الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

كيف تكذب بشكل جميل؟.. الوصايا الذهبية لكتابة إبداعية

الوصايا الذهبية لكتابة
الوصايا الذهبية لكتابة إبداعية

كم هو صعب أن يقدم كاتبٌ نصائح إلى الكُتَّاب، النصائح تعنى أنك بلغت نهاية الطريق وخبرتَ دروبه وتعرجاته وفخاخه، ثم جلست فى الخاتمة لتقدم النصائح للعابرين الجدد! وهل من كاتبٍ بلغ نهاية الطريق؟! لا يظن هذا إلا كل فاشل، هذا طريق لا نهاية له. 

لا بأس لا بأس، دعنا من المقدمات المتواضعة والديباجات العاطفية، هذا فى حد ذاته نوعٌ من الخداع، أمارسه الآن ربما بلا وعى، لأبرر كونى أقدّم النصائح فى ثوب من التواضع، لتبدو كلماتى أكثر تأثيرًا، لكن إن لم يكن الكاتب مخادعًا فمن يخادع؟ لقد خلقنا الله نحن الكُتَّاب لنكذب، لكن شريطة أن يكون الكذب جميلًا بهيًا شهيًّا، حتى الله يتجاوز لنا نحن الكُتَّاب عن هذه الصفة السيئة، ويقول لنا لا بأس أن تفعلوا، وانظر إذا شئت ما قاله الله فى الشعراء.

من هنا نبدأ.. اكذب صديقى الكاتب، كن كاذبًا على الدوام، لكن اجعلنى شريكًا فى الكذبة كقارئ، لا تكذب كالأطفال كذبات ساذجة، ولا تكذب كالتجار كذبات مبتذلة، لكن اكذب كالسياسيين كذبات تبعث الأمل وتجعلك تترقب المستقبل، وتستشرف القادم، وتحلل الماضى، حتى لو كان الأمر كله خداعًا مبنيًا على الخيالات والأوهام، هكذا ينبغى أن يكذب الكاتب، بل لعل السياسيين تعلَّموا هذا منا نحن الكتّاب. 

كيف تكذب بشكل جميل؟

أولًا.. اقلب الحقائق، وبدِّل القواعد.. اجعلنى أرى بالمقلوب، قدِّم الشرير على أنه ضحية أو بالغ فى إظهار ذكائه أو اجعلنى أراه فى لحظات العشق مع حبيبته، فأُبصر روحه الشفافة. باختصار لا تقدمه شريرًا خالصًا، بل قدمه بشريًا له وعليه، ويا ليتك تزيدنى مما له، حتى أتعاطف معه ثم دون وعى أحبه، هكذا يفعل الأديب الرائع، هكذا يقلب القواعد ويجعلنى أحب القبح النادر، وأستقبح الجمال المألوف. انظر إلى جدنا الأعظم نجيب محفوظ وهو يقدم لك أبطاله الأشرار فى صورة بهية حتى يصبحوا رموزًا تقتفى أثرها وتتلهف إلى رؤيتها، هل تذكر السيد أحمد عبدالجواد؟!

ثانيًا.. أدخِل القارئ فى ورطة، اجعله خصمًا لك، قدِّم له إشارات كلها تقوده نحو اليمين، ثم فاجئه بأن الحقيقة فى اليسار، أخرِج له لسانك وقل له: قد خدعتك. تحداه كثيرًا، ولكن ليس على طول الخط. القارئ له وجوده وشخصيته، ويغضب كثيرًا حين يكتشف أنك تلعب معه لعبة الذكاء ويخسرها فى كل مرة، لا بد أن تجعله هو الفائز أحيانًا، اجعله يتوقع ويصيب فى توقعه، لكن إياك أن تكثر من هذا، إذا توقعك القارئ فى كل مرة بشكل صحيح فسيُلقى بك وبكتابك من النافذة، العبا معًا لعبة القط والفأر، وليكن الفوز بينكما متبادلًا لكن اجعل حظك من الفوز أكثر وسيقبل القارئ هذا منك بل ويحبه.

ثالثًا.. حرّك مشاعره، نحن فى عصر صلب جامد مرهق للروح، نحتاج إلى نسائم تهز ستائر القلب، وتستثير كوامن النفس، نتوق لشىء من الشعور، وأن نمنح عقولنا قليلًا من الراحة. قدِّم للقارئ جرعته تلك وإلا لن يسامحك أبدًا. أنت لا تلعب معه الشطرنج، تلك اللعبة التى تخلو من الحظ والمشاعر، النرد لعبة جيدة، فيها كثير من الحظ وكثير من الغضب والفرح، وفيها شىء من الذكاء. اجعل حظوظ الأبطال متقلبة بين القدر اللطيف والقضاء المخيف، مرة يربحون الحب ومرة يخسرونه، قدم الموت والحياة على طبق واحد، اجعل التعاسة والسعادة قرينين لا يفترقان، اجعل القارئ يتقلب مع حظوظ أبطالك كيفما تقلبت بهم الأقدار، هكذا ستحرك مشاعره وتحيى أشجانه وتنفخ النار على قلبه ثم تبرده بالنسيم الوديع، هكذا.. وفقط هكذا سيصبح القارئ شريكًا لك بالروح وليس بالعين التى تقرأ فقط.

رابعًا.. اجعل نهايتك متطرفة، إما سعادة غامرة أو تعاسة مكتملة، انظر إلى المبجَّل «جورج أورويل» فى روايتيه الرائعتين «١٩٨٤» و«مزرعة الحيوان»، أو إلى المقدس «باتريك زوسكيند» فى روايته الأسطورية «العطر» إنه يقلِّبك على طول الرواية وعرضها بين اليأس والرجاء، ثم تأتى الخاتمة كالصاعقة التى لا تخطئ هدفها، وكالقضاء الذى لا مفرَّ منه، كزلزال رأسى يقتلع بنيانك من جذوره ويدعك قاعًا صفصفًا لا عوج فيك ولا أمت، نهاياته دومًا كابوسية، لا فكاك لك فيها من الهزيمة التامة والخسارة المطبقة، فتظل شهورًا بل وسنوات كلما تذكرت روايته غاصت أمعاؤك وانفطر قلبك كأنك أنت الخاسر لا البطل، هكذا تكون النهايات العبقرية مثل جرح فى الوجه لا يمكن إخفاؤه. وإن كنت من الكتّاب اللطفاء الذين يحلمون بعالم سعيد فلا بأس بهذا، أعطنى نهايات ينتصر فيها الخير، ويصفع الضعيف القوى، وتزقزق العصافير وتحلق الطيور ويجرى النهر لمصبه سعيدًا، ويتحقق القصاص ويصبح الجميع سعداء، وإن كنتُ شخصيًا أشعر بنفور من هذه النهايات وتزعجنى تلك الأوهام، لكن دعك منى فأنا رجل شرير بطبعى أميل إلى انتصار الأشرار بحكم الانتماء!

• نصائح مقولبة:

١- كما قال أحد النبهاء: «لا تقل لى إن السماء تمطر، اجعلنى أشعر بالبلل». فلا تكن من السخفاء الذين يرددون قبل كل جملة حوارية كأنهم يقدمون موسيقى تصويرية: «قال بغضب.. نظرت إليه بحب.. أجابها وقد رفع حاجبيه.. مالت برأسها استنكارًا.. ردت ببسمة خجلى». يا للعار إننى ما قرأت شيئًا مثل هذا إلا وألقيت به على طول ذراعى. هذا عجز مكتمل، وشلل أدبى، وفقر بلاغى. اجعل الحوار يعبر عن هذا، اجعلنى أسمع صوت الغضب فى الكلمات وليس فى شرحك البليد للموقف، اجعلنى ألعق شفتى وأنا أستمع إلى حوار العشق، وأمسح عرقى وأنا أقرأ كلمات الخوف، أريد أن أرى روح البطل وألمس مشاعره لا أن أراك أنت!

٢- لا تكن ثرثارًا كالعجائز.. أنا أحب العجائز والله جدًّا، لكن يضجرنى حديثهم، حتى إنى أدعو الله كثيرًا أن يتوفانى قبل أن أصبح شيخًا هرمًا.. ها أنا أثرثر وأنا أنهاك عن الثرثرة! المهم.. أقول لك لا تثرثر وأعنى بهذا أنه من الخطأ والخطيئة أن تبالغ فى وصف الشعور كأنك تقول لى أرجوك ابكِ، أو أتوسل إليك يجب أن تحس بالخوف، كن مقتصدًا حاسمًا، استخدم جملًا واضحة الدلالة سريعة النفاذ إلى القلب والعقل، ثم اترك القارئ يشعر بما شاء.

٣- لا تكتب تجربتك الخاصة، لا سيما النساء. فكل كاتبة تظن أن قصتها جديرة بالخلود، وأن تعرضها للخيانة هو أمر تهتز له أركان السماء وتبكى لأجله جبال الأرض، يا عزيزتى كل النساء مررن بمثل تجربتك، أنتِ لست حادثًا مثيرًا للدهشة ولا حادثةً مثيرة للبكاء، لا تجعلينى أقرأ كأنى فى أحد النوادى أستمع لمجموعة من النسوة يثرثرن على الطاولة المجاورة حول الرجال الأوغاد الذين خدعوهن! اكتبِ بعقل إنسان وليس بقلب امرأة، حنانك لن يطربنى، إن أمى تمنحنى الكثير من الحنان ولست فى حاجة إليك!

٤- اقرأ.. إن كاتبًا لا يقرأ مثل نهر بلا روافد ولا مطر، سيجف سريعًا ويصبح حفرة لا نهرًا. اقرأ كل شىء وأى شىء، اقرأ التاريخ، واقرأ فى علم النفس، والفيزياء، والاجتماع، اقرأ فى كل مجال، فكلما تعددت روافدك كلما صار نهرك فوارًا قويًا جارفًا، سيدخر عقلك ما قرأت وتشعر بأنك نسيت كل شىء، لكن هذا ليس حقيقيًّا، إن ما قرأته يختمر فى عقلك ولاوعيك، وسيخرج حكمة وأحداثًا ومواقف وفلسفةً فى كتاباتك، إذا لم تقرأ فلن يقرأ لك أحد، أو على الأقل أنا لن أقرأ لك!

٥- اعرض ما كتبته على القراء النبهاء، واستمع لنصائحهم ثم ابدأ مراجعة متنك، نقّحه وأعِد بناءه على رؤاهم، لكن كن أنت الحاكم الأخير، لا تلتزم بالنصائح دون قرار منك وقناعة.

٦- البتر ليس سيئًا. عليك أن تمتلك قوة الحذف، كل كاتب يرى أن كلماته مقدسة لا يجوز حذف شىء منها. لكن للأسف هذا ليس صحيحًا، لا مقدس إلا ما جاء من الله، وأنت لست كذلك. امتلِك شجاعة الحذف لتخلِّص النص من ترهلاته وزوائده الضارة التى تجعله كسيحًا، لا تبالغ فى الوصف ولا تجعلنى أتململ وأنا أراك تكرر ما قلته بصيغ عديدة، لا تركن إلا كثرة التشبيهات، كم هو مزعج أن تقول لى كان شهيًا كتفاحة نضرة، وكان قويًا كأسد هصور، وكان كريمًا كمطر لا ينقطع، وكان حنونًا كأم رؤوم.. بربك توقف عن هذه الكنكنة.. وتكلم كرجل لديه ما يقوله بحسم ودون ثرثرة. احذف كل هذا كى يحبك القارئ وأحبك معه.

٧- لا تتبع نمطًا. لماذا تقلد طرق بعض الكتّاب؟! ما الذى يدعونى لقراءة نص مزيف ونسخة مقلدة وأنا لدى الأصل؟! إذا كنت تقلد نجيب محفوظ فلماذا أقرأ لك وأنا لدى محفوظ بذاته؟ ما الذى يدعونى أن أعجب بك لمجرد أنك تشبه كونديرا وأنا أقرأ لكونديرا بالفعل؟ كُن نسخة أصلية وقلمًا يحمل بصمته الخاصة، هذا ما سيضع اسمك بجوار الكتاب العظماء.

٨- لا تكتب. نعم أعنى ما أقول. هل أزعجتك هذه الجملة؟ حسنًا اكتب واثبِت أننى كنت على خطأ. لكن كن على حذر حين تدخل السباق وتبدأ التحدى، واجمع كل وسائلك وأدواتك، واثبت للسخفاء والمغرورين من أمثالى أنك جدير بالقلم.