يا عندليب ما تخافش من غنوتك.. إبداعات الجامعات (12)

يا عندليب ما تخافش من غنوتك
قول شكوتك واِحكى على بلوتك
الغنوة مش ح تموتك.. إنما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك!
فليسمح لنا صلاح جاهين بأن نستعير رباعيته الخالدة، ونحن نعود فى الزمن إلى أيامه، حين كانت الصحف قبلة المُبدعين، خاصة طلاب الجامعات، والدارسين فى مراحلها المتقدمة من ماجستير وغيره، الموهوبين فى كتابة الشعر والقصة والمسرح، والقادرين على سرقة الضحكة من فم الحزن بالكتابة الساخرة، وأيضًا أولئك الذين لديهم قدرة على نفخ الروح فى لوحة خشبية صماء، فتدب الحياة فى أوصالها لوحة تشكيلية أو رسم كاريكاتيرى يسحر الألباب والعقول.
جامعاتنا مليئة بالمواهب الإبداعية فى كل المجالات تقريبًا، من دون أى شك، لكنها فى نفس الوقت تعانى غياب ذلك «الصائغ»، الذى اعتدنا على وجوده فى مؤسساتنا الصحفية، بأنامله الخبيرة التى يمكنها إزاحة التراب عن لآلئ هذه الجامعات، من إبداعات تبحث عن فرصة للظهور، وأسماء لا نريد أن «يقتلها» التجاهل ويوقف مسيرتها، من قبل أن تبدأ.
فى هذه الزاوية من «حرف»، نمد يدنا إلى كل موهوب فى جامعات مصر، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، ننشر لهم إبداعاتهم فى الشعر والقصة والكتابة الساخرة، إلى جانب الفن التشكيلى والكاريكاتير، مُرددين ما قاله صلاح جاهين قبل سنوات طويلة: «يا عندليب ما تخافش من غنوتك».

هدى غازى: حارس القمر الشجاع

يصرخ: أين العالمُ؟
يصرخ: أين المدفأُ
أين الرحمةُ فى قلبِ الناسِ؟
يصرخ من وجعٍ فى معدته
من هزةِ أن لم يأكل من سنةٍ تقريبًا
قد فقد ذويه سريعًا دون ميعاد
يصرخ من هولِ الصدمةِ والأيامِ
من أن الناسَ اتفقوا على الخذلانِ
وتركوه ينامُ على الأرصفةِ
وفى الخيمةِ لهثًا
يركضُ وهو ينامُ من الرعبِ ويدَّثُرُ بجِلدِه
والخيمةُ غارقةٌ فى المأساةِ
يصرخُ من غيرِ صُواتٍ أو صوتٍ
لا طاقةَ للموتى مع الأحياءِ
لا قبل له بمواتِ الصمتِ!
__
طفلٌ.. ينتظر العالمُ منه
بطولةَ حراسَ القمرِ الشجعان
وعبورَ الصعبِ مع النفحاتِ
تكفيهم شحناتٌ خاويةٌ
يملؤها عارُ الصمتِ وعارُ العربِ!
وتدججُ «خزرائيلُ» عبواتَ الأكلِ
لينفجرَ الطفلُ ويتلاشى
ينشطرَ القلبُ عليكَ وليدي
كيف انهارَ الأملُ لديك بشربةِ ماءٍ..
أو أكلَ فتاتٍ كى تصمدَ للبردِ؟
كيف أنهرنا وتدهورنا بعدك؟!
__
رُح لرفاقِكَ فى الجنةِ
سبقوك جميعًا بعد المدرسةِ
أزهارًا راحوا يا ولدي
رحُ احضن أمَك مشتاقةَ تلقاك
جدَّتَك وجدَّك وأباك وكلّ أحبتِك
أرسِل من عندِك يا ولدى لعناتِ علينا
وخلاصًا للأرضِ ومن بقيَ من الأهلِ
__
يا لَتبجحنا.. ما زلنا نطلب منك
وأنت هناك!
لا ترجِع أدراجك يا ولدى
سامحنا.. سامحنى
لا طاقةَ للموتى والموتى!
آية الله محمد
نور محمد: ستون دقيقة حياة

مرَّت سنون مذ كانت آخر مرة عهدتُ فيها العالم، آخر مرَّة نظرتُ ما يخالف الظلام، أصابنى كُثر البقاء هنا بالتبلد، اعتيادى الظلام منحنى القدرة على الرؤية عبره، ولكننى لا أستطيع رؤية كلِّ شىء، فقط تلك الأفعى فى الزاوية المقابلة لى، وكأنها تنير فى عقلى.
من النوع الصغير الذى يقفز منقضًّا على فريسته؛ فيبث سمَّه الذى يمحوها من عداد الأحياء، تتحرك قاصدة كلَّ اتجاه، عدا ذاك الذى يقودها نحوى، أترقب كلَّ ثانية أن تكون التى ستنقض علىَّ فيها، لا أقدر على الهرب أو المواجهة؛ فمنذ وعيت هنا وأشعر بما يثقل ساقى ولا أستطيع تبيُّن كُنهه.
هناك تيار هواء يخفُّ أحيانًا وأحيانًا يقوى، وفى أوقات يختفى بالكامل، لا أفترش الأرض مع أننى أشعر بقربى الشديد منها، ربما هى إحدى الآرائك الأرضية المريحة، برغم أنِّى لا أشعر بالراحة تمامًا؛ هناك ما يخزُّ خصرى حدَّ إيلامى كلَّما تحركت، ولكننى اعتدت أن أبقى جسدى مصلبًا لأخفف من وقع الألم..
يزداد شعورى بالخطر مع كلِّ ثانية تمُرّ، أعتقد أنها حاستى السادسة أو إرادتى التى سلبها الخوف، فأصبحتُ له كـ«ماريونيت» تحكُمها الخيوط، هذا المكان أيًّا كانت ماهيته، أشعر به لم يعد يريدنى أكثر، وإن لم يكن سيتخلص منى عن طريق هذه الأفعى، فمؤكد سيكون له طريق آخر، أسمع صوتًا يأتى من عمق الظلام، «تيك توك».. الغرفة - وهو ما أطلقه عليها مجازًا- بدأت عدَّها التنازلى للفظى خارجها.
أعرف ولا أدرى كيف، هذه آخر ساعة لى على قيد الحياة!
٠٠:٠١
تدافعتْ أفكاره من داخله بقوة دفعتْ جسده للتغيير من وضعيته التى حفظه عليها لا يدرى منذ متى، حتى شعر بالتنميل يسرى فى أطرافه. تتحرك الأفعى حول موضعها، لهث جزعًا عندما رآها تتحرك أقرب إليه عما قبل، تتقلص المسافة بينهما، يزداد الألم فى خصره مع ارتجاف جسده، لا تستطيع أعصابه الحسِّية تحديد ماهية ما يضغط عليه، وقد ازداد الألم أضعاف ما كان سابقًا. إنَّ هذا الشىء يمُرّ عبر جلده ليُرشق فى لحمه؛ صرخ بعلوِّ ما يستطيع، ولكن كما كان الحال منذ البداية، لا يُسمع له صوت، يشتد به الألم حتى لم يعُد يحتمل، يشعر بجفنيه يتثاقلان حتى أطبقا على عينيه، ثم انسلَّ منه الوعى.
٠٠:١٣
ببطء يفتح عينيه، لم يشعر بالفرق، نفس الظلام إلا من تلكما البؤبؤين يضيئان بقعة بعينها، يشعر بهما يحدقان به، تقرِّب بينهما المسافات، يدنو منه صوت «تكَّات» عقارب الساعة، يدرك تقلص المدة المتبقية له، يأتيه وميض يخفت بعدها بثوانٍ عن حياته التى سبقت هذا المنفى، هل اختفى ألم خصره؟! صرخة لم يستطع كبتها ولم يتمكن من سماعها؛ لقد عاده الألم فور ذكره، وهو يتزايد بلا هوادة، زفر بقوة يحاول تجاهله، يركز حيث ومضت ذكرياته.
طالب فى الثانوية، لا.. هذا حفل تخرج جامعى، لا.. فهو ليس حفله، جامعة، ثانوية، أو حتى طفل فى الابتدائية، هذه التفاصيل لا تهم الآن، عائلته، أجل.. هذه الذكرى عنهم، يعمِّق تركيزه إليها، شجار، من هو من بين هؤلاء؟! هل هو الابن الذى يصرخ ببراءته؟ الأب الذى يعنفه؟ من الممكن أن يكون حتى الأم الباكية، لا يستطيع تبين ما يثبت إن كان ذكرًا أم أنثى، ما هذا الهدوء الذى يطرح به الأمر؟! إنه يتعرض لاحتمال فقدان هوية، احتمال؟!
عبدالرحمن بيبرس: القطر

فـ القطر
هتلاقى الباب تعبان جدًا
من كتر البص على الأحلام
هتلاقى القطر مهوش واعى
من شرب الناس.. قصدى الأوهام
هتلاقى غياب مليان بحضور
هتلاقى حضور أتمنى ينام
هتلاقى الناس مش شبه الناس
علشان التوهة بتتغير
وفـ ذات الوقت بيوصلهم
إنسان تكوينه زحام ورُكام
__
من هذا الواقع بحكيلكم
عن دنيا بتجمع دنيتنا
تفاصيلها بتشبه تفاصيلنا
حتى الأيام.. هى الأيام الناس دوشة
والسقف خلاص صدّع منهم
الدنيا بتخرج من عينهم
بتصيب العين اللى تشوفها
___
الحزن إن مر على الركاب
بينقى الكل بدون حاجز
واحد جايز
يعدى حوالى ١٠٠ مرة
يمد إيديه وميسلمش
يدّفع نورهم الباقى
عشان الباقى فِـ حياتهم
عشان برده ميتكلمش
___
فيه واحد تانى بيعدى
فِـ جيبه مراته وعياله
وصوته وشنطته وأمله
فِـ مين هيسد جوع باله!!
هتجرى عنيك على المشهد
شهادة هندسة وعلوم
بِتدَّن جمب كل الناس
كتاب لابنك وعسلية
هنا قلبك ماهوش واعى
وعقلك صفر ٪
___
هنا فـ القطر ناس ياما
بتضحك مرة عالشحات
ومرة عاللى نام ومقامش
ومرة عاللى نايم فوق
وتحت دماغه إيه مسألش
ساعات بتكون دموع باقية
وأحيانًا حمول الكهل
وجايز حد ساب البيت
وخبى فيها خوف الأهل
___
وهتلاقى ما بين الناس
صنم يشبه وطن ناقصه
رصيف وبيوت
وجواه ألف زنزانة
ونايم جوه عينه تابوت
وهتلاقى خلاف دايم ما بين اتنين
على ضربة جزاء مثلًا
على الكرسى يناسب مين
على فتوى لموت كافر وإنه شهيد
على الشمس اللى جات بالليل
صبحنا بقينا ليها عبيد
___
على القضبان
مكتوب قدرنا والنهاية لفين
تغيير مسارها الحَكَم
وإحنا اللى بين اتنين
إما الرصيف لحظة ما نحضن فيه
وإما اللى يحضن فينا قدر الله
القطر يندَه عن وصول مسعاه
وعينيك هتلمح وقتها
تعب البيبان أشبه بتعب البنت
هتلاقى كل شىء يثبت
إن الحياة مش زى ما اتعودت
وإن ف غياب العقل نعمة
لو تزول هيزول وراها العقل
وإن اصطدام البشر ع الباب
كان اختبار مش سهل
___
القطر لما بيرتجف قبل الوصول
هتشوف..!!
ست شايلة م الذنوب كام طفل
هتلاقى اللى باع سلعته
كان الوحيد اللى مباعش الحِمل
هتلاقى ناس حلمت بنور الشمس
والشمس سابت دورها يتبدل
هتلاقى سنين وقعت من حد
إوعاك تلمسها لتتبهدل
___
هتلاقى شاعر دوِّن التفاصيل
ناسى المحطة ورؤيته سابقاه
سبَقُه الجميع جواه.. محاولش يفصلهم
طال الطريق والرؤية والمُعاناة
ومازال فِـ حبره المعنى والرُصفان
سأله غريب: هو أنت نازل فين؟!
رد بهدوء:
نازل رصيف
مبينزلوش إنسان!
آية الله محمد


محمود التمساح: مِنْ مُذَكِّرَاتِ ابْنِ زَيْدُونَ

«مَاذَا؟».. وَصَمْتٌ صَاخِبٌ وَشُرُودُ
فِى ذِكْرَيَاتٍ كُلُّهُنَّ شُهُودٌ
مَاذَا جَرى وَ لِمَ جَرى، فِى قِصَّةٍ
نَحْكِى وَ نُنْهِى شَرْحَهَا وَ نُعِيدُ؟
يَا صَاحِبِىْ، وَقَفَ الْكَلَامُ عَلَى فَمِى
لَا فِيهِ تَعْبِيرٌ وَلَا تَمْهِيدُ
هَلْ كَانَ عَيْبًا قُرْبَنَا يَا صَاحِبِي
الِاقْتِرَابُ نِتَاجُهُ التَّبْعِيدُ؟!!
هَلْ كَانَ ذَنْبًا مَيْلُنَا- فِى غَفْلَةٍ
مِنْ قُبْحِنَا- حَيْثُ الْجَمَالُ يَمِيدُ
مَلَّ الرِّوَائِىُّ الرِّوَايَةَ، سَرْدُهَا
قَدْ طَالَ، أَعْجَزَ حَلَّهَا التَّعْقِيدُ
وَالْكُلُّ يَنْتَظِرُ النِّهَايَةَ- لَهْفَةً-
حَتَّى طغى مَلَلٌ وَشَاعَ بُرُودُ
أَبْطَالُ هَذَا «الْفِيلْمِ» لَمَّا يَنْتَهُوا
وَصِرَاعُهُمْ مُسْتَطْرَدٌ مَمدودُ
فلتُغْلِقُوا عَبَثَ السِّتَارِ
تَصَافَحُوا أَوْ فَاقْتُلُوا بَعْضًا
تَنَحَّوْا.. بِيَدُوا
لِلْآنَ لما يَفْهَمُوا مِنْ بَعْضِهِمْ
بَعْضًا، وَأَعْوَامٌ مَضَتْ وَعُقُودُ
قَدْ جَرَّبُوا بَعْضًا لِحَتَّى إَنَّهُمْ
صَوْتُ الرَّبَابَةِ -إِذْ بَكى- وَالْعُودُ
تَكْفِى تَجَارِبَهُمْ لِتُصْلِحَ مَا جَرى
لَوْ أَنَّ فِلَسْطِينَ هُمُ وَيَهُودُ
فَلَمَ الصِّرَاعِ وَكُلُّهُمْ مَنْ كُلُّهُمْ
عِلْمُ الْمُرَادِ، وَمَال حَيْثُ يُرِيدُ
يَا صَاحِبِى ، لَا وَقْتَ يَحْتَمِلُ الأسى
فَأَنَا وَأَنْتَ، مَصِيرُنَا مَحْدُودُ
بِى مِثْلَ خَوْفِكَ مِنْكَ، مِنِّى، آسِفًا
أُحَكِى، وَصَدْرِى هَدَّهُ التَّنْهِيدُ
وِلَادَةٌ، لَا تَتْرُكِينِى وَاسْمَعِى
لُغَةَ الْعُيُونِ، فَمَنْطِقِى مَعْقُودُ
لَا تَسْمَعِى فِيَّ الْوُشَاةَ، أَنَا أَنَا
لَا مَنْ بِهِ أَفْضى إِلَيْكِ حَسُودُ
لَا تُكْثِرِى الْأَشْعَارَ، أَبْلَغُ ح َالَةٍ
صَمْتُ الفتى فِى الْحَرْبِ
وَهُوَ شَهِيدُ
وَلَادَةٌ، قَالَ الْمُؤَرِّخُ: إنَّنَا
سَنَمُوتُ أَنْدَلُسيينِ ثُمَّ نَعُودُ
كَيْ يَقْرَأ الْعُشَّاقُ بَعْضَ غَرَامِنَا
وَ لِيَحْذِفُوا مِنْهُ هَوًى وَ يَزِيدُوا
فَلْنَقْتَلِ الْأَبْعَادَ يَا وَلَادَةُ
وَلِنَكْتُبِ التَّارِيخَ حَيْثُ نُرِيدُ
وَلِنَنْتَهِى مُتَعَانِقِينَ فَهَكَذَا
هَجَرُ الْوَدُودِ إِذَا ابْتَلَاهُ وَدُودُ
لَا تَحْذِفِى الْأَوْجَاعَ مِنْ أَشْوَاقِنَا
الشَّوْكُ يُخْبِرُ أَنَّ تِلْكَ وُرُودُ.