الخميس 13 فبراير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عبدالرحيم كمال يختص حرف بفصل من أول رواية يكتبها للأطفال

مملكة الحروف.. أنس وليلى وشجرة تغنى وطائر يتكلم

حرف

- أنس وليلى وشجرة تغنى وطائر يتكلم

- هذه الشجرة ما إن تقضم ثمرة منها حتى يملأ قلبك الصدق وعقلك الخيال وروحك السعادة

- كان الملك «أبيض» على هيئة لون أبيض تتخلله تفاصيل لوجه ملك مضىء وسيم شاب ملائكى بأجنحة بيضاء

- لستُ كذَّابًا أنا فقط أُحب أن أحكى الحكاية بشكل مختلف وأُحب أن أُضيف إليها بعضًا من خيال

 

أنس

من المعروف فى الشارع الصغير الذى ينتهى بسور المدرسة المُزيَّن، أن «أَنَسًا» طفل لا يقول الحقيقة، لن نقول أبدًا مثل العم «محمود» البقال إنه كذَّاب؛ ليس فقط لأن ذلك لا يليق، ولكن لأن هناك سببًا أهم، وهو أن السيدة «داليا» والدة أنس تغضب حينما يتهم أحد ابنها الوحيد بالكذب. 

يمكننا أن نقول إنه ليس كذابًا بالمعنى التقليدى؛ لكنه طفل واسع الخيال، وهذا الأمر يجعله يحكى أشياء لم تحدث! هكذا يصفه والده «أسامة» دائمًا. أما الجدة «سميرة»، فهى تدافع عنه طول الوقت، وتقول: إن حفيدى أنسًا ليس كذَّابًا؛ لكنه يُجمِّل الحياة بحكاياته الجميلة؛ لأنه موهوب مثل خاله «أنور»، وفى يوم من الأيام ستفخرون به جميعًا؛ لأنه سيصبح رجلًا ذا شأن عظيم. 

والخال أنور هو الابن الأصغر للجدة سميرة، وبينه وبين الطفل أنس أشياء كثيرة جدًا مشتركة، أهمها المبالغة واختلاق القصص وحب الخيال.

هذا ما كان يُقال عن الطفل أنس صاحب الثمانى سنوات.

لكن ماذا عن أنس فى غرفته؟ إنه لا يعرف شيئًا عن النظام! ينام تحت السرير، ويصنع من الوسائد وأغطية الفراش خيامًا وقلاعًا، ويحوِّل نظارات وأقلام الأب، وأوانى مطبخ الأم، إلى أسلحة يحملها ويجرى بها صارخًا فى الغرفة، وحينما تدخل الأم على إثر تلك الضجة تجده مختبئًا خلف الباب، تمسك به وتشده من أذنه، فيبدأ فى اختلاق قصة عن دخول قط بثلاثة ألوان وجناحين إلى غرفته، وأن ذلك القط هو الذى صنع كل تلك الكوارث، رغم أنه حاول منعه مرارًا حتى نجح أخيرًا فى طرده من الغرفة، وأجبر القط على أن يفرد جناحيه ويطير من الشباك!

تغضب الأم أكثر، وتقرر أن تعاقبه عقوبة لم تعاقبه بمثلها من قبل، وهى ألَّا تكلمه لمدة يومين كاملين. وحينما يعود الأب أسامة من العمل تشكو له الأم من فعل أنس، فيقرر أيضًا أن يعاقبه بالعقوبة نفسها. وهكذا لا يجد أنس من يكلمه فى البيت إلا الجدة سميرة، التى أخذت تعاتبه فى حنان، وتنصحه بألَّا يفعل ذلك ثانيةً.

فى اليوم التالى يزورهم الخال أنور، ويرى موقف الأب والأم من أنس، ويعرف القصة التى دارت بالأمس بالتفصيل من الجدة، ويحاول أنور أن يتوسط لدى الأم والأب من أجل مصالحة أنس؛ لكنهما يرفضان، وكذلك تتدخل الجدة سميرة، وتقول: أنس طيب، سامحاه، وسيصبح مؤدبًا وشاطرًا. ولكن يظل الأب والأم على موقفهما.

وهنا يقول الخال أنور فجأة: أنا عندى الحل لمشكلة أنس، دعونى أخرج معه فى رحلة قصيرة سيعود بعدها مختلفًا تمامًا عما كان عليه من قبل. هكذا يعِدُهما الخال، وتوافق الأم على مضض، ويبتسم الأب وهو يقول: لِمَ لا؟ الله قادر على كل شىء.

فى الحديقة القديمة، يجرى أنس منطلقًا سعيدًا، كمن حصل على كامل حريته، بينما خاله أنور يتابعه مُبتسمًا وهو يحدق فى أركان الحديقة المترامية باحثًا عن شىء ما، ويقترب أثناء بحثه من شجرة عجوز كثيرة الفروع عريضة الجذع بشكل لافت. كانت تقف بمفردها فى صمت وحكمة، وقد تهدلت فروعها على جذعها كأنها لحية ضخمة لرجل شيخ بوجه متغضن. يقف الخال أنور أمامها طويلًا وهو يتأملها فى صمت، مما يثير فضول أنس، فيجرى لاهثًا حتى يصل إليها، وينظر فى ذهول ودهشة إلى الشجرة، وفتحة كبيرة فى جذعها كأنها باب قديم أو فم! اهتم لذلك الوجه ذى اللحية الذى رسمه الزمن من فروع الشجرة وجذعها، وإلى جوارها يقف الخال هامسًا فى جدية، وهو يُغمض عينيه ويحكى:

فى البلاد البعيدة، خلف حدود الزمن المعتاد، توجد شجرة ترقص وتغنى، ثمارها زرقاء، ما إن تقضم ثمرة منها حتى يملأ قلبك الصدق، وعقلك الخيال، وروحك السعادة، فتبدأ فى الرقص والغناء، وتعود من حيث كنت. 

يفتح الخال أنور عينيه وينهى الحكاية، بينما أنس لا يزال غارقًا فيما سمع، ويهمس فى ذهول: وكيف أصل إلى تلك الشجرة التى ترقص وتغنى؟ 

يشير الخال إلى فم الشجرة العتيقة الفاغر، ويهمس:

هنا تبدأ الرحلة، وداخل هذا الجذع كل ما تحلم به يا أنس.

ودون لحظة تفكير واحدة، يخطو أنس إلى داخل جذع الشجرة حتى يختفى داخلها!

ليلى

يدفع الفضول والشغف أنسًا إلى الدخول فى جذع الشجرة، ويغمض عينيه لحظة من شدة الظلمة، ثم يفتحهما ليجد نفسه فى مكان واسع جدًا، تتسارع دقات قلبه، ويفكر مندهشًا: من غير المعقول أن تكون كل هذه المساحة داخل جذع الشجرة! والأعجب هو ذلك النور الذى يحيط به من كل جانب! ولا أثر لشجرة يقف داخل جذعها؛ لكنه وحده فى فراغ مضىء! 

يلتفت أنس ليسأل خاله أنور تلك الأسئلة؛ لكنه لا يجده، ولا يجد شيئًا على الإطلاق! يغمض عينيه ويفتحهما عدة مرات دون فائدة، وفجأة يظهر له شخص قادم من بعيد كأنه قادم من مكان مرتفع. لا يستطيع تحديد ملامحه على البعد؛ لكن المؤكد أن ذلك الشخص يقترب نحوه وكأنه يجرى، وكلما يقترب أكثر تظهر ملامحه، إنه طفلة صغيرة من نفس سن أنس. تصل أخيرًا إلى جواره وهى تلهث وتسأله فى براءة، وهى تحاول أن تلتقط أنفاسها:

أين نحن؟

يخجل أنس أن يقول لها إنهما فى جذع الشجرة، حتى لا تضحك عليه أو تتهمه كالعادة بالكذب، وينظر إليها فى دهشة ويقول: من أنتِ ومن أين أتيتِ؟

فترد: أنا ليلى، كنت بصحبة عمتى «سمر» نلعب معًا، وقالت لى: يجب أن تتركى الشقاوة والكذب يا «ليلى»!

يضحك أنس ويهمس:

ليلى الشقية الكذابة!

يشتعل وجه ليلى باللون الأحمر كقرن الفلفل من الخجل، ثم تنظر إليه فى غضب: لست كذابة، أنا فقط أحب المزاح، والمزاح جعل أمى تغضب منى، ولذلك خرجت معى عمتى التى أحبها جدًا فى نزهة عند شاطئ البحر لتنصحنى، وعند كوخ صغير على صخرة قرب الشاطئ همست لى: فى البلاد البعيدة يوجد طائر أزرق يتكلم، لا يسكن إلا الشجرة العجيبة، ولا يأكل إلا الثمر الأزرق، ولا ينطق إلا بالصدق، إذا سمعتِه فرحتِ وعدتِ من حيث أتيتِ!

فسألتها فى فضول: وأين أجد ذلك الطائر؟

ردَّت: لا أعلم!

يسود الصمت، ويشرد أنس فى تفكير عميق، ثم يهمس فجأة وكأنه وجد الرابط بين كلامها وما توصل إليه:

طائر أزرق يتكلم، ولا يسكن إلا الشجرة العجيبة، ولا يأكل إلا الثمر الأزرق.. أنا أعرف تلك الشجرة العجيبة، إنها شجرة ترقص وتغنى وثمارها زرقاء، ما إن تقضمين ثمرة منها حتى يملأ قلبك الصدق وعقلك الخيال وروحك السعادة، فتبدئين فى الرقص والغناء، وتعودين من حيث أتيتِ.

تنظر له فى دهشة وهى تمسح دموعها: وكيف عرفت؟

يرد فى شرود: هكذا أخبرنى خالى قبل أن يجعلنى فضولى أدخل جذع الشجرة.

تكمل ليلى: 

وأنا دخلت الكوخ لأجد نفسى فى مكان واسع، والنور يملأ أركانه. ناديت على عمتى فلم أجدها، ووجدت شخصًا بعيدًا جدًا، أخذت أجرى بكل قوتى نحوه، وحينما وصلت كنت أنت هذا الشخص، فمن تكون؟

يهمس أنس فى ذهول: أنا أنس، وقصتى تشبه قصتك.

تنشغل عنه ليلى، وتبدأ فى جمع أصداف ملونة على الأرض، وتشكِّل بها كلمة «أنس» ثم كلمة «ليلى»، وتجلس على الأرض بين الاسمين.

يسأل أنس: كيف نخرج من هنا؟

تهمس ليلى الجالسة بين الاسمين: لا بد من باب.

ثم تشرد، وتبدأ تكتب بالأصداف الملونة كلمة «باب»، فيظهر لهما وسط النور باب رقيق كان فى رقة الظل، كأنه باب وهمى مرسوم باليد فى الهواء، وتقفز ليلى فى فرحة، ويتبعها أنس فى ذهول، وتدفع ليلى الباب الوهمى بيدها، فينفتح لها وتدخل، وخلفها يدخل أنس؛ ليجدا نفسيهما فى مكان عجيب جديد لا يخطر على البال.

على باب المملكة

لم تكن أرضًا معتادة؛ لكنها سطور متوازية، والأرض خلفية هذه السطور، بينما اصطف كثير من الجنود الذين اتخذت أجسامهم أشكال علامات الاستفهام والترقيم، من نقطة وفاصلة، وخلفهم كُتب أعلى الصفحة «قسم علامات الترقيم والدهشة».

أحاط هؤلاء الجنود بـليلى وأنس، واقتادوهما إلى مكتب فخم، يجلس عليه رجل أنيق جدًا على هيئة قلم رصاص برأس رفيع مبرىٍ، وتعلوه فى السقف مبراة ضخمة، كلما تكلم كلمتين أو ثلاث صارت رأسه أضخم، فتهبط المبراة من السقف وتبرى رأسه فيصبح أقصر، وهكذا حتى يصبح قصيرًا جدًّا، فيتم استبدال قلم جديد به!

يسألهم القلم بصوت حاد يناسب رأسه المدببة: من أنتما؟

لا يرد الطفلان.

وتتضخم رأس القلم ويسألهما:

من أين أتيتما؟

لا يردان.

وتتضخم رأسه أكثر، وتهبط المبراة وتبرى رأسه، ويصير أقصر:

وكيف دخلتما إلى هنا؟

تنكمش ليلى فى خوف، ويتراجع أنس.

ويتضخم رأس القلم الرصاص، لتهبط المبراة وتبرى رأسه، ويصير قصيرًا جدًا، فيتم استبدال قلم رصاص جديد طويل به، يبدأ فى تكرار الأسئلة، والطفلان يكرران الصمت، والمبراة تكرر الفعل، والقلم يأخذ فى القِصَر، فيُستبدَل به قلم جديد، وليلى وأنس على حالهما من الخوف والتردد! فيعلو صوت القلم، وتقرر ليلى أن ترد وتحكى القصة من أولها، ولكن أنسًا ينظر لها محذرًا، ويهمس: لا تتكلمى حتى لا تبرى المبراة رءوسنا! 

ومع جلوس القلم الجديد الطويل مكان القديم، وقبل أن يشرع فى مواصلة تكرار الأسئلة، تدخل فجأة السيدة «ممحاة»- هى ممحاة عريضة البطن بثلاثة ألوان- وتمسح كل الكلمات المكتوبة فى الدفتر الكبير، أمام القلم الرصاصى، وتبتسم بوجه عريض مبطط ممطوط، وتقول:

لا داعى للأسئلة، إنهما طفلان بريئان، لا داعى للسخافة معهما، فليدخلا مملكة الحروف زائرَين، أهلًا وسهلًا، لعلهما يتعلمان شيئًا، ولعلنا نتعلم منهما. وترقص الفاصلات فى فرحة، وتدفع الممحاة بابًا وهميًا وتفتحه وهى تشير للطفلين أنس وليلى المذهولين بالدخول.

شارع الكلمات

يرفع أنس رأسه وهو يتطلع لتفاصيل الشارع العجيب، وعيون ليلى تتحرك فى سعادة ودهشة من تلك المناظر الخلابة فى شارع الكلمات، وهو شارع بديع تتراص فيه البيوت الجميلة على الجانبين، كل بيت طرازه المعمارى على شكل كلمة مكتوبة بخط الرقعة البديع، ومتراصة بنظام فائق: هذا بيت السعادة، وهذا بيت الألعاب، وبيت الطعام، وبيت النوم، وبيت السفر، وبيت النظام. ثم يظهر أمامهما برج طويل جدًا يخترق السحاب، وتعلوه صورة كبيرة لجلالة الملك «ألف» صاحب الهمزة، وهو رجل لطيف على هيئة حرف الألف، ويعلو رأسه تاج هو الهمزة المعروفة، وإلى جواره صورة مماثلة للملكة «باء»، وهى سيدة جميلة على هيئة الحرف باء، وكأنها طبق رحب، هذا الطبق هو وجهها المبتسم، وتحت الطبق نقطة حرف الباء، وكأنها درة بيضاء أو بيضة مضيئة.

تقول ليلى ضاحكة: لطيفة هى الملكة باء، وجميل أيضًا الملك ألف.

يرد أنس: إنها مملكة عجيبة، لا توجد فيها إلا الحروف والكلمات! ولكن أين الشجرة والطائر؟

تلتفت ليلى وأنس إلى الشارع الرئيسى الممتد أمامهما، وقد بدأ كل شىء يهتز حولهما وتحت أقدامهما، وتصل إلى آذانهما أصوات دقات الطبول.

عيد الكتابة

موكب كبير يتقدمه الوزير «واو»، وهو رجل مهذب رياضى التكوين، على هيئة حرف الواو، وإلى جواره زوجته السيدة «ضمة»، وهى رقيقة صغيرة كأنها نسخة مصغرة من زوجها، وبناتهما الثلاث الجميلات: «شَدَّة» و«كَسرةِ» و«فَتحة»، وخلف الوزير وعائلته، كانت تسير الآنسة «ريشة»، والآنسة «محبرة»، والسيد «كتاب»، والسيدة «دباسة»، والسيد «قلم الحبر»، وحولهم على جانبى الطريق تراصت جماهير الأوراق تُصفِّق وتحيى! 

ويبدو أن الأمر كان احتفالًا كبيرًا، تتناثر فيه دفقات الحبر الأسود والأزرق والأحمر والأخضر، وتهتف الأقلام الجافة بحياة الوزير «واو» وزوجته، وتطير أغطية الأقلام فى الهواء تعبيرًا عن الفرحة، ليمر موكب الوزير «واو» وزوجته بحجر كبير، مرقوم بكلمات قديمة مُبهمة اللغة، فينحنى الوزير وزوجته ويتبعهما الجميع فى الانحناء بإجلال، ثم يمرون بورقة بردى ضخمة جدًّا مرقومة بكلمات هيروغليفية، فينحنون فى توقير، ثم يمرون بمطبعة ألمانية ذات طراز قديم، فيواصلون الانحناء فى تقديس واحترام، حتى يصلوا فى النهاية إلى شاشة كبيرة داخلها «كى بورد» حديث، وعندها ينهون طقوس الانحناء والتبجيل، وتطير الحروف المضيئة فى السماء، فتتشكل فى سماء المملكة كلمتان كبيرتان لامعتان، تحيط بهما الأضواء من كل جانب، وهما: «عيد الكتابة»! 

هكذا كان موكب عيد الكتابة الذى يصطدم فيه أنس وليلى، وهما يجريان فى الحديقة بعدد من الأقلام الجافة الراقصة، فيقعان على الأرض، ثم يحاولان النهوض، وينضمان فى سعادة إلى ذلك الموكب المبهج، وهما يتراقصان فى سعادة وبهجة، حتى يصل الموكب فى النهاية إلى بوابة قصر الملك؛ بوابة ضخمة تفتح على اتساعها بأيدى الحراس الأشداء، وهم على هيئة حروف كلمة «حراسة»، ليدخل الموكب إلى ساحة القصر؛ وهى ساحة كبيرة جدًّا يجلس فى صدارتها فى العمق كل من الملك «ألف» ذى الهمزة، والملكة «باء» ذات النقطة، ويقترب منهما كل من الوزير «واو» وزوجته «ضمة»، وينحنيان فى أدب ووقار، ويهمس الوزير «واو»: عيد كتابة سعيد جلالة الملك «ألف»، وتهمس السيدة «ضمة» فى احترام بالغ: عيد كتابة سعيد جلالة الملكة «باء».

ثم يظهر فجأة السيد «قاف قانون» بقامته الفارهة، وتصفق له الأقلام، وتلوح له المماحى السمينات بالورد، ويهمسن فى فرحة: «السيد قاف» قانون الوسيم اللماح، بينما يختبئ أنس وليلى خلف عمود من أعمدة الساحة ليتمكنا من الفُرجة. 

ويتقدم السيد «قاف قانون» من عرش الملك «ألف»، وينحنى وهو يضع عباءة على كتفيه ويهمس: عاش جلالة الملك «ألف»، وعاشت جلالة الملكة «باء»، وعاشت مملكة الحروف سيدة على كل الممالك.

يبتسم الملك «ألف»، وتبتسم الملكة «باء»، وتشكل الحروف فى الساحة كلمة «بهلوان»، وتبدأ الكلمة ترقص وتتحرك حركات بهلوانية صعبة، ثم تتشكل مجموعة أخرى من الحروف على شكل كلمة «مهرج»، وتبدأ الكلمة فى تقديم أفعال مضحكة، ويضحك الملك «ألف»، وتضحك الملكة «باء»، وتتشكل مجموعة حروف أخرى على هيئة كلمة «حكمة»، وتبدأ تلك الكلمة فى النُّطق بعدة حكم متتابعة، فتقول بصوت رخيم هادئ:

«الوقت: نعمة الخالق فلا تُضيِّعه فيما لا يُفيد».

«الكبير: يعرف أكثر، وعلى الصغير أن يُنصت إليه».

«الصغير: لا يعرف أشياء كثيرة، وعلى الكبير أن يُعلِّمَه».

«كلمة حكمة تتكون من أربعة حروف فقط، وعليك احترام كل الحروف، لأن فيها أكثر من حكمة».

يُصفق الجميع فى سعادة واقتناع، ويهز الملك والملكة رأسيهما فى استحسان، وتتشكل مجموعة حروف على شكل كلمة «حفلة»، وتنطلق الكلمة فى أشكال وألوان وحركات مبهجة، ثم يسود الصمت، ويتقدم السيد «قاف قانون» من الملك «ألف»، وينحنى فى أدب، ويطلب منه أن يلقى كلمة، فيقف الملك «ألف» فى هيبة ورقَّة، ويتكلم بصوت لطيف مميز: السيدة العظيمة المبجلة حبيبتى الملكة «باء»، أُحبك جدًّا، أنتِ يا حبيبتى باء البداية، ونهاية كلمة حب، وبداية كلمة بهجة، وآخر كلمة قلب، تقبلى عشقى ومحبتى.

تبتسم الملكة «باء» فى سعادة، وتتسع كأنها حضن، وتسيل دموع السعادة مع كحل عينيها، فيُلقى لها الملك قبلة فى الهواء، ثم يلتفت الملك للجماهير ويُكمل:

أبنائى وبناتى شعب مملكة الحروف العظيم، لكم منى أسمى حروف المحبة وأعلى حروف التقدير، سأعيش لأجل سعادتكم. 

يُصفق الجميع فى حماس شديد، حتى ليلى وأنس يصفقان بحرارة وإعجاب، ليعلو فجأة صوت السيد «قاف قانون»: هناك أغراب بيننا!

الجسر

يجرى أنس وليلى بكل سرعتهما، حتى يجدا كتابًا ضخمًا يقف على ناصية شارع، وهو مفتوح، فيدلفان إليه، ويختبئان بين أوراقه الضخمة وفى ظلمته التى تحميهما عن أعين الحراس، ويهمس أنس: 

إلى متى سنظل هنا؟ بالتأكيد خالى أنور يبحث عنى فى جذع الشجرة، وأمى وأبى وجدتى أيضًا، لا بد من أنهما فى غاية القلق!

تنظر له ليلى فى عدم فهم، فيشرح لها قصته، وتضحك هى ضحكة طويلة، ثم تشعر بالخجل لأنها رأت وجه أنس الغاضب، وهو يسألها عن سبب الضحك، فترد فى خجل، وقد عاد وجهها للاحمرار كقرن الفلفل: آسفة... ولكنك طفل لا يقلق عليه أحد، فأنت كما وصفتَ نفسك كثير المشاكل، وعفوًا: كذَّاب.

يشيح أنس بوجهه فى ضيق، ويقول مُدافعًا عن نفسه: لا، لستُ كذَّابًا، أنا فقط أُحب أن أحكى الحكاية بشكل مختلف، وأُحب أن أُضيف إليها بعضًا من خيال.

ويجلس فى حزن بجوار بيت مبنى على هيئة كلمة «الأدب»، فتجلس إلى جواره ليلى فى تعاطف، وتربت على كتفه مُعتذرة: 

أنا أيضًا طيبة جدًًا مثلك؛ لكنهم يتهموننى بالإهمال والكذب والمبالغة وكثرة الكلام. صحيح أننى تسببت فى كثير من الكوارث بسبب حبى للكلام، ونسيت البيض المسلوق على النار حتى احترق مطبخنا وأنا أحكى لأمى قصة لم تحدث، وصحيح أننى جعلت جارتنا تسافر إلى بلد بعيدة جدًّا، بعد أن صدقتنى فى كذبتى الصغيرة عن ابنها الذى رأيته يركب سيارة ويرحل دون أن يحدث ذلك، وصحيح أيضًا أننى تسببت فى سقوط ابن خالتى الطفل من فوق الشرفة، بعد أن أقنعته بأنه إذا قفز منها فسينبت له جناحان، فقفز وسقط ولم يُصب إلا بخدوش بسيطة؛ لكننى كنت أمزح، وهذه الأخطاء الصغيرة لا تجعلنى أبدًا أحمل صفات سيئة، مثل الكذب والإهمال وكثرة الكلام.

يضحك أنس ويقف وهو ينظر لها مباشرة، ويقول:

أنت رهيبة... أنت كارثة، إننى طيب جدًّا بالنسبة لك.

يحمرُّ وجه ليلى الأبيض مرة ثالثة، ولكن هذه المرة من الغضب، وتصبح بوجه ثمرة طماطم ناضجة، وتترك أنس وتغادره مسرعة، وهى لا تعرف إلى أين، كل ما تريده أن تبتعد عنه أقصى مسافة ممكنة.

يحاول أن يلحق بها؛ لكنها تواصل المشى السريع. 

ويمر الوقت، ولا تزال ليلى تمشى، ولا يزال أنس يمشى خلفها، حتى تتعب ليلى وتقرر أن تستريح، وتجد على البُعد جسرًا صغيرًا مُضاء بإضاءة خافتة، ويجرى من تحته نهر، وهناك على الطرف الآخر ألوان زاهية كبيرة، وصورة كبيرة لملك وملكة: الملك «أبيض» والملكة «ذهبية».

كان الملك «أبيض» على هيئة لون أبيض تتخلله تفاصيل لوجه ملك مضىء وسيم شاب، ملائكى بأجنحة بيضاء، وملابس بيضاء، وشعر أبيض، ووجه ينضح بالشباب والهيبة.

والملكة «ذهبية» كانت ذهبية اللون على هيئة قرص شمس، تحيط به أشعة تعكس لونها الذهبى على كل شىء، لها وجه جميل وشعر ذهبى وعيون مبتسمة، تتلألأ فيها كل الألوان. 

وهناك، أعلى الصورتين، لوحة كُتبت بالألوان السبعة «مملكة الألوان»! 

هذا ما تراه ليلى، وما يراه بعدها أنس، وهو يقف إلى جوارها على الجسر الفاصل بين المملكتين، تشيح بوجهها، وتستند على سور الجسر، وتهبط من عينيها دمعة، ما إن تلمس ماء النهر حتى يسمعا صوت نغمة موسيقية جميلة، يندهش أنس ويتراجع للخلف سائلًا ليلى: 

هل ما سمعتُه حقيقة أم خيال؟

ترد فى ضيق: لا أُكلمك.

يقترب منها مُعتذرًا:

أنا آسف.. لا تغضبى.. نحن غريبان هنا، وليس لنا ثالث، ويجب أن نظل معًا حتى نصل إلى الشجرة التى ترقص وتغنى.

وترد ليلى شاردة: والطائر الأزرق الذى يتكلم!

تبتسم له فى تسامح، وينظران معًا إلى النهر الفاصل بين المملكتين، ليمر بجوارهما مخلوقان عجيبان: الأول هو لون «أخضر» مُبتسم ابتسامة عريضة، وهو فى صورة لوحة صفراء صافية تتخللها ابتسامة طيبة، بينما يسير إلى جواره حرف «الخاء» بشكله المعروف، ويبدو أن «الخاء» يطلب من «الأخضر» شيئًا جعل أنس وليلى تتسع عيونهما بشكل كبير.

جريمة بين مملكتين

يضع «الخاء» الداهية يده على كتف «الأخضر» الطيب، محاولًا إقناعه:

كل ما أريده منك يا «أخضر» أن أنسحب من اسمك، وأذهب للقاء حبيبتى «الفاء»، فنصير معًا فخًّا نصطاد ما نشاء من لحظات السعادة حسنة الظن الهائمة فى الفضاء. 

يرفض «الأخضر» الطلب ويرد معترضًا: وماذا سأصير من دونك؟ لن أصير أخضر، وسيذهب لونى، ولا يوجد لون اسمه «أضر» دعنا على هيئتنا، أنا أخضر وأنت حرف فى لونى.

يعترض «الخاء»، ويصر على أن يسحب نفسه من اللون الأخضر، ويتصارعا، فيقعان معًا فى النهر الجارى الواقع تحت الجسر الواصل بين مملكتَى الحروف والألوان، وفى الماء تنفرط حروف «الأخضر»، فتطفو «الراء» على سطح النهر، ويحاول «الخاء» السباحة نحو الشاطئ، وتعلق «الضاد» بجزء من حجر الجسر، بينما يقف «الألف» حزينًا يقاوم الغرق!

ويظل أنس ينظر فى الماء، وليلى مندهشة تتابع، ويظهر فجأة على جانبى النهر جنود من مملكة الحروف، فى مواجهة جنود من مملكة الألوان، ويرفع قائد جند الحروف صوته مهددًا: هذا أول خلاف بين المملكتين، لقد انهار السلام القائم على التكامل بيننا منذ آلاف السنين، وعلى مملكة الألوان أن تعتذر. 

ليرد قائد جند الألوان شاهرًا راية العداء السوداء: حرف «الخاء» هو من بدأ الصراع، وعلى مملكة الحروف أن تعتذر. 

فأشاح قائد جند الحروف بوجهه وقال: هذا أمر لا يحسمه إلا جلالة الملك «ألف» وجلالة الملكة «باء». 

وزمجر قائد مملكة الألوان وقال: وهذا أمر لا يحسمه إلا جلالة الملك «أبيض» وجلالة الملكة «ذهبية».

رفع الجنود على الناحيتين أسلحتهم، واشتعل الجو بالغضب المكتوم.

يزداد رعب أنس وليلى، ويتجمدان فى مكانهما حتى لا يلمحهما أى جندى من الجيشين اللذين يبدآن فى السير المنتظم الإيقاع، كل جيش إلى داخل مملكته، من أجل رفع الأمر إلى الملكين والملكتين. 

ويبتعد الصوت، ويختفى الجيشان عن الأنظار، ويحل الصمت والهدوء، وأنس وليلى يحاولان التخفى خلف صف الأشجار المؤدى إلى الجسر الفاصل بين المملكتين، وفجأة تعلو الموسيقى العذبة، فيلتفتان معًا نحو مصدر الصوت. 

كان هناك مركب من موسيقى يمر من تحت الجسر، مركب على هيئة حروف موسيقية تشكل جسم المركب، وتجلس فى مقدمته ملكة شديدة الجمال تبتسم، وتتحول ابتسامتها إلى موسيقى تخرج من فمها، وتصل إلى أذنى ليلى وأنس فيفرحان، وإلى جوار الملكة يصطف عدد من الخدم على هيئة آلات موسيقية: العود، والقانون، والكمان، بينما يقف الكونترباص وإلى جواره التشيلُّو شامخين فى مقدمة المركب، يتلفتان للحراسة.

ويسبح الفلوت فى الهواء بجوار الملكة التى يجلس أمامها بيانو لطيف على أرجله الأربع، وتعزف أصابعه دون لمس، ثم تنطلق الموسيقى المتكاملة من الجميع فى كل أرجاء المكان، وتفتح المركب فمها مُنطلقة فى الغناء:

• نحن جنود الملكة «لحن»

• نمرح فى مملكة الموسيقى

• تَسمعنا تعرف من نحن

• فتطير الروح مع الموسيقى

• نحن جنود الملكة «لحن»

• ملكة مملكة الموسيقى

• نحن جنود الملكة «لحن»

• نسكن فى نهر الأنهار

• نعزف أحلى الألحان

• نحن جنود الملكة «لحن»

• بين الحرف وبين اللون

• نحمى الملكة ونغنى

• لا نعرف أبدًا معنى الحزن

• نحن جنود الملكة «لحن»

• ملكة مملكة الموسيقى

تصمت الموسيقى وتنظر نحو النهر فى حزن، وينظر لها الجميع فى تعاطف، بينما هى تحدق فى النهر، وتقول بنبرة مهمومة:

لقد حدث شىء حزين فى النهر، وبدأ الموج فى الشكوى، لقد تشاجر الحرف مع اللون، وتلك بداية لأحداث غير سعيدة.

انطفأت أنوار المركب، ولم يعد هناك إلا صوت حركة المركب فوق صفحة النهر، وبدأت المركب تقترب من مدخل قصر صغير، هو قصر الملكة «لحن»، وهو قصر فى وسط النهر على هيئة رمز «مفتاح صول»، وفتحت شرفات القصر وهبط من الشرفة سلم موسيقى، صعدت عليه الملكة «لحن» فى صمت.