«ثرثرة رجل طموح».. هتاف الصامتين تحت ركام الواقع

مجموعة محمد عبدالمطلب القصصية جراح مسكوت عنها تُروى بحبرٍ صادق
فى عالمٍ تغتاله الضوضاء، يظل الأدب هو ذلك الصوت الخافت الذى يصرخ: «أنا هنا!».. ومجموعة «ثرثرة رجل طموح» للأستاذ محمد عبدالمطلب ليست مجرد نصوص، بل جراح مسكوت عنها تُروى بحبرٍ من صدق. عبر قصص قصيرة وقصيرة جدًّا، ينسج الكاتب عالمًا من الاغتراب، والحنين، والقمع، حيث تتحول التفاصيل العابرة إلى استعاراتٍ لأوجاعٍ كبرى.

هنا، لا يوجد أبطال خارقون، بل أناس عاديون يُدفَنون أحياءً تحت ركام الواقع: رجل يُطرد من مطعم لأنه «فقير»، شيخٌ يعيش فى عشة بانتظار أولاده المغتربين، امرأة تُختزل إلى مجرد «حل» لمشكلة طفلٍ ضال... إنها قصص تمسك بتلابيب القلب، وتنطق بلسان الصامتين، تهتف: هذا أنت، وهؤلاء أنتم، وهذا كل مِنّا حين يُحاصَر بالوحدة أو الظلم.
حين يكون الغريبُ عدوًّا، فى قصة «المنفى»، يدخل الرجل إلى مطعم فاخر، لكن النظرات تنهال عليه كسهام: «كيف تسلل إلى هنا... من الذى سمح له بالدخول؟».
إنها ليست مجرد استفهامات، بل إعلانٌ عن طبقيةٍ مقيتة. الرجل الذى لا يملك مالًا كافيًا يُعامَل كـ«حشرة»، ثم يُلقى به خارجًا ليتحول إلى «نفاية» بشرية. المشهد يُذكّرنا بمقاطع من روايات دوستويفسكى، حيث الفقر جريمة، والوجود إثم!
الأمر يتكرر فى «الغربة»، حيث الشيخ العجوز الذى «لا يريد إلا الستر»، يعيش فى عشةٍ من البوص، بينما أولاده فى الغربة. الكاتب يرسم مأساة جيلٍ كامل:

«أريد أن أبنى البيت بارتفاع مترين فقط، وأخاف من سقف العشة فقد يهبط منه ثعبان ينهى عمرى»، العبارة لا تتحدث عن سقفٍ مادى، بل عن سقف الكرامة الذى يتهدّم.
تمتاز مجموعة القاص بكونها ذاكرة حية، تأريخًا للنفس البشرية فى ظل ظرفها التاريخى والإنسانى، وإنما يتأتى ذلك من عمق الفكر، مع تأمل الواقع، فلم ينسحب المثقف متقوقعًا داخل دفتى كتاب، لا يرى خارجه، ولم ينسق وراء العامة، ويحذو حذو الرائج.
فى نص «نداء الطين»، يجلس الرجل عند شاهد قبر عائلته، بينما النساء بالسواد «كالأشباح». هنا، الحزن ليس شعورًا، بل طقسًا يوميًّا: «والقلب يسع العالم وهو لا يسعنا».
الطين، العظام، والأشباح... كلها رموزٌ لذاكرة الجسد التى لا تموت. حتى اللغة تصير حنينًا: القرآن الذى «أبقت عليه الذاكرة»، والأعشاب التى تنمو فوق القبور كعلاماتٍ على بقاء الحياة.
أما فى «ثرثرة رجل طموح» (النص الرئيسى)، يصير الحنين جرحًا نازفًا: «يؤلمنى أنى لم أنشد الأغنية التى أدندنها فى أحلامى».
الرجل الطموح الذى أراد أن يرسم لوحته، أو يكتب قصيدته، يكتشف أن الزمن سرق أحلامه، تاركًا إياه يحمل «بقايا اللون الأخضر» على أنامله كذكرى وحيدة.
فى نصه المكثف «مهمة»، يسخر الكاتب من القمع العسكرى: «اكتشفت أن المدينة كلها مباحة لهم... فلم أجد أمامى سوى مرحاض عام!».
لكن حتى هناك، يلاحقه الجندى: «إننى فى خدمتك يا سيدى!». السخرية السوداء تكشف كيف يُختزل الوطن إلى ثكنة عسكرية.
وفى «إمحاء»، يصير القمع أكثر وحشية: «العصى الغليظة المنهالة على أبداننا، وتصلب الأصابع حول القضبان الحديدية الباردة».
الكلمات تُقرأ كشهادةٍ على زمن الاعتقالات، حيث «صلاح» (الصديق المفقود) يصير مجرد شبحٍ فى ذاكرة الجماعة.
ولكن.. النساء فى المجموعة القصصية أشبه بظلال: فمثلًا فى «احتفال»، تُختزل المرأة إلى «حلّ» لمشكلة الطفل الضال، وكأن وجودها مشروطٌ بدور الأمومة. وفى «ثرثرة رجل طموح»، زينب هى الملاذ الأخير للرجل، لكنها أيضًا ضحية: «أغمضت عينى لأن نظرتها ستقتلنى... نظرتها التى غمست عمرى فى المودة والحب».
الكاتب لا يقدّم نساءً ضعيفات، بل ضحايا لنظام أبوى (ذكورى) يحوّلهن إلى أشباح فى شقق ضيقة، أو أجسادٍ مُستَخدمة.
عبدالمطلب لا يقدّم إجابات، بل يصوّر السقوط: فى «الرجل الأبيض»، يُرفض الرجل لأن حياته «كل صفحاتها بيضاء»، وكأن النقاء ذاته جريمة!
فى قصة «حالة»، تتحول اللقاءات إلى كوابيس: تمساحٌ فى النيل، ذئابٌ فى الصحراء، حتى الحب يصير فى «لزوجة جلد ثعبان».
لكن وسط هذا العدم، تبقى شعلة مقاومة: «سيأتى يوم نعرف فيه طعم الابتسامة، سيأتى يوم يصير زمام الأمور فى أصابعنا»

الكتابة كفعل مقاومة
«ثرثرة رجل طموح» ليست مجرد كلمات، بل صرخةٌ ضد الصمت. عبدالمطلب يكتب بأسلوبٍ يجمع بين شعرية محفوظ ورمزية ماركيز، لكن بصوته الخاص. فاللغة ليست أداة اعتباطية المفردات، بقدر ما هى منمنمات ورسم دقيق، أو تفصيلة من لوحة، لا يمكن الاستغناء عنها، أو نغمة موسيقية فى أوركسترا، لا احتمال ولو ضئيل لارتعاشة الريشة فى يد العازف.
وفى الوقت نفسه لا زيادة أو جملة يجوز الاستغناء عنها، فالمبدع الذى احترف فن القصة ولم يقايضه بكتب الشعر، ولا بالرواية مهما كانت سوقها رائجة، يؤمن بالقاعدة التى تقول: «ما يمكن الاستغناء عنه؛ يجب حذفه».
هنا، كل قصة هى مرآة نرى فيها وجوهنا الخوف من أن نصير «حشرات» مثل رجل «المنفى».. اليأس من أن تُحبط أحلامنا، مثل بطل «ثرثرة رجل طموح».
وفى النهاية، يظل السؤال: هل يمكن للكتابة أن تنقذنا؟
ربما الإجابة فى «بقايا اللون الأخضر» العالقة على الأصابع.. إشارةٌ إلى أن الأمل، رغم شحوبه، لم يمت بعد.

هذه المجموعة ليست للقراءة العابرة، بل للانغماس فى أعماقها. إنها دعوةٌ لأن نرى أنفسنا فى مرآة الوجع، ونكتشف أننا لسنا وحدنا.
بورتريه لمحمد عبدالمطلب:
محمد عبدالمطلب، أحد رواد القصة القصيرة والرواية، منذ أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، وله دور كبير فى إثراء الحركة الثقافية داخل محافظة سوهاج، التى تستقر بها، ولا يعدم صعيد مصر، شماله وجنوبه، من مشاركاته الفاعلة فى الندوات والمؤتمرات الأدبية.
عمل رئيسًا لنادى أدب محافظة سوهاج، وأيضًا لفرع الاتحاد لوسط وجنوب الصعيد، بجانب عضوية اتحاد كتاب مصر، وتتلمذ على يديه الكثير من الكتّاب الذين تميّزوا وتفرّدوا فى مجال الكتابة.
صدرت له «بيت قصير القامة» عن سلسلة أقلام الصحوة والكلمة الجديدة بالسويس عام ١٩٨١، و«مدن الأعمار القصيرة» عام ١٩٨٥، و«ثرثرة رجل طموح» العام ٢٠٠٢، وله كتاب مهم جدًا فى نقد الحركة الثقافية الروتينية والمؤتمرات الأدبية وهو «المؤتمرات الأدبية والحقائب الخاوية» بالاشتراك مع صديقه الراحل الناقد والقاص فاروق حسان، والأستاذ محمد محمود عثمان، أمده الله بالصحة والعافية.
وواصل عطاءه بتجربة تأسيس نادى أدب الطفل بقصر ثقافة الطفل، كما شارك فى العديد من المهرجانات الأدبية والمسابقات القصصية، ونُشرت قصصه فى مصر وكثير من البلاد العربية، ونال على إثرها عدة جوائز وشهادات تقدير.