الخميس 08 مايو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فصل من رواية «المنحاز.. سيرة عبدالواحد وابنه»

غلاف رواية المنحاز
غلاف رواية المنحاز

- باستْ «ضاوية» يده اليمنى الموشومة بمركب وطفل وقبّلها «عبدالواحد» بنشوة لم تحسّها من قبل

- الوحيد الذى لم ينشغل بأمر النغمتين والصرخة هو «عبدالواحد» الذى ضحك فى البداية وغنى أغنية

كانت «ضاوية» بغرفة المعاش، تعجن- تعبها- فى الطست المملوء بالدقيق. لمحها «عبدالواحد»، وهى واضعة ذيل جلبابها فى سروالها الداخلى، ترفع العجين لأعلى، وتخبطه بيديها، فيسمع صوت العجين الذى يُحبه منذ الصغر. كانت تعجن وهى منحنية. ولمّا تتعب، تفرد قامتها، وتتنفس بارتياح. «وعبدالواحد» فى وقفته- ما زال- يسترجع صورة أمه وهى تعجن. استفاق من شروده، وتركزتْ نظرته على بطن «ضاوية» المنفوخ. البطن التى بها حُلمه منذ سبعة أشهر، أو أكثر..

- شدّى حيلك!

- كله على الله.

وهرول «عبدالواحد» ناحيتها، وانحنى يساعدها فى حمل العجين، ونَقلِه إلى زاوية بعيدة عن باب الغرفة. نظرته «ضاوية» كما المرة الأولى، وأُعجبتْ بملامحه، وخلعتْ خرزتها الزرقاء، وطوّقتْ بها رقبته. هو الذى اشترى هذه الخرزة من السيد البدوى «مدد» وهو الذى يعرف سرّها. هى منّة منه، ومنّة له. وتذكرتْ الصُدفة السعيدة التى جعلتها بين ثنايا هذا الرجل الموسر والدافئ، وتمنتْ أن تظل كما هى الآن بكل ما تحسّه، وتنتفض من أجله.

باستْ «ضاوية» يده اليمنى الموشومة بمركب وطفل، وجبهته البيضاء الناعمة. وقبّلها «عبدالواحد» بنشوة لم تحسّها من قبل، ووضع يده اليمنى- وكلتا يديه يمين- فوق سُرتها، ورفع يديه، ونظر للسماء، وناجى الغيب: «يا الله! خلقت الخلق فى ستة أيام، وفى اليوم السابع نظرتهم، فكانت لهم هذه الحياة. مات لى ستة أولاد. يا الله!، انظرنى فى السابع»، وبكى على غير إرادة منه. مسحتْ «ضاوية» دموعه- التى لم ترها من قبل- بكفيها المرتعشتين، واسترضتْ عينيه، وباستهما، فجفّ ملح العين. وقالتْ وهى تحاول أن تتماسك، وتمسح دمعة هاربة من جفنها المكحول:

- ما لك؟

هزّ «عبدالواحد» رأسه، ومال بها إلى الخلف، فلمح صورة أخيه «صقر» المعلّقة على الجدار فى برواز قديم، وتعجب كيف أتت هذه الصورة من غرفة الجلوس إلى هنا. واستقرتْ عيناه على ملامح الصورة، كأنها لشخص غريب. وأخذ يتعرف عليها: عينان جاحظتان، وشفتان غليظتان، وشعر كث، غزير ومتشابك، وأنف مفلطح، وندوب كثيرة تزيّن كل الوجه. قال لنفسه: «هذا الوجه غير مريح على الإطلاق صَمَتَ «عبدالواحد» لحظة، ثم استرجع ما دار بينه وبين أخيه «صقر» منذ شهور..

- حرام عليك تخرب بيتى يا صقر.

- غيّر الزوجة.

- لا.

- غيّر الزوجة.

سَكَتَ «عبدالواحد»، وطأطأ رأسه، لمّا لمح أولاد أخيه يدورون حوله، و«صقر» مبتسم ابتسامة تفضح ما فى قلبه، ونظراته تتكلم عن نفسه بوقاحة مطلقة فى هذه اللحظة. كانت أُمنية «عبدالواحد» فى صرصار يحمل اسمه، ويُسكت صوت أخيه، ورغبته الخفية. بين لحظة وأخرى، ينظر «عبدالواحد» لأخيه بحنان بالغ، متوسلًا له ببعض الدموع، لكن «صقر» ينظره بنظرة تحثه على تبديل «ضاوية»، المرأة التى لا ذنب لها إلا موت أبنائها دون أن تدرى السبب!

كانت هذه لحظات ثقيلة عجز عن حملها «عبدالواحد»، فأراد أن يخرج النصف القذر من نفسه، فلم يقدر. كان يود أن يقول له: «اخرج من بيتى» لكنه لم يستطع. ما الذى منعه من تصرف كهذا؟ هل لأن أخاه هو النصف القذر الذى أراد أن يكونه؟ أم أنه لا يستطيع مواجهة نصفه القذر؟ هو فى الحقيقة، يحاول أن يتجمل، ويخفى عن نفسه هذا النصف الفاسد الذى إن ظهر له، وأدركه، سوف يتعامل معه بجدية، ويكون له طريق للحياة، يكسب به. كان «عبدالواحد» عاجزًا عن مواجهة أخيه، أو مواجهة نفسه، وهو يرى أخاه «صقر» يشير لأولاده بالحضور خلسة، ثم يدورون حوله، تصحبهم الجلبة والضوضاء المتعمدة..

- هه يا عبدالواحد؟

ما زال «عبدالواحد» فى عبوسه، والصمت قد يبس أعضاءه، والضيق قد حلّ بصدره..

- خلاص! غيّر العتبة.

- الاثنين نار يا صقر.

- أنت حرّ. 

ومضى «صقر» مرددًا بعض الشتائم التى لم يسمعها «عبدالواحد». موت أولاده الستة، جعل أخاه «صقر» ينهشه، حتى إنه لم يتبق له غير الأمل «آه يا صقر، تريد زوجتى بعدما أصبحت لى الابن. يا صغير السن، استرضيتك بما فيه الكفاية، وأنت كما أنت مع رغبتك الأولى وضدى. تستنزفنى وأنا راضٍ، فأنت ابنى إن لم يأت الولد، وأنت أخى إن جاء. ليس لى ذنب: غير أن ضاوية اختارتنى، ولم أعلم رغبتك فيها إلا بعد موتاى الستة، فكن رحيمًا بى، وبنفسك!» خرج «عبدالواحد» يجر قدميه وحسرته، معلنًا لربه عجزه، وقلة حيلته. وطيور سوداء تخرج من نفسه، تمنع رؤيته للأشياء على حقيقتها. وظلت عيناه ترطبان جسده الموشوم برعشة خفيفة، وملح عينيه له رائحة نفاذة، شمّها أصحابه فى آخر الليل..

- ما لك؟

قرب الفجر، حكى «عبدالواحد» ما دار بينه وبين أخيه..

- اقتله

طأطأ رأسه ولم يرد، وغلبته نهنهة البكاء لأول مرة، وانهار تمامًا. التم أصحابه حوله مشفقين، حتى استفاق..

- خلاص! غيّر العتبة، وابعد عنه.

وقرر «عبدالواحد» أنه سوف يترك البلدة فى أقرب فرصة «يا ابن أمى، أعلنت رغبتك الخفية للخلائق، فلا تطلب منى سترها. أنا الذى زوجتك بمالى، واطلعت على خفاياك الحقيرة، حتى أنجبت أولادك الثلاثة» تذكر «عبدالواحد» كل ذلك، لما رأى صورة أخيه «صقر» تستقبله فى كل مكان يذهب إليه، ومسح دموعه، ونظر لبطن «ضاوية»، وقال:

- تعالى يا ضاوية، ندارى على الحُلم.

وفرشا أياديهما المرتعشة فوق البطن المنفوخة بالحُلم والكابوس.

- إياك تكون ابن موت!

لم ترد «ضاوية» عليه، وبسملت، وتعوذت من الشيطان، وخافت على رزقها ورزق «عبدالواحد»، وفركت بطنها بأناملها المخضبة بالدقيق، والتعب. ويد «عبدالواحد» تخاطب نصف شكها، ونصف يقينها. ثم أزاحت نفسها من اليد المتلصصة على بطنها، وجلست خلف صورة «صقر»، واستكان الرأس الثقيل ليدها، ولمحها «عبدالواحد» تتمتم بشىء ما «لن تحترق بسرّى يا ابن بطنى. فقط، خائفة منك، وعليك. منذ مدة، وأنا أشرب مرارة موت أولادى، فربما تنزل دون أن أحس بك.. أنت الحضور والغياب، والرهان بين أبيك وأخيه، وأمك تريد أبيك. أعرف. لا فرق بين حضن وحضن. ما جدوى الاختيار إذن إن لم أختر عبدالواحد. اخترت أباك دون أن يعرف برغبة أخيه، وخبأت عنه وعن أهلى السر، فرجح كفتى، وثبت عرش أمك وأبيك».

لم يعشق «عبدالواحد» المدينة، ولم يعشق الترحال. هى فقط النصيحة، وقد نفذها على مضض، تاركًا حزن موتاه. بداية جديدة يودها أن تكتمل بالمولود الآتى عن قريب.

نقل «عبدالواحد» بعض «عفشه» لمنزل الحاجة «أم كُبّارة».. عند تقاطع شارعى الحاج سليم وشارع البربرى بكفر الزيات، وقد استأجره بعشرين قرشًا فى الشهر. «ضاوية» هى آخر ما حاول نَقلِه. كانت تتوجع، وهو يساعدها فى نقل خطواتها الواهنة ناحية الحنطور المنتظر، الذى يبعد مسافة قليلة. حملها، وألقاها بهدوء..

- آه.

- اصبرى يا ضاوية.

- الطلق خلاص.

- فى البيت الجديد.

وصرخت صرخة قوية، فقفز «عبدالواحد»، ومسك لجام الحصان، ورمى ما فى جيبه من نقود معدنية، فانكفأ صاحب الحنطور على الأرض، يفتش بيديه، ويلمح النقود فى العتمة، ونظر إلى «عبدالواحد»، وقال فى نفسه: «مجنون» وقبل أن يلم النقود التى عدّها، داسته عربته. «وعبدالواحد» وحيد مع حُلمه، ماسكًا لجام الحصان بقوة. حمحم الحصان الأبيض، والهواء يكشح ما بين الفخذين. و«ضاوية» لا تستطيع ستّر نفسها فى هذه اللحظة الفاصلة. والكون الواسع، ينظر إليها بشفقة، والنجوم القليلة ترمى بنورها الفضى على نصف جسدها العارى، المبلول بسوائل لزجة «بين وعينا، وعدم إدراكنا، تكون حقيقة الموت، وحقيقة الولادة. الحاضر الآن عُرى، وألم ضاوية نصف عُرى، وأمل عبدالواحد النصف الآخر» نظر «عبدالواحد» للخلف، ورأى بقع الضوء تقع على نصف جسدها العارى، فشدّ «تندة» الحنطور لأسفل، لاعنًا كل شىء. وعند وصوله إلى البيت الجديد، كانت «ضاوية» فاقدة الوعى تمامًا. والكلمة التى سمعها «عبدالواحد» بوضوح فى منتصف الطريق: «أمى» وأم ضاوية قد ماتت من زمن بعيد. وكان رأس الوليد ظاهرًا للعين. ارتجف قلبه، ومسك لجام الحصان الأبيض مرة أخرى، عائدًا من حيث أتى.

كان صاحب الحنطور يدلك قدمه الوارمة قليلًا، وظل جالسًا فى العتمة. لم يتحرك من مكانه، ولازمه اليقين بأن «عبدالواحد» سيعود سريعًا، فلم يخبط على دار «عبدالواحد» الخاوية كما يظن، أو أى دار حتى لا يُزعج أحدًا. وحين رأى بياضًا فى العتمة، أدرك أن حصانه قادم. وقبل أن يسمع الحمحمة، شمّ رائحة حصانه الآتية مع نسمة خفيفة قرب الفجر. ولما سمع الحمحمة- كأنها موسيقى عذبة، يعشقها كل حين- قام على وجع قدميه، وتعكز على نفسه بصعوبة، وسار خطوات قليلة، حتى أصبح وجهًا لوجه مع «عبدالواحد»..

- يا بركة دعاء الوالدين.

قالها صاحب الحنطور، وهرول يستقبل حصانه الأبيض بمودة. بينه وبين الحصان تاريخ طويل من الفرح والحزن. وقبل أن يصبح «عبدالواحد» أمام صاحب الحنطور، كان قد لمحه رافعًا كفه للسماء..

- حرام عليك!

رد صاحب الحنطور بصوت هامس، وهو منكس الرأس، كأنما يحدّث نفسه:

- ربنا كسرك...

ولف حول الحنطور يطمئن على العربة والحصان، وهو يتألم من قدمه. مسك «عبدالواحد» رأس الرجل وقبّلها، وقال:

- أنت رجل مبروك! سامحنى، وادعو لى.

ورمى كبشة نقود ورقية داخل الحنطور.

- أستغفر الله!

قال صاحب الحنطور، ومضى رافعًا كفه بالدعاء الصافى، والأخضر.

جلبة الحنطور، وأنات «ضاوية» المتقطعة، أخرجت النسوة أمام البيوت. وحمحمة الحصان الأبيض، أعلن للرجال قدوم عبدالواحد و«ضاوية». وقبل أن ينزل «عبدالواحد» من الحنطور، كان «صقر» حاملًا «ضاوية»، داخلًا بها غرفتها «أنا موتك، وأنت حياتى. آه يا ضاوية، واقف على بابك من زمان. حى بنار رغبتى الأولى» ووقف «صقر» أمام باب غرفتها، ضامًا ذراعيه بقوة، كأن «ضاوية» ما زالت فى حضنه. شاهد «عبدالواحد» أخاه يحمل «ضاوية» بلهفة وخوف شديد، وأدرك الرغبة الأولى التى لم تمت عند أخيه. هى كانت بحضنه منذ قليل. لم يلمسها «صقر» مطلقًا. هذه هى المرة الأولى. لو كانت «ضاوية» بوعيها، للطمته بقوة، وأزاحته بعيدًا. كان «عبدالواحد» يبعد الغيرة والشك عن قلبه، وقال لنفسه: «جسدها الآن ميت! والرغبة لا تأتى إلا مع جسد حى يعرف ما يريد»، ومشى بتؤدة حتى وصل إلى باب غرفتها، ولمح أخاه واقفًا كتمثال. فتح «عبدالواحد» باب غرفتها، ودخل. لا يستطيع «صقر» الدخول. والنسوة يتحلقن حول «ضاوية»، فتبسم بصفاء، مدركًا أن «ضاوية» له، فى صحوها أو منامها.

امتلأ صحن البيت الواسع بأولاد البلدة، وجلس الرجال الكٌثّر تحت تعريشة العنب التى ينفذ منها الضوء الفضى، والنسوة يساعدن القابلة «أم الفار» بالدعاء، أو تسخين الماء «ولد صغير خفى وظاهر، يخاطب عالمين بأعضائه الطرية. وامرأة مستسلمة. أعضاؤها مشاع لعين النسوة، وصرختها دعاء مستجاب. ورجال عالقون مع عبدالواحد. والولد ما زال يحسم أمره: وجود أم عدم؟» انجرحت هامات الرجال من تعريشة العنب، لمّا صرخت «ضاوية» صرختها الأخيرة. وقامت «ضاوية» كامرأة عفيّة، ولود، بعدما لمست لحم وليدها الطرى، وبعدما انفض من حولها الجمع الزائد عن حاجتها الآن، حتى القابلة التى أخذت أُجرتها مقدمًا.

بعد صرخة «ضاوية» الأخيرة، ارتفعت نغمة حزينة من مزمار بلدى. لا أحد فى هذه الناحية يملك مزمارًا. استجاب الخلق للنغمة منصتين، وبكوا. الناس جميعًا فى هذه اللحظة يعرفون- بإحساسهم الداخلى- أن هذه النغمة الحزينة نغمته هو دون غيره. وبعد أن تطاير رذاذ العيون، ارتفعت نغمة مفرحة وراقصة. على الفور، استجاب الخلق مرة أخرى للنغمة، وراحوا يرقصون بشدة حتى أعياهم الرقص، ونسوا على الفور البكاء، وما كان ينز من أعينهم منذ لحظات، وتبادل الجميع النكات والضحك. هم لا يعرفون سببًا للضحك أوالبكاء، ولم يسألوا أنفسهم قط. فقط، استجابوا بأحاسيسهم الفطرية للنغمتين. هل كان المولود توًا هو الضحك والبكاء معًا؟ ربما، لكن الأكيد أنه البكاء والضحك لأبيه «عبد الواحد»، ولأمه «ضاوية».

بعد أن استراح الناس من الضحك والبكاء، ونفضوا أنفسهم منه، كانت الصرخة القوية. انتفض على إثرها الكل، وتخبطت الأجساد بالأجساد، واحتمت بها. كانت صرخة، كأنها لوحش خرافى. ما من أحد لم يسمع النغمتين والصرخة القوية «من أين تأتى الأصوات الممسوسة هذه؟ من جُب العدم، أم من مغارة الخوف؟» أعياهم السؤال، وانكمشوا، وأصبحوا كومة واحدة من لحم مرتعش.

قال عجوز قد أكله الزمن قطعة.. قطعة، ولم يتبق له غير قليل من السمع، وقليل من الكلام..

- زمان وأنا صغير، سمعت النغمتين والصرخة من بيت الدلجمونى.

كان العجوز يتمتم بهذه الكلمات القليلة، وهو يتوكأ على سنين عمره التى شارفتْ على المائة وخمسين عامًا، وكانت الرءوس تلتصق بفمه الذى ينطق هذه الكلمات بصعوبة، كصعوبة ما يعيش عليه هذا العجوز.

العيون تلتقى ببعضها البعض، ولا تجد إجابة كافية، فتسعى راكبة جواد تطفلها، تبحث عن مصدر النغمتين والصرخة، وتنتعل الأقدام خوفها المستتر، وتسير ملتصقة ببعضها بعضًا مرغمة، وكانوا قد رموا رواية العجوز، وكلماته التى نطقها بصعوبة.

الوحيد الذى لم ينشغل بأمر النغمتين والصرخة هو «عبدالواحد» الذى ضحك فى البداية، وغنى أغنية، ورقص على أنغامها، ثم أعياه الرقص فجلس على الأرض وبكى بشدة، ومن ثم راح يطمئن على وليده، على فترات قريبة.