عزة سلطان: الكُتّاب «أبناء الشقاء» ولا خلاص لهم ما دامت الحياة

- لا «كتالوج» للكتابة وليس بالضرورة أن ما نكتبه تجرية شخصية
- حزينة لأننى أعيش حقبة تاريخية فيها من يُحرِم الثقافة والفنون
- الصعاب والعثرات هى التى تصنع التحدى وتثرى الخيال وتخلق الإبداع
- الحظ عامل لا يمكن إغفاله عند الحديث عن الجوائز الأدبية
«فى مجموعتى القصصية الأخيرة، كنت أفكر مثل بطلاتى، حتى إننى كنت أبكى معهن، التقيت بهن وشعرت بأننى لا بد أن أحكى عنهن».. بهذه الكلمات عبرت الروائية والقاصة عزة سلطان عن الدافع الذى ساقها لكتابة مجموعتها القصصية الأخيرة «حافة رطبة»، لتستكمل بذلك مشوارًا طويلًا لكاتبة متعددة المواهب، قدمت فيه للمكتبة العربية أكثر من 15 عملًا روائيًا وقصصيًا، إلى جانب إبداعات متعددة للأطفال والناشئة.
بدأت عزة سلطان الكتابة فى سن صغيرة كى تعبر عن نفسها، فى مواجهة «التنمر» الذى تعرضت له آنذاك بسبب نحافتها، وبحة صوتها التى تزداد أحيانًا فتخنق الكلمات فى حلقها، ومع خوفها من الكلام جراء ذلك، كانت تختفى فى الكتب وخلف الورق، لتقودها الكتابة بعد ذلك نحو الجمال والسلام النفسى، وتسمح لها بالتحليق كطائرة ورقية.
عن هذه النظرة إلى الكتابة، ومشوارها الطويل وآخر محطاته «حافة رطبة»، وغيرها من المحطات الأخرى، يدور حوار «حرف» التالى مع الكاتبة عزة سلطان.

■ ما دوافع كتابتك لمجموعتك القصصية الأخيرة «حافة رطبة»؟
- حين أتحدث عن دوافع الكتابة، أرى أن أى كاتب تحركه دومًا «لقطة»، ربما هنا تجربتى الأولى فى العمل والإقامة ببلد آخر، فهذا إحساس مختلف، خاصة مع تبدل الكثير من السلوكيات. إقامتى فى هذا البلد تُغير السردية وطريقة الرؤية، فأنا لا أشاهد القشور، بل أذهب إلى العمق. حين تكون فى عمق المدينة، أى مدينة، ستشهد «لقطات» متتالية لباحثين وباحثات عن العمل، فتقف عند هذه الصور وتفكر: ماذا لو أقف مكانه أو مكانها؟ ثم تقترب من مناطق قلق وغربة يعانيها هؤلاء الباحثون.
■ هل دائمًا ما تكون الدوافع لكتابة الأدب محطات واقعية أو أحداثًا تخص الكاتب؟
- لا يوجد «كتالوج» للكتابة، فهناك من يكتب عن شىء سمعه، أو فكرة خطرت فى باله وشغلته، وهناك من يحكى عن تجربة عاشها أو عاش جزءًا منها. الكتابة تحدث حين يقوم المبدع بالفعل، وليس بالضرورة أن يعيش الكاتب التجربة التى يكتب عنها، فهذه الصورة كثيرًا ما تدفع بنا إلى منطقة الدفاع عن أنفسنا، خاصة الكاتبات اللواتى يضطلعن لطرح قضايا أو إشكاليات ساخنة.
بشكل شخصى، وضعت فى هذا النفق أكثر من مرة، منها عندما صدر كتابى «أن تُحبى رجلًا متزوجًا»، فقد ظل البعض يتحدث أنها تجربتى الشخصية. كما أن مجموعتى الأخيرة، ولأنها تتحدث عن الغربة، يعتقد البعض أنها تجربتى، فهل على الكاتب أن يكتب فى بداية عمله قَسمًا أن كتابته ليست تجربة شخصية؟
وحتى مع التجارب الشخصية التى قد يسردها البعض، يلعب الخيال دورًا، تُصبح التجربة مجرد تكئة لبداية الكتابة. لذا أتمنى أن نتجاوز هذه الفكرة، ونتعامل مع العمل الإبداعى كونه منتجًا إبداعيًا، دون أن نجتهد فى إثبات نَسبه إلى تجربة المبدع الحياتية والشخصية.

■ تتأرجحين بين القصة والرواية.. أين تجدين نفسك وطموحاتك وخلاصك أكثر؟
- لا أجد أن هناك تأرجحًا، والموضوع وطريقة معالجته هو الذى يحدد شكل النوع الأدبى، فهناك موضوعات أو أفكار يكون خروجها فى نص شعرى هو الأفضل لها، وأحيانًا القصة أو الكتابة للأطفال أو السيناريو. إجمالًا، أنا أجد نفسى عندما أعبر عن أفكارى وقلقى أيًا كان شكل النوع الأدبى، فجميعها كتابة إبداعية.
■ هل ينتهى حلم الكاتب بالخلاص مع الانتهاء من كتابة نصه؟
- لا خلاص ما دامت الحياة مستمرة. بعد انتهاء النص يعترينى القلق حول جودته، وهل هى كتابة جيدة أم لا، وهذا يجعلنى أتوجه إلى أصدقائى الذين أثق فى رأيهم. وحتى مع تأكيدهم جودة النص، يستمر القلق، وما إن يخرج العمل إلى النور، حتى يأتى قلق جديد مرتبط بموضوع جديد، نحن أبناء الشقاء، ولا خلاص.

■ فى ظل الحروب والصراعات العالمية الحالية.. كيف ترين مستقبل الآداب والفنون؟
- حين أتابع شريط الأخبار، أو أمر ببعض السلوكيات لبعض الأفراد، أجدنى حزينة لأننى أعيش هذه الحقبة من التاريخ، حيث تصاعد اليمين الدينى المتطرف فى كثير من المناطق، مع تحريمه الثقافة والفنون. ورغم المقاومة من كثير من الفنانين والكُتاب وأصحاب الوعى، ننزلق نحو التفاهة والسطحية.
لكن بالنظر إلى التاريخ، فمثل هذه الحقب تعاقبت، وكان هناك أيضًا إبداع يُحكَى عنها. فقط علينا ألا ننظر إلى الجانب المُظلِم فقط. ولا يمكن أن نغفل كثيرًا من الإبداعات المميزة، سواء المكتوبة أو المرئية، فالصعاب والعثرات هى التى تصنع التحدى وتثرى الخيال وتخلق الإبداع.
■ هل هناك عتبات ما تتكئ عليها لجان التحكيم فى الجوائز المصرية العربية، أم هى اختيارات فنية؟
- الجوائز بشكل عام تعتمد على معايير أساسية تتحقق فى الفرز الأول، ثم تأتى ذائقة لجان التحكيم، التى تتغير من وقت إلى آخر، ومن ثم تتغير توجهات الجائزة. أحيانًا نسمع عن توجيهات من قبيل «الصوابية السياسية أو الاجتماعية». فى كل الأحوال على المبدع أن يخلص لعمله، لأن معايير الجوائز مختلفة ولا يمكن التكهن بها إلا قليلًا.
الكتابة مع وجود جائزة بعينها على مرمى نظر الكاتب لم تحقق نجاحًا، حتى من كتب ونجح فهو استثناء. على سبيل المثال، عندما فازت رواية «دروز بلجراد» للروائى المبدع ربيع جابر، نحى البعض لكتابة الرواية التاريخية، فهل كل من كتب فى هذا الصدد نال جائزة؟
أعتقد أن الصدق وجودة العمل وأيضًا الحظ يلعب دورًا، فهناك مبدعون رائعون لم ينالوا جوائز فهل هذا ينتقص من جمال ما يكتبون؟ لا أظن. حتى الروائيين الذين فازوا بجوائز، عندما تُراجِع أعمالهم تجد لديهم أعمالًا رائعة سبقت الجائزة وأخرى تلتها. من ثم أجد أن الحظ عامل لا يمكن إغفاله عند الحديث عن الجوائز.
■ أين تجدين طموحاتك بين سحر الصورة فى الدراما والسرد الإبداعى؟
- هذا سؤال صعب جدًا. لكننى لا أستطيع أن أنكر أننى أحب العمل للشاشة، فهى مساحة تحد مختلفة، وأعتقد أن شخصيتى وكتابتى تطورت كثيرًا بسبب العمل للشاشة، سواء الدراما أو صناعة الأفلام. لكننى أيضًا يمتلكنى الحنين إلى الكتابة الأدبية، التى أعبر خلالها عن أفكار وموضوعات تشغلنى.
العمل للشاشة مرهون بمشروعات بعينها وطلبات العملاء، والتحدى دومًا كيف يحدد الموضوع سلفًا، وتستطيع أن تبتكر وتبدع فى هذه المنطقة المحددة. ذات يوم فى إحدى المنصات أرسلوا لى فقرة من ٣ أسطر، لأكتب منها قصة ومعالجة درامية وأرسم الشخصيات، فكتبت الحلقة الأولى والمعالجة، ونالت إعجاب المسئولين عن المكان، وهذا أعطانى ثقة كبيرة، ثم تكررت التجربة. بغض النظر عن أن بعض المشروعات لم أستكملها لأسباب متنوعة، التجربة نفسها أسعدتنى.
إجمالًا يسعدنى أننى كتبت عشرات السيناريوهات لأفلام وثائقية، وكتبت أفلامًا روائية قصيرة، وشاركت فى كتابة مسلسلات ومشروعات درامية، آخرها قيد التنفيذ. عندما أرى اسمى على «تتر» العمل أشعر كأنى أتنفس، سعادة الإنجاز مثل فرحة الحصاد، فكوننا أبناء حضارة زراعية، تتداخل موروثاتنا فى أفكارنا وسلوكنا، سواء وعينا ذلك أم تسرب فى ردود فعل ومقولات.

■ هل هناك ثمة دوافع إبداعية أو حتى شخصية دفعتك لاختيارك عوالم الأدب والكتابة؟
- بدأت الكتابة فى سن صغيرة كى أعبر عن نفسى، إذ كنت أواجه التنمر لنحافتى وبحة صوتى التى تزداد أحيانًا فتخنق الكلمات فى حلقى، فصرت أخاف أن أتكلم، وصرت أختفى فى الكتب وخلف الورق، ثم اكتشفت أن الكتابة تقودنى نحو الجمال والسلام النفسى، وتكشف لى مناطق لا أعرفها فىّ أو فى العالم.
فى الكتابة أعيش حيوات عديدة، أترك لنفسى الخيال كطائرة ورقية تحلق بعيدًا، وأمسك بخيطها الذى يحملنى معه لأرى وأشعر بكثير من المشاعر. فى مجموعتى القصصية الأخيرة، كنت أفكر مثل بطلاتى، حتى إننى كنت أبكى، كنت أقابل بطلاتى وظلالهن، شعرت بأننى لا بد أن أحكى عنهن، فكتبت كى أتحرر من الوجع، وبات واضحًا لى أننى أكتب لأتصالح مع نفسى ومع العالم، وأعبر مناطق الوجع والحزن، فأنا أتعافى بالكتابة.
■ هل هناك «رمز» أو مثل آمنتِ أو تأثرتِ به فى عوالم الأدب والكتابات السردية؟
- كل منّا لديه رمز أو مثلٌ أعلى، فى كل مرحلة من حياتى لدىّ مثل أعلى ورمز. فى صغرى كنت مفتونة بعبدالحميد جودة السحار، وفى مرحلة أخرى بهاء طاهر وماركيز، ثم إبراهيم عبدالمجيد وميلان كونديرا. فى كل مرحلة أجدنى مفتونة أو مُعجَبة بكُتاب آخرين، سواء عربًا أو أجانب، وهو ما يدفع للتطور وتجاوز اللحظة إلى ما هو أفضل.
■ وهل هناك كاتبة أو كاتب تفضلينه أكثر من غيره؟
- كما أننى حزينة لأنى أعيش فى هذه الحقبة التى يُحرم فيها الفن والثقافة، أنا سعيدة لأنى أعيش فى حقبة بات العالم فيها قرية صغيرة بشكل حقيقى، فعن طريق الترجمات تعرفت إلى كُتاب صينيين وهنود، ومن كل دول العالم تقريبًا. كما عرفتنا الجوائز بالعديد من الكُتاب.
أجدنى أحب كثيرًا من الكُتاب، مثل الكاتبة الكويتية بثينة العيسى، والقاص المغربى أنيس الرافعى، والروائية المغربية عائشة البصرى، ومواطنتها الشاعرة إكرام عابدى، والكاتب البحرينى د. حسن مدن، والكاتب الليبى محمد النعاس، والكاتب العمانى زهران القاسمى، ومواطنه الكاتب سماء عيسى، ومواطنيهما الشاعر لبيد العامرى، والروائى السعودى محمد حسن علوان، ومواطنته الروائية رجاء العالم.
أحب الكاتبة اللبنانية نجوى بركات، والروائى السودانى حمور زيادة، ومواطنه أمير تاج السر، ومن الأردن الكاتب جلال برجس، والكاتب على العامرى، والكاتبة والفنانة التشكيلية تبارك الياسين، ومن الإمارات الكاتبة ميسون صقر، والكاتبة علياء الشمسى، والكاتبة صالحة عبيد، والكاتبة عائشة سلطان... الأسماء كثيرة، وأخشى أن أسهو عن أسماء مهمة. وفى مصر طبعًا هناك عشرات الأسماء التى أحب كتابتها.
ربما لو جاء هذا السؤال منذ ٢٠ عامًا كانت الإجابة ستقتصر على أسماء محددة، لأن الترجمة والجغرافيا حجبت عنا الكثير من الروعة، فمحدودية الترجمة حرمتنا من التعرف على إبداعات كثيرة، وهو ما لم يعد موجودًا الآن، خاصة مع التكنولوجيا ووسائل التواصل. بشكل عام، التفضيل المطلق غير متحقق، فأنا أقرأ عملًا مميزًا لأحد المبدعين أو المبدعات فأنحاز له، وآخذ فى قراءة ما يتيسر من أعماله، ثم أقرأ لكاتب آخر وهكذا. أعتقد من الصعب أن يفضل إنسان كل أعمال كاتب طيلة الوقت.

■ هل يمكن أن تحدثينا عن رحلتك وحصادك مع الكتابة للأطفال؟
- بدأت رحلة الكتابة للأطفال حين اقترح علىّ الصديق الشاعر والباحث مسعود شومان أن أتقدم بمجموعة قصصية لسلسلة «قطر الندى» التى تصدر من وزارة الثقافة. هذه التجربة ليست سهلة، فأن تكتب للأطفال يعنى أن تمتلك الخيال والوعى، وتضع عينيك على كل جملة تكتبها، فأنت تُشكل عقل طفل لا يملك ولا يعى الفرز والرفض، لذا أن تكتب معلومة خطأ فهذه كارثة، وأن تكتب لغة جافة ستدشن للقسوة. مع كل قصة أطفال أكتبها تزداد المسئولية، لكن الكتابة لهم ممتعة جدًا، والعمل مع الأطفال ملهم وواعد. كتبت «رحلة الحمامة العجيبة» و«الحيوانات المرحة» و«القطة تزور المدينة» و«لماذا أنا صغير».
توثقت علاقتى بالأطفال عندما أنجبت ابنى الذى كان ملهمًا لى جدًا فى كل مراحل عمره، منذ المجموعة القصصية «القطة تزور المدينة»، ثم «عصابة الصلصال» و«النور الهارب». كما كتبت للناشئة «حصة الكمبيوتر» و«بنات قريتنا» و«حروب وهمية» و«بطلة حقيقية»، وأسعدنى الحظ أن شاركت فى مشروع «رموز إفريقيا» فكتبت عن مانديلا وسنجور وجان ديفاسا نياما. بعدها انتقلت إلى مسار آخر هو تدريب الأطفال على الكتابة فى ورش إبداعية، ومع كل قصة يكتبها طفل سعادة لا توصف.
■ هل الكتابة للأطفال تحتاج إلى موهبة من نوع خاص؟
- الموهبة شرط أساسى فى أى عمل، فالسباك إذا امتلك موهبة أصبح عمله أفضل، وأى مهنة يكون صاحبها موهوبًا فهذا يقوده إلى التميز. لكن الموهبة كركيزة أساسية لا تكفى وحدها، فلابد أن يمتلك الكاتب إلى جانب موهبته مهارات أخرى، والكتابة للأطفال أكثر حساسية، فالكاتب عليه أن يراجع كل ما يكتب، ويدقق كل معلومة، ويفحص كل مشهد وصورة يكتبها، فيمكن أن يكتب صورة تترك أثرًا لا ينمحى فى الطفل، لذا كاتب قصص الأطفال عبئه ومسئوليته أكبر من أى كاتب آخر، فهو ليس فارس الخيال فقط، بل هو معلم وأب أو أم وصديق وقائد.