا إلى الواقع، ويطور قدراتنا على فهمه والتعامل معه، نظام أساسه الكناية التى تحقق خطوتها الأهم فى توصيف العالم والالتحام معه. والعودة إلى القصة القصيرة، بوصفها فنًا نثريًا هذه المرة، عودة إلى قدرات العقل فى مقاربة العالم.

وإذا كانت القصص تقطن مخيلات القراء، وتحيا فى حقول أرواحهم الفسيحة، فإن رصيد هذا الفن من المشاركة الإنسانية سيبدو بلا نهاية، يتجدد مع تجدد القراء، وينفتح ويثرى مع اتساع مخيلاتهم التى تُنشئ هى الأخرى قصصها من دون أن تعبأ على نحو جاد بمهمات الشكل.

تعود القصة بإرادة إنسانية مفعمة لتحكى جوهر التجربة، وتمثل لُبها ونواتها، وهو ما يمدها بطاقةٍ مضافةٍ يمكن من خلالها أن ترى الدوافع والأسباب، مثلما ترى الحوادث قبل أن تتشكل أو تُكون. فللقصة رصيدها من النبوءة والحلم، ولها إمكانيتها على قراءة الواقعة الإنسانية، فى شمولها واتساعها ودوام جريانها، بالتركيز على شظاياها، وإضاءة وحداتها الهندسية الصغيرة، والتقاط قوانينها، فى سبيل إنتاج عوالم أكثر قوة وأشد حقيقة من العالم الواقعى، حيث يأوى تشيخوف بعد كل قصة إلى عربة تجرها الخيول، مثلما يعيش أدجار ألن بو فى قنينة مرمية فى بحر، ويواصل همنغواى التحديق من عين بندقيته إلى ما يتخاطف أمامه من ظلال، ويتهجد وليم سارويان على خلفية ذلك كله بابتهاله العادى من أجل قصة قصيرة واحدة.

وتأخذنا المستجدات للحديث عن الذكاء الاصطناعى وأثره فى حياة النوع القصصى، الذى لم يعد خاطرًا خياليًا فى أذهان البشر. فمثل كلِّ شىء آخر بات هذا النوع من الذكاء يمثل تهديدًا لمختلف الإبداعات البشريّة. ناهيك عن تهديد الوجود البشرى نفسه، بوصف هذا الوجود أحد أرفع الإبداعات الكونية وأكثرها إتقانًا.

لا أرى الوقت بعيدًا لولادة النص الكامل من أرحام الحواسيب، سيكون نصًا فائق الجودة بالغ الجمال، يمكن له أن يتشكل من قدرات أعاظم كُتّاب القصة القصيرة البشريين، موباسان وأدجار ألن بو وتشيخوف وهميغوى وبورخس ويوسف إدريس، وسواهم. لن يكون بمستطاعنا، نحن عشاق القصة القصيرة وقاطنى دولتها، أن نلمح ظلال التردد والارتجاف، ونقاط الضعف الخفية التى ميزت وتميز كل إنتاج بشرى. ولا فرق فى ذلك بين إنتاج رفيع وآخر وضيع، فما يجعل الإبداع بشريًا ضعفه الخفى، وحيرة ذهن مبدعه، وارتجاف يده فوق السطور. إن كنت تتخيل ذلك ستُدرك حتمًا ما يميز الإبداع العظيم لكوكبة الصُناع المهرة.

ذلك ما لا يُدرك فى نتاجات الذكاء الاصطناعى القصصية، التى لا تكون مواجهتها إلا بالذهاب باتجاه القصة القصيرة أكثر فأكثر، قراءةً وكتابةً وتعلمًا وتعليمًا، بتأكيد حضورها فى دروس الإبداع وتطبيقاتها الموجهة للشباب، وتوسعة مساحة تلقيها.

وعن نصائحى للكتّاب الشباب فى هذا الفن، أقول إن الكاتب «قد يضطر فى أحيان إلى استعمال دلوه الداخلى الخاص للوصول إلى مياه الآخرين العميقة». منذ قرأت هذه الجملة فى قصة «يموت الزمار» ليوسف إدريس، قبل أكثر من ٢٠ عامًا، وهى ترنّ فى ذهنى. فقد مثّلت إضاءةً عميقةً وموجزة عن اضطرار الكاتب للالتفات إلى الذات، ومن خلالها الالتفات إلى ألم الآخرين، أو التحديق من فوهة بئره الخاصة إلى بئر الإنسان، حيث نفسه أقرب الآبار إليه.

كما شكلت أمامى هاجسًا للنزول عبر القصة، بأقل قدر ممكن من الكلمات، إلى وحشة الأعماق الإنسانية، عزلة كهوفها الباردة، حيث لا يزال الإنسان يُدوّن مخاوفه بالفحم على الجدران. لذا تبدو من الصعب محاولة إدراك تاريخ القصة، والعمل على تحديد نقطة ما لانطلاقها، على العكس من تاريخ أشكالها الفنية.

فلا يمكن من وجهة نظر النقد القصصى تناول تاريخ القصة الطويل عبر مراحلها المتباينة، انطلاقًا من نقطة زمنية محددة، ولا حتى التعرف على بدايات مثل هذا التاريخ، كما يؤكد «باتيس» فى القصة القصيرة الحديثة. لكنها تظل، على الرغم من ذلك، الوريث الشرعى والأمين لمختلف هواجس الإنسان، وهو يحاول أن يعيد على مسامع أخيه الإنسان شظايا من تجاربه، وكِسرًا من رحلته بين بابى الدنيا: الولادة والممات. فمن حق القصة رؤية ما لا يُرى فى لحظة كشف وتنوير بقدرتها على النزول، فى لحظة زمنية خاطفة، إلى الأعماق البعيدة الصامتة، شبه المنسية، التى تجدد القصة القصيرة حضورها تحت ضوء الحياة العميم.