الأربعاء 25 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

صالح سليم.. آخر الثوار الرياضيين

صالح سليم
صالح سليم

- المايسترو رفع شعار «الأهلى فوق الجميع» داخل جدران نادى الأهلى فى مواجهة أبنائه

-  مختار التتش هو الأب الروحىواثنان لم يغفر لهما صالح سليم خيانته

-  كان من حسن حظى أن تقاطعت فى طفولتى وصباى مع المايسترو صالح سليم شخصيًا

- المملكة المتحدة أرادت تكريم والده فى «لندن» فاشترط التكريم هنا فى بلده

«السيرة والمذكرات» منطقتى المفضلة فى القراءة من صغرى، فيها وجدت سحر الحياة وسرها، جنونها وحكمتها، فرحها وغضبها، وأيضًا رضا الإنسان وتمرده، تجبره واستسلامه، توهجه وانطفاءه، وفى مساحات متباينة بين الواقع والخيال، الصدق والكذب، الزهو والتواضع، الحب والكره، الحلو والمر، قضيت الأيام والليالى وخاصة فى سنوات التكوين، فلم أجد سيرة ومذكرات المشاهير فى مختلف المجالات إلا قصص نجاح مُلهمة، بخلاف أنها جاءت دائمًا مدخلًا لقراءة دفتر أحوال البلد فى حياة صاحب السيرة أو المذكرات، كل هذا مَثل الدافع الأكبر نحو التخصص بالأساس فى هذا المجال وقتما أصبحت ناشرًا، وهنا فى «حرف» نفتح ملفًا نستعرض فيه بعضًا مما قرأت فى «السيرة والمذكرات». 

مرت أمس ذكرى وفاة المايسترو صالح سليم الثالثة والعشرون، وُلِد فى 11 سبتمبر 1930 وتُوفِى فى 6 مايو 2002 عن عمرٍ ناهز وقتها 72 عامًا بعد صراع مع سرطان الكبد استمر نحو 4 سنوات، والذكرى هذه المرة تواكب موسمًا هو الأسوأ لفريق كرة القدم بنادى الأهلى منذ سنوات، ومن واقع اتصال فريق الكرة بالملايين من مشجعيه الذين يمثل لهم نادى الأهلى واحدًا من أهم مقومات الإحساس بالحياة، فإن فريق الكرة دائمًا هو أهم معايير تقييم نجاح «الإدارة» فى نادى الأهلى سواء على مستوى مجلس إدارة النادى أو على مستوى جهاز كرة القدم، وهى المعايير التى تختلف تمامًا على مستوى الجمعية العمومية لأعضاء نادى الأهلى، فالأمر فيما يتعلق بهبوط مستوى فريق كرة القدم لا علاقة له بانتصارات الأهلى فى مختلف الألعاب الرياضية الأخرى أو التوسعات فى الأفرع والإنشاءات أو التنوع فى الخدمات المقدمة لأعضاء النادى أو خلافه على مستوى الأنشطة الاجتماعية، ولا يهبط مستوى فريق كرة القدم فى أى وقت بما يصاحبه من تخبط وعدم استقرار وخلافات داخل أروقة الأهلى أو فى مواجهة منظومة الكرة المصرية الخَرِبَة البالية، إلا وتستحضر جماهير الأهلى سيرة المايسترو صالح سليم.

السبعة الكبار

كان من حسن حظى أن تقاطعت فى طفولتى وصباى بمحض الصدف السعيدة جدًا مع المايسترو صالح سليم شخصيًا، كنت وقتها أتردد على نادى الأهلى بصحبة والدى- رحمة الله عليه- أحيانًا، وأصدقاء الطفولة أحيانًا أخرى، وبينما نجلس فى حديقة النادى أو نلعب فى أحد ملاعبه أو نحضر تدريب الفريق الأول أو إحدى مبارياته الودية باستاد مختار التتش، يظهر المايسترو بطلته الكاريزمية الآثرة، فلا تجد الجميع إلا ويقف انتباهًا مشدوهًا غافلًا عما كان يفعل يترقب تحركاته ونظراته، ولا أنسى من أجمل أيام حياتى يوم أن حضرت عن قرب داخل استاد مختار التتش واستراحاته وغرف الملابس به وسط عدد كبير من أبناء أعضاء نادى الأهلى يومًا رياضيًا حافلًا أقامه النادى لتكريم من أطلق عليهم «السبعة الكبار» وهم صالح سليم وطارق سليم ومحمود الجوهرى وطه إسماعيل وعادل هيكل ورفعت الفناجيلى وميمى الشربينى. كان هؤلاء النجوم قد اعتزلوا كرة القدم رسميًا بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧ بينما توقف النشاط الرياضى حتى عودته بعد انتصارات أكتوبر ١٩٧٣، وبعدها بسبع سنوات عام ١٩٨٠ أقام نادى الأهلى هذا اليوم الرياضى احتفالًا بنجومه السبعة الكبار وتوجه بإقامة مباراة بين قدامى لاعبيه المكرّمين وصحبة جيلهم من الأندية الأخرى وبين الفريق الأول وقتها، كان يومًا رياضيًا اجتماعيًا حافلًا بالحب والاحترام والروح الرياضية وخفة الظل ومتعة كرة القدم أيضًا، كان حدثًا أن نصحب هؤلاء النجوم الكبار لعدة ساعات على مدار اليوم وترك أثره بكل تأكيد فى طفل عمره نحو ١٠ سنوات، كان بداية ارتباطى نفسيًا وتأثرى لاحقًا فى مسار حياتى بشخص المايسترو صالح سليم، وخاصةً بعدما تخصصت مهنيًا فى مجال الإدارة، كان المايسترو أحد دوافع التخصص ومن الملهمين فى حياتى فيه بكل تأكيد.

إهدار نادر

بعد وفاة المايسترو صالح سليم بخمس سنوات، اقتنيت كتابًا هامًا جدًا بمجرد صدوره عام ٢٠٠٧ عن الشركة المصرية للتجارة والتوزيع وكيلًا عن شركة طابا جروب للإنتاج الثقافى، وما زلت أحتفظ به وأعود إليه كل حين وآخر، كتاب «صالح سليم.. آخر الثوار الرياضيين» لمؤلفه الناقد الرياضى شوقى حامد، وتصدرت غلافه صورة شهيرة للمايسترو رسمها الفنان عمرو فهمى، وفيه رصد المؤلف- بعدما اقترب منه فى سنواته الأخيرة- سيرة ومسيرة المايسترو على مدار ٥٠ عامًا فى ٢٧ فصلًا ونحو ٣٥٠ صفحة من القطع الكبير شملت ألبوم صور نادرة، وجدت الكتاب الضخم جادًا جدًا وقتها مقارنة بإصدارات رياضية عديدة كانت كفقاعات الهواء ولا تمنح معرفة أو ثقافة حقيقية، وهو- فى تقديرى- أفضل ما تناول قصة حياة الرجل الثرية الملهمة.اقرأ معى إهداء شوقى حامد فى أول الكتاب:

«إلى الملايين من جماهير الرياضة المصرية بمختلف انتماءاتها وأهوائها التى عشقت صالح سليم دون أن تعرفه حق المعرفة أو تعايشه كلاعب فذ وكابتن للأهلى والمنتخب لحقب زمنية طويلة، وإنما وجدت فيه ضالتها فى العثور على القدوة الصالحة، والمثل الطيب، الذى أصبح وجوده نادرًا فى ساحتنا القفراء، وترجمت هذا العشق وذاك الارتباط بإقبالها العارم على المشاركة فى جنازته وأداء واجب العزاء، فكرمت بهذا الإقبال المايسترو فى وفاته كما لم يُكَرَّم طوال حياته.

إلى هذه الجماهير أُهدى تلك السطور لإجلاء بعض جوانب العظمة فى هذه الشخصية الثرية التى حباها الله بمقومات فطرية، فصانها واغتنمها بل ونماها واستثمرها لدرجة جعلته قاسمًا مشتركًا فى كل النفوس وحظى من خلالها بمكانة منفردة فى كل القلوب، ونال من الاحترام والتبجيل والتوقير ما لم ينله قرين رياضى آخر، بل وربما تفوق بهذا الرصيد على الكثير من السياسيين والزعماء الذين أنزلهم الشعب المصرى منزلة سامية وخلدهم فى سجلات التاريخ الوطنى».

آل السعدنى فى حياته

جماهير الأهلى تعرف جيدًا مدى عشق الفنان الكبير صلاح السعدنى- رحمة الله عليه- لنادى الأهلى، وإلى أى مدى كان قريبًا من المايسترو صالح سليم، وهو ما دفع المؤلف إلى استكتاب صلاح السعدنى فى استهلالات الكتاب، وفيها حكى كواليس علاقة المايسترو بـ«الولد الشقى»، شقيقه الأكبر الكاتب الساخر الكبير محمود السعدنى، والتى ينطبق عليها المثل الشهير «ما محبة إلا بعد عداوة» كما حكى موقفًا يكشف جانبًا من رؤية صالح سليم وأسلوبه فى الإدارة. كتب صلاح السعدنى:

لم يصدق الكابتن صالح سليم معشوق جماهير الأهلى والكابتن الخلوق الوسيم، أن صلاح السعدنى الذى يملأ النادى حركةً ونشاطًا وبحثًا عن وسائل لدعم الفريق الأول فى فترة الكساد التى سادت الساحة بعد هزيمة يونيو ٦٧ هو شقيق الأستاذ محمود السعدنى زعيم المدافعين عن أندية الغلابة مع الكابتن نجيب المستكاوى خاصةً فريق الدراويش الذى يقوده الدرويشى الكبير المعلم عثمان أحمد عثمان، وكان الأستاذ محمود قد تفرغ ردحًا من الزمن لمهاجمة الأهلى والزمالك لصالح أندية الأقاليم وخصص جانبًا من انتقاداته لمهاجمة صالح سليم ومطالبته بالاعتزال، وحاولت إذابة الغضب المتراكم لدى «صالح» تجاه محمود السعدنى وأن أشرح موقفه الذى يرتكز على موقف سياسى مع ثورة يوليو وتعاطفًا مع «عبدالناصر» نصير الغلابة ضد المقتدرين، غير أن محاولاتى لم تفلح خاصةً مع انهماك «صالح» فى إعادة بناء الفريق متعاونًا مع الكابتن الوحش والكابتن الجوهرى وليظهر منه النجوم الأفذاذ أمثال الخطيب وعبده ويونس وزيزو وماهر والبطل وإكرامى وصفوت وعبدالغنى وربيع وغيرهم، وشاءت الأقدار أن يلتقيا- السعدنى وصالح- فى «لندن» فى منتصف السبعينيات، وصارت صداقة لا تحدها حدود للدرجة التى جعلت صالح يذهب لـ«لندن» بحثًا عن «السعدنى» وجلساته، وكان «السعدنى» بعد عودته لـ«القاهرة» فى الثمانينيات يبحث عن «صالح» وجاذبية شخصيته حتى إن «السعدنى» أقام فى «لندن» بجوار «صالح» فى مرضه الأخير بالرغم مما كان يعانيه من محنة المرض هو الآخر.

يستطرد صلاح السعدنى: توثقت علاقتى بـ«صالح» للدرجة التى دعانى لدخول قائمته الانتخابية لكننى اعتذرت ورشحت له أحد الأصدقاء من أيام الدراسة بـ«السعيدية» وكان شخصًا رائعًا وقياديًا متميزًا، ونجح المايسترو وقائمته وبعد عدة اجتماعات للمجلس الجديد قابلنى المايسترو قائلًا: «إيه الحكاية؟!.. صاحبك ده فى كل اجتماع يظل ناظرًا لى ليوافق من فوره على ما أقول!.. أنا مش عايز كده.. أنا عايز ناس تثرى المجلس وتثرينى شخصيًا بأفكار جديدة ننفذها معًا».. هكذا كان «صالح» يفهم القيادة الديمقراطية، الرأى والرأى الآخر، وتبنى رأى الأغلبية حتى لو كان ضد رأيه، وهكذا تكون حرية الفكر والعمل والقرار يا «صالح» يا «سليم».. وقد ملكت من صفات اسمك الكثير من «الصلاحية» و«السلامة».. هكذا كنت علمًا خفاقًا للعزة والكرامة، والتوهج الإنسانى والأخلاقى والرياضى، أثق وقد اقتربت منك لأكثر من ثلاثين عامًا أن الله سبحانه وتعالى قد أحبك، ومنحك من فضله الكثير، لذا زرع حبك فى قلوب الملايين الذين اقتربوا من عالمك، ولم ينالوا منه إلا المتابعة والمشاهدة والسمع ولو عن بعد، وتحية لهذا الجهد الإنسانى الإبداعى الذى بذله الصديق «شوقى» صاحب هذه المنظومة الرائعة.

الأب الروحى

حينما تستعرض حياة المايسترو صالح سليم منذ نشأته أخًا أكبر لثلاثة أشقاء صالح وعبدالوهاب وطارق، كانوا ثمرة ارتباط والده النابه رائد علم التخدير د. محمد سليم، الأستاذ بكلية طب قصر العينى، ووالدته السيدة زين الشرف عدنان غالب المعروفة بالشريفة زين، تجده نشأ وشب فى بيئة حاضنة أسهمت بلا شك فى تكوين شخصيته ورسم ملامحها، والمؤلف يطرح فى هذا رؤية خبراء علم الاجتماع والباحثين فى مجال العلوم السلوكية، من أن مسحة التناقض إن وجدت بين طرفى المعادلة الزوجية- الرجل والمرأة- تنتج ذرية تتسم غالبًا بتوازن الشخصية، كما أن «صالح» باعتباره الأخ الأكبر حظى بقدر أوفر من الاهتمام وجانب أعمق من الحنان والتف حوله كل أعضاء الأسرة، الأمر الذى رسخ فيه قدرًا أكبر من السوية ودرجة أبلغ من التوازن فى الشخصية، فبدا وديعًا بلا ترهل، هادئًا بلا افتعال، عطوفًا بلا تزيد، مقنعًا بلا تعصب، حاسمًا بلا عنف، حازمًا بلا إيذاء، قويًا بلا طغيان، مقتصدًا فى كلماته، نشيطًا فى حركاته، عزوفًا بلا تعقيد، ومن أجمل فصول الكتاب قصة زواج د. محمد سليم والشريفة زين، وقد حكى لى والدى- رحمة الله عليه- ضمن حكاويه الكثيرة عن صالح سليم وكان هو الآخر متيمًا بشخصه، أن المملكة المتحدة أرادت تكريم د. محمد سليم فى «لندن» باعتبار تفوقه فى مجال طب التخدير، وكانت مصر لا تزال تحت الحماية البريطانية، فما كان منه إلا أن اشترط أن ينال تكريمه هنا فى بلده مصر، وقد حدث بالفعل، من شابه أباه إذًا فما ظلم.

وبعد الأب الفعلى د. محمد سليم، تعدد نموذج الأب الروحى بكل صفاته القيادية الملهمة المؤثرة فى حياة صالح سليم، منهم أحمد حسنين باشا، رئيس الديوان الملكى، ورئيس مجلس إدارة نادى الأهلى، وقت انضمام صالح سليم شبلًا عام ١٩٤٤، د. نور الدين طراف، رئيس مجلس وزراء الوحدة المصرية السورية، فكرى أباظة باشا، يوسف الشريعى، أحمد عبود باشا، محمد بك مدكور، وعلى رأس المؤثرين فى حياة صالح سليم يأتى الكابتن مختار التتش، اللاعب الفذ المختار ضمن منتخب العالم لأداء بعض المباريات الإنسانية سنة ١٩٣٨، وكان قد تولى حال اعتزاله منصب مراقب النشاط الرياضى بنادى الأهلى والإشراف على فرق كرة القدم بالنادى بكل درجاتها وفئاتها، وكانت من حظوظ المايسترو أنه اقترب من «التتش» وتعلم منه دروس الحياة قبل أن يتقن على يديه مهارات الكرة والإدارة، عاش معه عدة مواقف رسخت داخله أساس ما سار عليه فيما بعد ضاربًا المثل والقدوة لاعبًا وقائدًا للفريق وإداريًا ورئيسًا لمجلس إدارة النادى، وكانت أولى نصائح مختار التتش له ناشئًا وقتما انضم لنادى الأهلى: «اجعل فانلة الأهلى قطعة منك ولونها هو لون دمائك». 

كتب شوقى حامد: تخطت العلاقة التى ربطت صالح سليم، وهو يرتقى درجات سلم الشهرة ويثبت أقدامه على بداية طريق المجد، بالكابتن مختار التتش حدود العلاقات الفنية لتصل إلى أبعاد وأغوار أقوى وأرسخ من التى تظلل الروابط بين التلميذ بأستاذه، حيث شعر «صالح» بأن هذا الأستاذ يستحق أن يكون أبًا أو حتى أخًا أكبر، فضلًا عن استحقاقه لأن يكون مثلًا يُحتذى فى الأخلاقيات قبل الفنيات وقدوة صالحة فى المبادئ قبل المهارات، كان «التتش» بالفعل مضرب المثل للجميع فى الإيثار وإنكار الذات والعفة والجرأة والصدق والعطاء، بالإضافة إلى قدراته الخاصة فى ابتكار الخطط والإبداع فى استنباط الأساليب وتفعيل الطرق والتقليل من الخطورة المقابلة وغير ذلك من أمور فنية كان «التتش» يبهر بها أقرانه من العاملين فى حقل التدريب قبل أبنائه الخاضعين لتوجيهاته الملتزمين بتعليماته. 

خيانة لم يغفرها المايسترو

كأى ناجح ومتفوق تفوقًا استثنائيًا فى مجاله، لم يسلم صالح سليم طوال مشواره الإدارى من الغيرة والتشكيك والمؤامرات، ورغم أن أعضاء نادى الأهلى ومدربيه ولاعبيه أحاطوه دائمًا بكل الثقة والود والاحترام والتقدير، فإن منافسيه- على قدر مكانتهم- لم يتوانوا يومًا عن مشاكسته ومشاغبته واختلاق العراقيل أمامه، ولم يكن سلاحه فى المواجهة فى أى وقت إلا ما آمن به من مبادئ وما وقر فى نفسه من قناعات وفى المقدمة منها جميعًا المصارحة والمكاشفة وتحمل مسئولية ما يتخذه من قرارات، وقبلها وبعدها نقاء سريرته قبل براءة ذمته ونظافة يديه، وقطعًا فإن شخصيته الكاريزمية الطاغية كانت دائمًا إطارًا فاعلًا فى إدارته للأمور فى أى وكل موقف أو أزمة، حتى إنه صرح علنًا بأنه لن يغفر أبدًا خيانة اثنين افترض ولاءهما طوال الوقت. يوثق شوقى حامد فى كتابه ما سمعه من المايسترو صالح سليم بنفسه: 

استمعت من الكابتن صالح أنه لن ينسى خيانة اثنين.. الأول عزت أبوالروس رفيق الدرب وزميل الملاعب عندما وعده بإبعاد اللاعبين عن الانتخابات يوم أن كان مديرًا للكرة ثم وجده يقودهم فيها ويوجههم إليها.. والثانى الكابتن محمود الجوهرى الذى شارك فى قيادة تمرد اللاعبين على ناديهم وأمدهم بالأموال والرعاية متصورًا أن بمقدوره دعم الثورة على النادى للى ذراع رجالاته وإخضاع هاماتهم.. وأكد «صالح» أنه لن يغفر للاثنين هذه الخيانة طوال حياته.. وأنه طالما بقى فى سدة الحكم ممسكًا بعصا القيادة.. فلن يكون للاثنين أى مواقع رسمية.. هكذا كان «صالح» يتسامح فى الأخطاء التى تُرتَكَب بحقه.. ولا يقبل أن يتغافل عن الأخطاء فى حق النادى.. يعتبرها من الأخطاء القاتلة التى تُسَجَل فى القائمة السوداء التى لا تتغير قتامتها بفعل التأثر من عوامل الزمن والتراث والتقادم.

كان الكابتن محمود الجوهرى مديرًا فنيًا للأهلى عام ١٩٨٥ وحسن حمدى مشرفًا على الكرة، وتأخرت بعض مستحقات اللاعبين، وجرى بينهم نوع من التذمر زاده اشتعالًا، تطوع «الجوهرى» بتوجيه اللاعبين إلى تصعيد تذمرهم حد التمرد، حتى إنه تحمل تكلفة إقامتهم فى فندق السلام بمصر الجديدة وتدريبهم فى ملاعب نادى الشمس القريب منه، والأمر كله حدث قبل مباراة الفريق الهامة فى كأس مصر أمام الزمالك المنافس التاريخى، وبالتزامن مع وجود صالح سليم فى «لندن» حيث فوض حسن حمدى فى إدارة الأزمة تفويضًا كاملًا، وإلى حد اتخاذ قرار جرىء بإقالة «الجوهرى» وإيقاف ١٦ لاعبًا هم قوام الفريق الأول بالكامل وكانوا من كبار نجوم الأهلى فى تاريخه، وعلى أن يمثل الأهلى فى مباراة القمة فريق الشباب بقيادة الكابتن هانى مصطفى، وحسب رواية الكابتن حسن حمدى الموثقة بالكتاب فقد هرع «الجوهرى» يطلب العفو والغفران، ويناشد المجلس إلغاء قراره بعدما تجاوز اللاعبون حدودهم معه ونعتوه بخيانتهم وحمّلوه مسئوليتهم، وإزاء تمسك حسن حمدى بموقفه تجاه اللاعبين، اكتفى المجلس بإسناد مهمة إدارة فريق الشباب فى المباراة لـ«الجوهرى» مهما كانت النتيجة، فكان أن أفرزت شجاعة رجالات الأهلى وانتصارهم له أولًا جيلًا جديدًا من اللاعبين أصبحوا نجومًا فيما بعد، فازوا يومها على كبار نجوم منافسهم التاريخى قبل أن يحوزوا البطولة فى النهاية، ولم يسع صالح سليم لركوب الموجة، لم ينسب شجاعة حسن حمدى إلى نفسه، بل أشاد بكل من تصدى للخطأ وسعى للإصلاح، ولام مجلس إدارة النادى على محاولاته إثناء «حمدى» عن قراره، مؤكدًا أن المتمردين خانوا الأمانة واستهانوا بالرسالة.

تضيق المساحة عن عرض جوانب من فصول الكتاب بالكامل، والتى لا تستعرض فقط سيرة المايسترو صالح سليم ورحلة خمسين عامًا من عمره قضاها بين جدران نادى الأهلى، بل توثق أيضًا لمحات عديدة من تاريخ الأهلى وكرة القدم فى مصر، وإن كنت قد انحزت فى عرضى لشخص المايسترو رجل الإدارة، فلأن إدارة الأهلى فى محنة هذه الأيام ونحن قبل أشهر قليلة من أولى بطولات كأس العالم للأندية فى ثوبها الجديد، والمنتظر إقامتها بالولايات المتحدة الأمريكية منتصف يونيو المقبل بمشاركة ٣٢ فريقًا لأول مرة، ولأن المايسترو صالح سليم بلا مبالغة أحد رواد الإدارة الرياضية فى مصر وليس فقط فى نادى الأهلى، حيث مثلت تجربته ثورة على روح الهواية والنمطية والعشوائية وتضارب المصالح وغيرها من أمراض منظومة الكرة المصرية المزمنة، حتى إنه طالما كان مُطالبًا بالترشح لرئاسة اتحاد الكرة المصرى وأيضًا الإفريقى، ولكن الأهلى كان دائمًا خياره أولًا وأخيرًا، وانحيازى فى العرض لرجل الإدارة لا ينفى بأى حال من الأحوال استعراض الكتاب الضخم الهام جدًا جوانب عديدة من حياة المايسترو صالح سليم وشخصيته وإنجازاته لاعبًا وقائدًا طوال عشرين عامًا قضاها بالفريق الأول لنادى الأهلى وأيضًا منتخب مصر، ولا يفوتنى تقدير جهد الناقد الرياضى الكبير شوقى حامد مؤلف الكتاب، وحسه وأسلوبه الأدبى الشيق الرشيق فى الرصد والحكى والتوثيق، ولعل ذكرى وفاة المايسترو جددت فرصة إلقاء الضوء على كتاب صدر منذ ١٨ عامًا ولم يأخذ حظوظه الكاملة من الأضواء بعد. 

وأخيرًا من الأهمية بمكان على ذكر محاسن الموتى، التأكيد على أن شعار صالح سليم الأشهر «الأهلى فوق الجميع» رفعه المايسترو عاليًا فى مواجهة الجميع داخل جدران الأهلى كلما عرضت أزمة أو منافسة انتخابية، تأسيسًا لرفع مصلحة الأهلى دائمًا فوق أى اعتبارات أو مصالح شخصية، ولا يتحمل الرجل- وسط مد تعصب غير مسبوق- ذنب إساءة استخدام شعاره خارج جدران الأهلى فى مواجهة منافسين أو مسئولين أو منظومة، فالأهلى فى سنواته الأخيرة لم يعد فوق الجميع حتى فى نفوس أبنائه والقائمين عليه.