المتبرعون بالأوطان.. أتحدث إليكم من المستقبل

- يحيى السنوار وأحمد الشرع منحا إسرائيل 1000 كيلو متر مربع فى الشمال والجنوب
تظل الروح المصرية الساخرة قادرة على إثارة الإعجاب والدهشة.
ففى اللحظات الفارقة، ومن خلال نكتة أو قفشة أو تعليق، تلخص السخرية المصرية أعقد المواقف وأكثرها تشابكًا.
وضع أحدهم على حسابه الشخصى على فيس بوك صورتين، الأولى ليحيى السنوار والثانية لأحمد الشرع وكتب تعليقًا: رجلان من رجال أمتنا.. كيف سيذكرهما التاريخ؟
من بين التعليقات الكثيرة توقفت أمام التعليق الأهم والأكثر جرأة وسخرية وتلخيصًا للموقف كله، والذى يقول صاحبه عن صاحبى الصورتين: منحا إسرائيل ١٠٠٠ كيلو متر مربع فى الشمال والجنوب.

يقولون إن من أهم مميزات الحكمة المصرية أنها بـ«تجيب من الآخر»، لا مكان فيها للمراوغة ولا لفنون اللوع.
يمكنك أن تستمع إلى المحللين السياسيين الذين يطلون عليك الآن من كل الشاشات العربية والأجنبية، يتحدثون عما حدث فى سوريا وما سيحدث لها وفيها، يرسمون سيناريوهات كثيرة، وكل من يرسم سيناريو يدفع أمامنا بدفوعه ومبرراته.
ستجد أحدهم ينال من أحمد الشرع ولا يعترف له باسمه الجديد، بل يصر على أنه لا يزال أبومحمد الجولانى، وكل ما فى الأمر أنه يخفى شخصيته القديمة تحت ثياب شخصيته الجديدة، التى اختار لها شكلًا مدنيًا يرتدى البدلة والكرافتة، ويلتقط الصور مع الفتيات حتى لو طلب منهن تغطية شعورهن، فهو يقف إلى جوارهن، يتحدث بلغة حديثة عن الدولة والدستور والعلاقات الدولية، لكنه فى اللحظة المناسبة سيزيح هذه الشخصية، لتحتل شخصيته القديمة وتسيطر على الصورة كلها.
وستجد آخر وهنا لا بد أن أشير إليه اسمًا، فقد جاء بما يدهش ويذهل، وهو المذيع الإخوانى الكاذب العتيد أحمد منصور.
قام أحمد منصور بأكبر عملية لغسيل سمعة وصورة أبومحمد الجولانى، الذى هو عنده الآن أحمد الشرع ولا أحد آخر غيره، قدمه للناس على أنه عبقرية سياسية نادرة، مدحه بما لم يمدح به أحد، أغفل تاريخه كله، وذهب لتمجيده والتغزل فى حكمته وفطنته وقدراته، دون أن يقول لنا كيف حدث التحول الكبير فى شخصيته التى كانت مرادفة للقتل والتخريب والدمار، فإذا به يصبح عنده رمزًا للتسامح والتفاهم واحتواء الآخرين مهما كانت اختلافاتهم وتناقضاتهم معه!
أشفقت فى الحقيقة على المذيع الإخوانى الذى تعودت منه أنه يكذب كما يتنفس، فما قام به عبر فيديوهات عديدة بثها عبر منصات مختلفة يحتاج إلى طاقة نفسية هائلة، يحتاجها لصنع الصورة الجديدة للقائد العام للإدارة السورية الجديدة، خاصة أنه حتى الآن لا يقدم للناس سوى الكلام الناعم المعسول، فلا شىء يحدث على الأرض بالفعل.. ولا يأتينا من سوريا الجديدة إلا الكلام... والكلام فقط.

لكن من قال إن أحمد منصور يعانى؟
إنه يتحدث بانتشاء من تعود الكذب طوال عمره... وبعواطف من وقع فى عشق من يتحدث عنه، لا يحول بينه وبين ذلك حياء أو خشية.
لقد كنت شاهدا على بعض من أكاذيبه، وما زلت أذكر ما حدث يوم ٢٨ يناير ٢٠١١ هنا فى مصر، وقد لا يذكر هو ذلك.
كانت قناة الجزيرة قد أذاعت خبرًا عن اختفاء مذيعها أحمد منصور الذى يغطى أحداث الثورة فى مصر، وتطور الأمر إلى الادعاء بأن أجهزة الأمن المصرية قد قامت باختطافه، كنت أسير فى شارع رمسيس، وبالصدفة البحتة وجدته يجلس فى مدخل إحدى العمارات، سلمت عليه، وأخبرته بما تذيعه قناة الجزيرة، وأنه لا بد أن يتحدث إليهم ويخبرهم بأنه موجود لم يختفِ ولم يختطفه أحد، فوجدته يقول بثبات: لا داعى لذلك.. دع الخبر ينتشر.. فهذا مطلوب الآن.
تعجبت من منطقه وإصراره عليه، وكان طبيعيًا أن أفهم أنه يريد للكذبة أن تتنشر وتزيد ويتسع نطاقها، لأنه فى الحقيقة كان يريد للأمور أن تشتعل أكثر، فما جاء ليغطى الأحداث، ولكنه جاء لإضرام النار فى الحطب المستعد للاشتعال.
لم أكن قبل هذه الواقعة أصدق أحمد منصور فيما يقوله، ولم أكن أتفاعل مع ما يقدمه فى برامجه، وبعد هذه الواقعة لم أعد أثق فى أى شىء يصدر عنه، خاصة أنه كان واحدًا ممن تواجدوا فى ميدان التحرير، وكان يقود غرفة إطلاق الشائعات وترويج الأكاذيب من غرفة عمليات كانت تعمل من مقر شركة سفير للسياحة التى استولى عليها الإخوان، بل شارك فى تعذيب بعض المواطنين حتى يحصل على اعترافات بعينها ضد الشرطة المصرية.
لا أخفيكم سرًا أننى تشاءمت عندما رأيت أحمد منصور تحديدًا حاضرًا فى المشهد السورى، من اللحظة الأولى وهو يتحرك مع الميليشيات العسكرية وفى حمايتهم، ويسجل خطواتهم، ويمتدح ما يفعلونه، ولم يغب عن ذهنى أنه كان يقوم بنفس الدور هنا فى مصر.. فقد بدا لى نذير خراب وشؤم.. وهو كذلك بالفعل.
كل ما يفعله هؤلاء وغيرهم لم يدخل على الحكمة المصرية الخالصة، والفطنة الصافية التى لا يمكن لأحد أن يخدعها أو يتلاعب بها بسهولة، فالمصريون يقيسون الأمور بالنتائج، ولذلك فهم يجيبون من الآخر، ويقولون لمن يحاول خداعهم: إننا نراك ونعرف ما تريده، ولا مانع أن يرددوا بينهم وبين أنفسهم: قديمة.

لقد بالغ المخدوعون فيما قام به يحيى السنوار، عندما قاد عملية ٧ أكتوبر، والتى على إثرها قادت إسرائيل أكبر عملية إبادة جماعية فى تاريخ الإنسانية ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة، حتى أصبحت الآن رمزًا للخراب الكامل.
والآن يبالغ المخدوعون بما فعله أحمد الشرع، وبما يقوله، دون أن يقوم حتى الآن بما يجعلنا نرى أفقًا واضحًا للدولة السورية.
كل ما حدث، وكناتج لأعمال الرجلين، أن الأرض ضاعت، حققت إسرائيل ما تريده، وما خططت له، وحصلت على ما لم تحلم فيه فى أكثر أحلامها تفاؤلًا.
هل سمعتم ما قاله يسرائيل كاتس وزير الدفاع الإسرائيلى؟
قال نصًا: هزمنا حماس، وانتصرنا على حزب الله، وأسقطنا نظام الأسد، وسنضرب الحوثيين ونقطع رءوس قادتهم، كما فعلنا مع السنوار وهنية ونصرالله.
دعكم من أن وزير الدفاع الإسرائيلى قال ما قاله وهو يعرف جيدًا أنه فى مُأمن تمامًا، فلن يلومه أو يعاتبه أو يعاقبه أحد، ولكن هل توقفتم كما توقفت أنا معه، وهو يقول بوضوح: وأسقطنا نظام الأسد؟.
المعنى واضح لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل، إسرائيل تعترف أنها هى من أسقطت نظام الأسد.
فما الذى فعله أحمد الشرع ورجاله؟
وهل تريد إسرائيل أن تقول بوضوح إن أحمد الشرع هو رجلها المخلص ويدها التى استطاعت بها أن تنفذ مخططها فى إسقاط بشار الأسد ونظامه؟.
عبر تليفزيون سوريا الرسمى قال أحمد الشرع إنه ليس الآن بصدد صراع مع إسرائيل، وزاد على ذلك بقوله إن الأراضى السورية لن تستخدم فى الهجوم على إسرائيل، وكان لافتًا للانتباه أن بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى يطلب من حكومات مصر والسعودية وإلإمارات والأردن أن تساعد الإدارة السورية الجديدة.
إسرائيل راضية إذن عما جرى فى سوريا.

والسؤال المنطقى هو: ولماذا لا ترضى؟
بعد ساعات قليلة من إعلان سقوط نظام بشار الأسد دخلت إسرائيل إلى الجولان، ووقف نتنياهو يتحدث مع شعبه بفخر شديد وهو يقول إن هضبة الجولان ستظل إسرائيلية إلى الأبد.
لحظتها تساءلت على هامش ما تردد بعد دخول الجولانى إلى دمشق، وأنه تحرير لسوريا، وقلت: أى تحرير هذا.. وإسرائيل تحتل الأراضى السورية وتقول إنها ستظل إسرائيلية إلى الأبد، فى مصادرة واضحة على المستقبل.
فى هذه اللحظة أدركت أن نتنياهو مطمئن إلى أن ما يحدث فى سوريا يصب فى مصلحته الخالصة.
إنه لا يتحدث عن اللحظة الراهنة التى ينشغل فيها السوريون بما يحدث داخل وطنهم، ولكنه يتحدث بثقة عما سيحدث مستقبلًا، فلن يجد مواجهة أو مقاومة، ولن يعمل أحد على استرداد الأراضى السورية التى أصبحت فى قبضته وإلى الأبد كما يقولون.
هل تريدون توصيفًا دقيقًا لما قامت به الفرق التى تصارعت مع نظام الأسد؟
إنه ببساطة «التبرع بالأوطان».
عرفنا فيما سبق من خانوا أوطانهم، ومن تركوها تسقط بغفلتهم وعدم إدراكهم لما يخطط لهم ولها، ومن فرطوا فى حقها فلم يحموها كما ينبغى، ومن شاركوا فى إضعافها عبر ترويج الشائعات والأكاذيب، ومن ناموا عن رعايتها وبنائها حتى ضعفت واستحالت دولًا هزيلة، وبمجرد هزة بسيطة تداعت على الأرض دون أن تقاوم.

لكن هذه أول مرة أرى من يتبرعون بوطنهم مجانًا، يخوضون حربًا بالوكالة عن الآخرين، يقدمون من خلالها وطنهم على طبق من ذهب لمن يريد أن يسيطر عليه ويقسمه ويفتته ويجعله كرة يتقاذفها كل من يريد.
لقد حاول البعض التعامل مع ما حدث فى سوريا باعتباره نموذجًا، وبدأوا التسويق لذلك عبر منصات إعلامية، وتلقف التابعون للجماعة الإرهابية النموذج السورى الذي يمتدحونه على أنه النموذج المثالى، وبدأوا يروجون له بقوة وبإصرار، حتى يقنعوا الناس به، وهم يفعلون ذلك وأعينهم مسلطة على مصر.
يعتقد هؤلاء أننا تحت تأثير الزخم الذى يجرى على الأرض لن ننتبه لما يقومون به، أو أننا سنصمت أمام الزحف الكبير، معتقدين أن الناس تصدقهم أو تثق فيهم أو تعطيهم آذانهم، ويحاولون قطع الطريق علينا بالادعاء أننا نخاف مما حدث فى سوريا ونخشى تكراره هنا فى مصر، ولذلك نتحدث، دون أن يدركوا أننا نعرف جيدًا أنها معركة طويلة، وأننا نخوض هذه المعركة بقناعة كاملة أن من حقنا أن نحافظ على وطننا من مؤامراتهم وخططهم ورغباتهم الشيطانية.
لقد كانت رسالة الرئيس السيسى واضحة وهو يتحدث من أكاديمية الشرطة عما تتعرض له مصر من مؤامرات، ولم تكن الرسالة إلى الداخل فقط، ولكنها كانت إلى من يفكرون فى الاقتراب من مصر أيضًا، بأننا نراهم ونرصد تحركاتهم، وسنعمل جاهدين على أن نقطع أى طريق يمكن أن يوصلهم إلى ما يريدون، أو يمكنهم من تحقيق ما يخططون له.
لا يعرف هؤلاء أن علاقة المصريين بوطنهم علاقة خاصة جدًا.
قد يعانى المصرى من ضيق العيش، وقد يئن تحت وطأة الأزمات الاقتصادية الطاحنة، وقد يجد نفسه فى مشكلات لا حصر لها تحيط به بالليل والنهار، وقد يغضب ويعلن هذا الغضب فى وجه حكومته، وقد يسخر ولا يتوقف عن السخرية من الأوضاع التى تحيط به، وقد يسب ويلعن، ويعبر عن غضبه بكل الأشكال، لكن أبدًا لا يفكر فى هدم بلده أو التفريط فيها، أو تركها نهبًا لمن يريدون أن يسيطروا عليها ويفرضوا إرادتهم.
وقد يكون درس ٣٠ يونيو ٢٠١٣ دليلًا على ما أقول، فقد جاء المصريون بالإخوان إلى الحكم، لا بد أن نعترف بذلك، صحيح أن ما جرى كان فى لحظة غفلة كاملة، لكن هذا ما حدث.
لكن عندما أدرك المصريون أن اختيارهم هذا يمكن أن يدمر بلدهم خرجوا على الفور ليصححوا خطأهم، لم يمنعهم من ذلك شىء، ولم يترددوا لحظة فى علاج العطب الذى أحدثوه بأنفسهم، ولذلك فإن الرهان على أن المصريين يمكن أن يخربوا بلدهم بأيديهم هو رهان خائب تمامًا.
لا ألوم على الإخوة السوريين ما يبدونه من مشاعر تجاه ما يحدث على أرضهم، قد يكونون فى حاجة إلى أن يخوضوا التجربة بأنفسهم، كما خُضناها قبلهم، فلا يمكن لوطن أن يعيش بفصيل واحد، ولا يمكن لجماعة دينية حتى لو ظهرت علينا بـ«نيولوك» أن تعمل مخلصة لوطن يريد أن يصبح حديثًا ومدنيًا وملكًا لكل أبنائه.

إننى لا أصادر على المستقبل، ولكن ما يمكن أن أقول إننا قادمون من المستقبل، رأينا ما حدث، ولدينا خبرة به، وهو ما يجعلنى أقول إن الحياة لن تطيب لمن فرطوا فى أوطانهم وهم يدّعون أنهم يحافظون عليه، فلا شىء على الأرض يخفى على أحد.
إننا نتعرض الآن لأكبر حملة للتشكيك فى كل شىء، وهى حملة نعرف من يقف وراءها ويمولها ويريد لها أن تنجح، لكننى فى الوقت نفسه لدىّ رهان على وعينا وإدراكنا لما يُراد لنا وبنا، وهو الرهان الذى سنكسبه كما ربحناه قبل ذلك، فلا يمكن لأحد فى مصر أن يفكر فى التبرع بوطنه، لا يمكن لأحد أن يتخلى عنه، لا يمكن لأحد أن يهدمه.. والأيام هى التى ستحكم بين الجميع.