رائد القصة.. العربى بنجلون: لم أعد أحلم منذ سنوات

- كتابتنا للطفل لا ينبغى أن تغفل العصر وما يزخر به من منجزات علمية متطورة
- الكاتب لا يضع بين عينيه قارئًا محددًا لأنه لا يكتب تحت الطلب
- العالم العربى يغوص فى مستنقع الحروب والصراعات الفارغة
- الأمة العربية تعانى من تشنظٍّ واضح والصراعات تنخرها وتحول دون تقدمها
يعتبر الكاتب المغربى الكبير العربى بنجلون، المولود فى مدينة «فاس» عام 1948، من أكثر الأدباء العرب إخلاصًا لأدب الطفل، والذى تجسد فى إصدار عدد من السلاسل القصصية مثل: «قصص من عالم الحيوان» و«قصص طريفة للأطفال» و«قصتى» و«قصص تربوية للأطفال»، إلى جانب عشرات القصص والمسرحيات والدواوين الشعرية.
ولم يكتفِ الأديب والقاص المغربى الكبير بمنجزه الإبداعى، وحرص على الاحتكاك بمجتمعه وخدمته عن قرب، من خلال إصدار قصص للتربية غير النظامية، للأطفال الذين لم يحظوا بفرصة لمواصلة التعليم النظامى، إلى جانب تأسيس صحيفة «الطفل» فى عام 1971.
مسيرة حافلة وإنجاز متنوع، تُوجِت بالعديد من الجوائز، منها جائزة «اليونسكو» العالمية، عن كتاب «قاسم أمين وتحرير المرأة» 1975، والجائزة الأولى للعرض الثقافى فى المهرجان المغاربى الأول لمسرح الطفل 1990، وشهادة الاستحقاق من لجنة المهرجان الثانى للحكاية الذى نظمته جامعة ابن زهر فى أكادير 1988، إلى جانب جائزة الهيئة المصرية العامة للكتاب فى مجال مسرحية الطفل 2016، عن مسرحية «أصدقاء الحديقة»، وجائزة «ناجى نُعْمان» العالمية 2017، عن «رحلة ابن بطوطة».
نلتقيه فى السطور التالية، ليسترجع معنا تفاصيل تجربة استمرت نصف قرن من الزمان، شهد فيها أحداثًا وتحولات عدة، وأسهم فى شتى ميادين الثقافة، حتى صار رمزًا من رموز أدب الطفل فى العالم العربى.

■ حين يُذكر اسم الكاتب المغربى العربى بنجلون، تستدعى الذاكرة على الفور أدب الطفل.. ما سر هذا التلازم؟ وكيف تنظر إلى مسيرتك فى الكتابة للطفل؟
- هذا يعود إلى النشأة، أولًا، إذ كان أبى تاجرًا متجولًا فى المدن، وأمى تحضننا فى ليالى الشتاء لتحكى لنا حكايات وخرافات وتختبر ذكاءنا بألغاز. ولما أصبحت معلمًا، حولت دروسى إلى قصص. وفيما بعد، خطر ببالى أن أجمعها فى كتيبات وطبعها. من هنا، بدأت مسيرة الكتابة للطفل، والتعمق فى تقنياتها.
■ كيف ساعدت تجربتك التربوية فى بداياتك على صقل مهاراتك فى الكتابة للطفل؟
- كنت أصوغ الدروس التى ألقيها على تلاميذى فى شكل قصصى، ومن ثم، اكتسبت تلقائيًا طرق الحكى، والتى عملت على تطويرها من خلال قراءاتى الأدب الروسى والآداب الأوروبية.
■ بعد سنوات من الكتابة، ماذا تعلمت من حفيدتك «أسيل» ما لم تتعلمه من قبل؟ كيف أفادك ذلك فى الكتابة؟
- امتدت سنوات كتاباتى للطفل أكثر من ٥٠ سنة، ثم ولدت حفيدتى. كنت أستقى وأطور تجربتى عبر عدة روافد، بداية من تلاميذى الصغار فى الابتدائى، وتلاميذى الفتيان فى الثانوى، مرورًا بحفيدتى فى الروضة، وقراءاتى المتنوعة للأدب الغربى والعربى.

■ هل تعتقد أننا فى العالم العربى نتعامل مع عقل الطفل باستخفاف، رغم أنه قادر على معالجة معلومات كثيرة وطرح أسئلة فلسفية عميقة؟
- ليس باستخفاف، إنما باستسهال، إذ نعتبر الطفل يتقبل منا كل شىء وبأى طريقة، كأنه دلو يُملأ بالماء أو الزيت أو الحليب، دون أن يعترض. لكن الطفل له رؤية ورغبات وميول. ربما لا يعبر عن ذلك، غير أنه يشعر بها، وما على الكاتب إلا أن يعيها ويحاول أن يحترمها فى كتاباته.
■ إذا طلب منك أب أن تساعده على تأسيس مكتبة لأطفاله، ما الكتب التى تقترحها له؟
- لكل مرحلة نوعية من الكتب، وما على الأب أو المربى إلا أن يعرف المراحل العمرية لطفله، فيقتنى له ما يلائمه. من الأفضل أن يصحب معه طفله إلى المكتبات، ويتركه يتجول فيها، ويختار ما يناسبه من الكتب، فهو أدرى بما يليق به.
■ لعلك توافق على ما قاله البروفيسور محمد العيد جلولى من أن «أغلب الذين يكتبون للطفل لا يملكون أدوات الكتابة»... فى رأيك، ما الأدوات الفنية والقدر الذى يحتاجه الكاتب من العلوم الإنسانية حتى يتقن الكتابة للطفل، ويستطيع أن يؤثر فيه وفى تشكيل شخصيته؟
- فعلًا، أغلب الكُتّاب ينطلقون مما كُتِب فى الماضى للطفل، مثل «كليلة ودمنة»، وما كُتِب للكبار، مثل «السندباد البحرى»، إلى جانب قصص الرسل والأنبياء، فيحكونها مثلما كانت تُحكَى.
أما تقنيات الكتابة للطفل، فتعتمد على مضمون القصة، الذى يفرض على الكاتب طريقة الحكى، لأن لكل كتابة تقنيات خاصة. غير أنه، بصفة عامة، على الكاتب أن يكون مُلِمًا بمراحل تطور الطفل، وكيف يكتب له، انطلاقًا من خصائص مرحلته، فهناك المرحلة الواقعية من سنة إلى ٥ سنوات، وهناك مرحلة الخيال الحر من ٦ إلى ٩ سنوات، وهناك.....!

■ لدى فرضية تقول إن أكبر مشكلات الروائى العربى أنه لا يستهدف قارئًا نموذجيًا له خصائص وتفضيلات وتوقعات وهوية قرائية، فمعظم الكُتّاب العرب يكتبون ما يتوقعون أنه يصلح لكل الناس، هل توافقنى الرأى؟ وهل تعتقد أن قلة الكتابة للطفل تندرج تحت هذا المعنى؟
- الكاتب لا يضع بين عينيه قارئًا محددًا، لأنه لا يكتب تحت الطلب، بل يكتب ما يمليه عليه عقله ورؤيته. وبالنسبة للطفل، يحاول أن يحصر كتابته فى مرحلة معينة من حياة الطفل، كما قلت فى الجواب السابق، حتى تتفاعل معه الشريحة التى تنتمى إلى تلك المرحلة.
■ بماذا توصى الكُتّاب الشباب الذين يودون الكتابة للطفل؟ وإذا طلبنا منك وصفة للقصة الناجحة التى تستهدف الطفل فماذا تقول؟
- ليست هناك وصايا لأى كاتب، سواء للكبار أو الصغار، إنما هناك ميول نحو الكتابة، فإذا كانت للكاتب هذه الميول، فإنه من تلقاء نفسه يصقلها بالمطالعة والبحث الذاتيين، حتى يحقق مستوى رفيعًا فى الكتابة. فالمسألة تتعلق أساسًا بمدى حبه وعمله واجتهاده الشخصى لتحقيق ذاته فى الكتابة.

■ فى عصرنا الحالى طغت المشاهدة على القراءة، من خلال تجربتك فى كتابة القصة للأطفال، هل حظيت بأى فرصة لتحويل قصصك إلى وسيط بصرى، سواء كان فيلمًا أو مسلسلًا، خاصة أن المحتوى الأجنبى الموجه للطفل قد صار مخيفًا لما يحتويه من رموز وأفكار تتناقض تمامًا مع ديننا وقيمنا ونمط حياتنا؟
- بكل صدق، أنا وجدت نفسى كاتبًا، وترعرعت فى مجال الكتابة، فلم أفكر يومًا فى خوض تجارب أخرى، لأننى لا أتقنها من جهة، ولأننى لم أجد نفسى فيها، فأنا ألبى حاجياتى الذاتية فى الكتابة، ولا أقترب من وسائط أخرى لا أميل نحوها، وأتركها للآخرين.
■ قرأت لك كلامًا عن القيمة التربوية للّعب، لكن الآن هنالك خمول لدى الأطفال، لا يمارسون ألعابًا حركية. فى الغرب هنالك اتجاه لبعض الأدباء لكتابة قصص لألعاب الفيديو، هل تعتقد بأننا قد نساير هذه الموجة؟ وإذا طلبنا منك أن تكتب لنا قصة للعبة فيديو هل ستوافق؟
- اللعب، قديمًا وحديثًا، مرحلة ضرورية فى حياتنا، لأنه يلعب دورًا فى تعلم الأشياء، وأخذ التجارب، والاندماج فى المجتمع، وهذا يتوقف على أنظمة المجتمع والتعليم، هل تتوفر على كفاءات أم لا؟ أى هل تضع برامج ومناهج لتطبيق هذه القيمة التربوية والتعليمية أم لا؟ ألعاب الفيديو هى جزء من الألعاب، لكنها بصرية ذهنية، لا تخدم الجهاز الحركى للطفل، تخدم جانبًا على حساب جانب آخر. لذا، ينبغى التوفيق فى اللعب بين الذهنى والبدنى.

■ تتحدث أحيانًا عن الحداثة، حداثة النص وحداثة الرؤية، كيف يمكن أن نستصحب معنا معالم الحداثة عند الكتابة للطفل، أعنى كيف يمكن أن نكتب رواية أو قصة حداثوية للأطفال؟
- يدعو الكاتب دائمًا إلى التعامل مع هذه الوسائل الحديثة بحيطة وحذر شديدين، وإلى التوفيق بينها وبين ثقافتنا العربية، كنسيج من التقاليد والصور والرموز والرؤى، التى تصبغ حياتنا اليومية. لكن هذه القضايا التى يثيرها الكاتب، أعتبرها عامة، ما فتئ المفكرون والفلاسفة، منذ فجر النهضة إلى يومنا الحالى، يتناولونها ويطرحونها، فى هذا الشكل أو ذاك، ولم يجدوا لها حلولًا مناسبة.
هى- كما أسلفنا- قضايا: الهوية والذات والآخر والمثاقفة والعلاقة بالماضى والعصر. إنها باختصار معادلات صعبة تؤرقنا كل لحظة. لذا لا يجب أن نتسرع، فنساير ما يسمى بـ«الحداثة» لمجرد أنها «صَرْعة» تخالف ما دأبنا عليه.
وكتابتنا للطفل لا ينبغى أن تغفل العصر، وما يزخر به من منجزات علمية متطورة. فى نفس الوقت، يجب أن تربط الماضى بالحاضر، لأن أساس هذا الحاضر هو الماضى بكل ما يحمله من حضارات وتراث فكرى ودينى وثقافى!
■ لديك كتاب بعنوان «ثقافة الطفل.. قيم فنية ومبادئ إنسانية»، ما تفاصيل هذا الكتاب؟ وهل هو موجّه للأسرة والمجتمع، أم كُتّاب أدب الطفل؟
- هذا الكتاب يتناول ماهية أدب الطفل والفرق بينه وبين ثقافته، وكيف نكتب للطفل، وأسس الكتابة له. ويقدم تعريفًا بالأجناس الأدبية اللائقة بالطفل، مثل الشعر والمسرحية والنشيد والحكاية والأسطورة. هو موجه إلى كل من يعتنى بتربية وتعليم الطفل من أدباء وآباء ومُدرسِين.

■ لديك سلسلة بعنوان «أصدقائى الحيوانات»، هل تعتقد أن قصص الحيوان ما زالت القالب المُحبب للأطفال، فما زالت أكثر برامج الأطفال متعة هى التى تُشخص الحيوانات، مثل «توم وجيرى» و«بينكى وبرين» و«السنافر» و«سلاحف النينجا» وغيرها؟
- هذه الموضوعات لا تنتهى إلا بانتهاء وفناء العالم لأنها جزء منه، وتتفاعل مع الإنسان وتشاركه الطبيعة وتنفعه فى حياته ولا يستطيع أن يستغنى عنها. كما أن الطفل الذى يعيش مع الحيوان أو يقرأ عنه، تربيته تكون موافقة مع الوسط الاجتماعى، وتربيه على القيم المجتمعية، وهى من أفضل التقنيات فى الكتابة للطفل، الذى ما زال فى المرحلتين الأولى والثانية. هو يحبها، ويحبذ أن يقرأ عنها وعن حياتها.
■ الطفل العربى بات مُهْمَلًا فى جانب «صناعة القدوات»، وأصبحت القدوة منحصرة فى مغنية أو لاعب كرة.. هل لهذا السبب كتبت بعض القصص ذات المحتوى التاريخى، مثل «هيا بنا نمثل معركة بوغافر» و«أحمد الحنصالى أسد تادلة» و«البطل محمد العياشى ينقذ سفينة الوطن»؟
- فى نظرى، ينبغى أن نربى الطفل على كل ما يلقنه القدوة الحسنة والمثال الحى ليقتدى به، مثل لاعب كرة، ممثل، مغنٍ، رحالة، كاتب، بطل، رجل فضائى، سباح... فالغاية هى تشجيع الطفل على الممارسة النبيلة، كيفما كانت، وتشذيب سلوكه من الشوائب التى تمس حياته وسير مجتمعه.
■ يزهد البعض فى الكتابة للطفل وكأن الأديب حين يكتب للطفل لن يكون أديبًا حقيقيًا، أو أنه سيكون واعظًا غير مهتم بالنواحى الفنية.. وفى الناحية الأخرى يستشهد البعض بتجربة سلمى لاغرلوف، التى حازت على جائزة «نوبل»، وأشهر رواياتها «مغامرات نيلز العجيب» الموجهة للأطفال فى الأساس.. كيف تنظر إلى قيمة أدب الطفل فى العالم العربى وجدية الارتقاء به؟
- بالنسبة لى، هذا ليس مهمًا، لأن المجتمعات العربية متخلفة فى كل شىء، وليس فى هذه النقطة فقط. بل إن خبر صدور كتاب للطفل يُكتَب فى زاوية مختفية من الجريدة، ومكافأة كاتب الطفل تكون ضعيفة، قياسًا بكاتب الكبار، ونظرة الأغلبية إلى كاتب الطفل تقاس بحجم الطفل! ومع ذلك، أرى أنه لا يجب أن نتأثر بهذا الوضع، ما دمنا نسير فى الاتجاه السليم.

■ فى العالم العربى نفتقر لحد ما إلى المجهودات الجماعية، وخلت الساحة من إنتاج المدارس والتيارات والحركات الأدبية الجديدة.. هل يمكننا أن نؤسس حركة أدبية للمحافظة على هوية الطفل العربى، ونجعله أكثر التصاقًا بثقافته وقدرة على التعامل مع واقعه وعصره؟
- العالم العربى يغوص فى مستنقع الحروب والصراعات الفارغة، ولا يهمه الطفل ولا تعليمه وتربيته، وبالتالى، سيبقى الكُتاب والمفكرون يخوضون الأمواج لوحدهم، لتحقيق ما يمكن تحقيقه من قيم جميلة ومبادئ إنسانية رفيعة، عل وعسى أن يأتى اليوم الذى يستيقظ فيه العالم العربى ليبنى ذاته.
أحيانًا أشعر بأن افتقادنا لمفهوم «الأمة» قد أثر كثيرًا على الواقع الثقافى، فلا يمكن تشكيل وعى جماعى خارج هذا المفهوم، فلا وجود لهدف عام يسعى إليه الجميع، ولا وجود لأهداف فرعية تستوعب المجهودات فى المجالات المختلفة.
■ إذن، هل يمكن لمستقبل أطفالنا أن يكون هدفًا عامًا لنا جميعًا، تكون المناهج الدراسية، وما يشاهده الطفل على التلفاز، وما يقرأه من قصص، متناغمة وتهدف إلى حصيلة واحدة؟ هل يمكن تجنيد المؤسسات المختلفة لهذا الغرض؟
- الأمة العربية تعانى من تشنظٍّ واضح، والصراعات تنخرها وتحول دون تقدمها، مع تفكيرها الدائم فى حل مشاكلها الداخلية والخارجية. لذا فإن كل حركة إيجابية فى اتجاه الطفل تكون فردية، يخوضها الكُتّاب بغيرة على مستقبل بلادهم. فى رأيى، هذا عمل بطولى وضرورى لصناعة مستقبل، لا ندرى متى يأتى؟!
■ هل كتبت أو فكرت فى الكتابة عن تجربتك فى أدب الطفل ليستفيد منها الشباب؟
- لدى كتاب بعنوان «كنت مُعلمًا»، يحتوى على تجربتى التعليمية والكتابية على حد سواء، وكيف استطعت أن أتسلح بالأخلاق فى مواجهة زحف المادة، ولولا هذا التسلح لكنت من الأغنياء الكبار. لكن حبى للكتابة وللطفل، كان الأقوى والأنفع لى.

■ مَن مِن الكتّاب العرب الذين يكتبون للطفل تعجبك كتاباته؟
- بالنسبة للمغاربة محمد سعيد سوسان. فى مصر كامل كيلانى ومحمد سعيد العريان ومحمد الهراوى. وفى تونس مالك الشويخ. وهناك آخرون، لكن أسماءهم لا تحضرنى الآن.
■ ما أكبر حلم لديك تتمنى أن تراه واقعًا؟ ومَن تحتاج للمساهمة فى تحقيقه؟
- لم أعد أحلم منذ سنوات، لأننى متيقن أن الواقع مُظلم فى كل أنحاء العالم العربى، وإذا تفاءلت، فسأظلم نفسى، أو أوهمها بآمال كاذبة. لكننى من جهة أخرى، لم يستطع تشاؤمى، وفقدان الأمل فى الغد، أن يفت عضدى، أو يفشل مشروعى، فأنا ما زلت وسأظل فى طريقى الذى بدأته منذ أكثر من 50 عامًا.