الخميس 20 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مجنون أم كلثوم.. شريف صالح: «الست» أعظم مصرية فى القرن الـ20

حرف

- من آباء الحداثة المصرية والعربية ومثلها مثل إلهات الفراعنة والقديسات

- الست «خبزنا اليومى» و«ضرورة حياتية» ونالت نفحة سماوية قلما تُمنح لبشر

- عرفت كيف تصالح قصيدة شوقى الرصينة على أزجال بيرم الشعبية

- جمعت بين أدوار الشيخ زكريا الشرقية بقوالب عبدالوهاب الغربية 

رغم مرور 50 عامًا على رحيل «كوكب الشرق» أم كلثوم، ما زال حضورها وبهاؤها يتجاوز الزمن، ليظل صوتها وذكراها محفورين فى وجدان الأجيال المختلفة.

بالتزامن مع الذكرى الخمسين للرحيل، صدرت رواية جديدة، تحمل عنوان «مجانين أم كلثوم»، عن الدار المصرية اللبنانية، للكاتب صاحب القلم الرشيق شريف صالح، وهى عمل يستكشف علاقة الإنسان بالفن الأسطورى وأثره العابر للأجيال، من خلال تجربة «كوكب الشرق». «صالح» أحد هؤلاء الذين ارتبطت حياتهم بصوت «الست» منذ أكثر من 40 عامًا، ويعتبر أنها كانت ولا تزال «خبزه اليومى»، وترافقه أثناء القراءة والكتابة، وتمنحه الدفء فى الليالى الباردة، وتحرضه على الحب والهروب منه فى آنٍ واحد. «حرف» أجرت حوارًا مع شريف صالح، تحدث خلاله عن سر ارتباط الأجيال بأم كلثوم، والجديد الذى يقدمه فى روايته، وكيف يرى هذا التراث الفنى العظيم فى زمن يتغير فيه الذوق الموسيقى باستمرار.

■ من هم «مجانين أم كلثوم» الذين منحوك عنوان روايتك الأحدث؟

- أنا أول المجانين، يُقال إن الحب والجنون كانا صديقين فى زمن قديم ثم تشاجران، فأصيب الحب بالعمى، وذهبا إلى المحكمة التى أمرت الجنون بأن يقود الحب إلى الأبد، ففى كل حب شعرة جنون.

هذه الرواية عن أم كلثوم وليست عنها، لأنها مشغولة أكثر بجمهورها ومن وقعوا فى فخ الافتتان، كل من صاحوا وراءها «آه» وهتفوا «يا كريمة يا ست» و«عظمة على عظمة»، من يتوقفون أمام المقاهى كى يسمعوا «إنت عمرى» و«القلب يعشق كل جميل»، ومن يكتبون على التكاتك «أمل حياتى» و«أنساك دا كلام».

■ كُتبت ملايين الصفحات عن «كوكب الشرق».. فما الجديد فى روايتك؟

- لا أود أن أحكم بشىء معين، فهذه مهمة القراء والنقاد. لكن تصلنى يوميًا انطباعات رائعة ممن قرأوا الرواية، من نقاد كبار مثل الدكتور يسرى عبدالله والدكتور محمد عبدالباسط عيد، ومن القراء أيضًا، وهذا يعنى أنهم وجدوا جديدًا فى زاوية التناول يختلف عن كل ما سبق عنها. وفى ظنى أن أم كلثوم قارة أو محيط لا شطان له، ومازال هناك الكثير كى يُكتب عنها.

■ فى الإهداء أشرت إلى أن والدك ظل يحتفظ بزجاجة عطر أهدتها له أم كلثوم.. ما القصة؟

- كان أبى- رحمه الله- مثل آلاف المصريين الذين جاءوا فى لحظة قدرية صعبة، فقد التحق بالخدمة العسكرية سنة ١٩٦٤ واستمر فيها لسنة ١٩٧٣، فشهد «النكسة» و«الاستنزاف» وانتصار أكتوبر. ولأنه كان فى سلاح المهندسين العسكريين وجد نفسه دائمًا فى الصفوف الأمامية قريبًا من نيران العدو، ومكلفًا برصف الطرق وإعداد الجسور وتجهيز الأرض لمعركة النصر.

تلك السنوات كانت القصة الكبرى الوحيدة لأبى وظل يرددها دائمًا علىّ مثلما يحكيها لكل من يزورها. ورغم أنه كان جنديًا ريفيًا. لكن موقعه فى الجبهة جعله يروى لى مواقف جمعته ذات مرة بالفريق مدكور أبوالعز، وهو بلدياتنا من قرية تجاورنا، وفى مرة أخرى كان أبى يقود معدة عسكرية، وخلفه مباشرة «عبدالناصر» نفسه يتابع، وحين أدى له التحية قال له الرئيس «متشكرين يا ابنى».

من بين كل هذه القصص قصة زجاجة عطر ظل يحتفظ بها لسنوات طويلة، كانت هدية من أم كلثوم. كانت قصص أبى وما زالت ملهمة لى جدًا، وثرية بالتفاصيل السردية، وكم تمنيت تدوينها فى عمل روائى، وهو ما لم يحدث، فاكتفيت بإهداء هذه الرواية إليه، مع الإشارة لقصة زجاجة العطر.

■ تنشر «بوستات» كثيرة عن أم كلثوم.. هل جاءتك فكرة الرواية من هذه المنشورات؟

- لدىّ تصور بسيط عن فكرة الكتابة. ربما مارك توين هو من قال: «اكتب عما تعرف»، والشاعر الداغستانى العظيم رسول حمزاتوف طورها إلى: «اكتب عما تعرف. أما ما لا تعرفه فاقرأ عنه فى كتب غيرك».

بالنسبة لىّ مقولتى الخاصة هى: «اكتب عما تحب». تلك حكمتى البسيطة فى الحياة. أحب أم كلثوم إنسانة وفنانة، فأحب أن أتكلم وأكتب «بوستات» عنها، وكثيرًا ما نصحنى الأصدقاء بنشرها فى كتاب. وظلت الفكرة تراودنى لسنوات، لكننى كنتُ حائرًا. ما الذى أضيفه إلى سيرتها المنشورة فى كتب، أو رصد أغانيها وشعرائها وملحنيها؟ وبعد تفكر أحسستُ أن كتابة رواية تستلهم منها أفضل من كتب سيرة لا تقدم جديدًا. قبل ١٠ أشهر تقريبًا، قررت إنجاز المشروع آملًا أن يتزامن مع ذكراها الخمسين.

■ كيف ربطت الذاتى بالتوثيقى فى كتابة سيرتها؟

- ساعدنى فى هذا الربط أن الرواية نفسها سردية مُركَبة ما بين استلهام محطات من حياة «الست»، ثم تحليل بعض أغانيها، والتعليق عليها وربطها بسياق عصرها، ثم ربط هذين الجانبين بالتخييل الروائى المرتبط بسير جمهورها عبر نماذج خيالية، كيف يتفاعلون معها، كيف يحافظون على استمرار وخلود صوتها وحضورها.

لجأت إلى حيلة قديمة مُستلهَمة من كتب التراث، ونادرًا ما نراها فى الروايات، وهى تقسيم الرواية إلى متن سردى، وحاشية طولية موازية تضيف للنص معلومات وثائقية، أو تضخ مزيدًا من القصص الهامشية عن عشاقها ومحبيها.

■ هل يمكن أن تحدثنا أكثر عن بطل روايتك «جلال عبدالفتاح عاشور» وعلاقته بـ«الست»؟

- «جلال» بطل الرواية مسه سحر أم كلثوم وهو طفل فى الصف الأول الإعدادى، واكتشف أن أمه مهووسة بها، ترتدى فساتين مثل فساتينها، وتحتفظ بتسريحة شعرها، وكأنه عاش مع أم نسخة مغشوشة من «الست»، ثم انضم فى شبابه إلى جمعية شبه سرية للحفاظ على تراثها، رفقة مجموعة شخصيات غريبة الأطوار نسبيًا.

فى خط موازٍ، حاول «جلال» أن يطبق الحب الذى تعلمه من أغانيها فى حياته الواقعية عبر أكثر من علاقة عاطفية. وبطريقة ما يمثلنى وهو يتحدث عن علاقاته وحبه لـ«الست»، ووجهة نظره فى أغانيها.

■ هناك خط خاص بالمجانين غريبى الأطوار، ولقاء شهرى يقيمونه فى فيلا القبطان لسماع أغانيها، وكأنه استعادة رمزية لحفلها الشهرى الذى كان موعدًا مقدسًا للملايين.. لماذا غاب هذا المشهد بغياب بطلته؟

- لأنه يستحيل تكرارها بكل الجمال والكمال الذى قدمته. أم كلثوم لم تكن مجرد مغنية تقدم حفلة، أو تسعى من أجل «سبوبة»، بل هى فنانة أداء من الطراز الفريد، تصول وتجول بصوتها على خشبة المسرح.

يكفى أن نعود إلى ارتجالاتها وتفاريدها وتفاعلها الحى مع جمهورها، حتى وصلت بعض أغانيها، مثل «فكرونى» أو «إنت عمرى» لقرابة ٣ ساعات، فمن يملك مثلها تلك القدرة الإعجازية لأداء أغنية واحدة لـ٣ ساعات؟! ومن يستطيع السيطرة على أذواق الملايين المتناقضة لنصف قرن، ظلت خلالها متربعة على القمة؟ عصر كامل من الغناء انتهى بغياب جسدها، لتظل كما وصفها العقاد «كوكب مثل الشمس فى السماء لا تتعدد».

■ فى الرواية أيضًا إشارة إلى دورها التاريخى فى دعم المجهود الحربى.. كيف ترى هذا الدور؟

- دور أم كلثوم أكثر اتساعًا وتعقيدًا مما قدمته من تبرعات بعد النكسة، فرغم أنها طافت المدن المصرية والعواصم العربية، إلى جانب حفلة «الأولمبيا» الشهيرة فى باريس، ثم اتفقت على ٤ حفلات مماثلة فى الاتحاد السوفيتى، قبل أن تلغيها بسبب وفاة عبدالناصر قبل ساعات من موعد أول حفل، أرى أن دورها الحقيقى هو فى الاستنارة، فهى- فى رأيى- من آباء الحداثة المصرية والعربية.

أم كلثوم هى الصبية التى خلعت العقال الذكورى وكشفت عن شعرها، والشابة المتدينة المتحفظة التى لم تخجل أن تغنى للحب، وابنة ثورة ١٩١٩ بكل ما تعنيه الكلمة، قدمت دروسًا عملية وعظيمة للمرأة المصرية وهى تبدع وتتجلى وتقود، عرفت كيف تصالح قصيدة شوقى الرصينة على أزجال بيرم الشعبية، وأدوار الشيخ زكريا بكل شرقيتها على القوالب الغربية لعبدالوهاب، وقيم المدنية والحداثة مع روح امرأة متدينة.

هى من علمت نفسها بنفسها بمنتهى العصامية، وأتقنت أكثر من لغة، وباتت تُعدل على الملحنين والشعراء، ولم لا، وقد تعلمت العزف على العود ولحنت لنفسها أغنيتين!! وهى أيضًا مَن أدركت أسرار الشعر بفضل أحمد رامى وقراءة عشرات الدواوين.

■ وصفت صوت أم كلثوم بأنه «خبزك اليومى».. ماذا تعنى؟

- هذا صحيح تمامًا. أم كلثوم خبز أيامى وخبز أيام الملايين من محبيها، ممن يصدقون الحب ويعيشون به، ويألفون أغانيها وموسيقاها فى فضاء اليوم، تطل علينا من مقهى فى آخر الليل، أو من نافذة بعيدة فى زقاق معتم، أو حتى فى حفل زفاف قرر الـ«دى جى» أن يرقص الحضور على «ألف ليلة وليلة».

الخبز ضرورة الحياة ويموت الإنسان إذا لم يأكل، كذلك «الست» ضرورة حياتية، تُشعرنى بالأمان والونس عبر صوتها.

■ لاحظت أيضًا شغفك بزيارة الموالد وربط أم كلثوم بهذه الأجواء.. لماذا؟

- الموالد طقس فنى ودرامى يضخ الفرح والحب والفن والتسامح فى تصوراتنا الدينية، ومن السهل ربط أم كلثوم به على أكثر من مستوى، فهى أولًا نشأت وتربت فى تلك الأجواء، وبفضلها أتقنت الإنشاد الدينى، وأجادت التعبير باللغة العربية، وضبطت جهاز النطق وسعة النفس وقوة ومساحة الصوت لديها. هى باختصار ابنة المدرسة القرآنية الإنشادية المصرية، وهى مدرسة عظيمة لا جدال فى ذلك.

وعلى مستوى ثانٍ، كل أغانيها الدينية والعاطفية والوطنية تعبير مثالى عن الحب بكل صوره، والموالد كذلك كلها تعبير عن الحب، فالطبيعى أن يلتقى المساران ويتلاقحان. لذا ليس غريبًا أن نجد آلاف المداحين والمنشدين يركبون على ألحان أغانيها كلماتهم الصوفية. قبل أيام كنتُ فى مولد السيدة زينب وسمعت فى أكثر من حضرة إنشادًا على ألحان «هو صحيح الهوى غلاب» و«لسه فاكر قلبى يدى لك أمان» و«أهواك فى قربك وفى بعدك». وعلى مستوى ثالث، أنا من المؤمنين بالمكانة الروحية لأم كلثوم.

■ هل تعتقد أن جمهور الست هو من «أسطرها»؟

- بالتأكيد، لأن أم كلثوم ليست مطربة عظيمة فقط. فنحن لدينا أصوات عظيمة أحبها شخصيًا، مثل عبدالوهاب وفيروز وفريد وعبدالحليم وفايزة ونجاة، لكن أى مطرب مهما بلغت عظمته، ينكمش حضوره شيئًا فشيئًا عقب رحيله، ولا يتبقى منه سوى بضع أغنيات رائجة. لكن الوضع مع أم كلثوم مختلف، لأنها تشكل جزءًا من وجودنا اليومى فى العالم العربى، وكل عاشق لها يعيد إنتاجها ويؤلف عنها قصصًا ونوادر وحكايات، أى يخترع أم كلثوم خاصة به، ومن ملايين الجمهور تولدت ملايين النسخ لأم كلثوم لتجسد كلها معًا، ومهما بلغ تناقضها، أسطورة حية وخالدة خلود النيل والأهرامات.

■ لماذا تخطت ظاهرة أم كلثوم حاجز الزمن بهذه الطريقة؟

- أم كلثوم أعظم سيدة مصرية فى القرن العشرين، ولو اخترت أكثر ١٠ سيدات ملهمات لنا كمصريين، عبر ١٠ آلاف عام، سيكون فى مقدمتهن إيزيس وحتحور ومريم العدرا والسيدة زينب وأم كلثوم. كلهن تجليات للأسطورة الأمومية المشكلة للذات المصرية، والنقطة التى انطلقت منها وتأسست عليها هويتنا كمصريين ووعينا بذاتنا، فنحن شعب «أمومى». لم تكن صدفة عبثية أن تحمل أم كلثوم فى اسمها كلمة «أم»، فهى أم عظيمة من أمهات المصريين عبر العصور كافة. هذا سبب وجيه لكى تسكن فى الوجدان القومى بهذا الرسوخ.

يُضاف إلى ذلك أنها لعقود طويلة غنت لكل صور الحب، حب العشاق وحب الوطن وحب الدين، وكأنها تضع الذات القومية بكل أحوالها فى مدار الحب، والحب هو جوهر كل معنى نبيل وعظيم، وله غنت فتسيدت القلوب، أو كما قالت: «وفضلت أعيش فى قلوب الناس، وكل عاشق قلبى معاه».

■ لو رشحت للقراء أقرب أغانيها إلى قلبك، أو لو عاد بك الزمن لحضور حفلتها، فأى أغنية تختار؟

- يصعب اختزال أم كلثوم فى أغنية واحدة، وعن نفسى أحب لها الكثير من أغانيها فى كل المراحل، خاصة فى سن الشباب قبل أن يفقد صوتها لمعانه وقوته وتتراجع مساحته. من أدوارها القديمة أحب «إمتى الهوى» للشيخ زكريا أحمد، و«ليه تلاوعينى» و«إن كنت أسامح وأنسى الأسية» و«غلبت أصالح فى روحى» و«هلت ليالى القمر»، وبالتأكيد «رق الحبيب» درة التاج، و«سهران لوحدى» و«على بلد المحبوب ودينى».

أحب كل قصائدها الكبيرة: «ولد الهدى، سلوا قلبى، إلى عرفات الله، أراك عصى الدمع، قصة الأمس، هذه ليلتى، أغدًا ألقاك». لكن الأقرب إلى قلبى: «رباعيات الخيام» و«الأطلال». وطبعًا أحب كل أعمال بليغ وعبدالوهاب والموجى وسيد مكاوى رغم أنها قدمتها فى المرحلة الأخيرة لكن جمال الموسيقى عوض شيخوخة الصوت. ولو كنت أملك عجلة سحرية تعود بى عبر الزمن، لفضلت تطويرها كى نستعيد أم كلثوم نفسها لتقيم لنا حفلات غنائية إلى الأبد.

■ ما الصورة الخاصة بك عن كوكب الشرق؟

-  أراها «تجليًا إيزيسيًا»، مثل إلهات مصر القديمة والقديسات. لدىّ قناعة تامة بأنها لم تكن امرأة عادية، ولا مطربة عظيمة فقط. بل نالت نفحة سماوية قلما تُمنح لبشر، وإلا بم نفسر آلاف الموالد وحضرات الذكر وآلاف المنشدين يستحضرون أغانيها، ويركبون على موسيقاها المدائح النبوية والأناشيد الدينية؟ لا شىء مثل هذا يحدث مع أى مطرب آخر فى العالم كله.