الإثنين 20 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

بهجة التفاصيل.. إبراهيم أصلان.. أن تمنح الأشياء إنسانيتها

إبراهيم أصلان
إبراهيم أصلان

للنصوص فتنة خاصة، ولأصحابها من قبيل إبراهيم أصلان فتنة مماثلة، صنع إبراهيم أصلان «٣ مارس ١٩٣٥ - ٧ يناير ٢٠١٢» سرديته اللافتة؛ وخلق منطقه الجمالى، وبدت تأثيراته فى الأجيال اللاحقة عميقة، وملهمة. وكان من بين أساتذة حقيقيين أفدت من وجودى بينهم فى لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة فى العام ٢٠٠٩، حين كان مقررها الأستاذ خيرى شلبى، وتضم نخبة لامعة من كبار الكتاب، والنقاد. رحلتان طويلتان نسبيًا من دار الأوبرا، حيث مقر المجلس، إلى جاردن سيتى، حيث مقر مكتب صحيفة الحياة اللندنية بالقاهرة «شارع رستم»، طلب منى أن أصحبه إلى هناك شريطة أن نسير على مهل؛ ولم يكن يعلم أننى كنت سأبطئ الخطى للإنصات إليه أكثر. كان إبراهيم أصلان رئيسًا للقسم الثقافى فى الصحيفة النخبوية، وكنت أحد كتابها فى الفترة ما بين ٢٠٠٧ وقبيل إغلاقها بقليل. 

وعلى الرغم من مضى أكثر من ١٢ عامًا على رحيل الكاتب الفذ فإن نصوصه الإبداعية لم تزل قابلة للقراءة المتجددة، والتأويل المستمر.

 

يمكنك أن تقرأ إبراهيم أصلان، أو خيرى شلبى مثلًا، وتقف على تباينات مختلفة بينهما، إلا أنك لا يمكنك أن تتخطى نصوصهما، فهذا الجيل «الستينيات» حمل فى عباءته المتسعة أصواتًا سردية منحت الأفق الإبداعى المصرى والعربى رحابة لا نهائية، فلم تكن كتلة واحدة، وإنما مثلت التنويعات السردية ملمحًا بارزًا له، ما بين جمالية اللغة عند بهاء طاهر، والتدفق الحكائى عند خيرى شلبى، وأنسنة التراث عند جمال الغيطانى، والكثافة التعبيرية عند محمد البساطى، وسردية المكان عند عبدالحكيم قاسم، وجدل الأيديولوجى والفنى عند يوسف القعيد، وهكذا.. فليس ثمة مسار واحد تعرفه الكتابة، ولا طريق أحادى يمكنها أن تسير فيه، بل إنها كانت وستظل بنتًا للتنوع والاختلاف، وإبراهيم أصلان أحد أهم المعبرين- وبجلاء- عن حيوية الاختلاف فى المشهد السردى المعاصر، غايته البساطة الآسرة، النافذة إلى جوهر العالم، والأشياء، والمتماسة مع متلقيها فى امتلاكها قوة الحضور داخل سيكولوجيته.

ولعل أول شىء يمكنك أن تتماس معه فى إبداع إبراهيم أصلان، عنايته الفائقة بالتفاصيل، وقدرته على صبغها بطابع إنسانى محض، طارحًا من خلالها الهامشى، والمعيش، قابضًا على جمر الكتابة المتقد، ومنطلقًا من المكان المحلى، متمثلًا فى الحى الشعبى «إمبابة/ الوراق/ الكيت كات» إلى أفق أكثر رحابة، يتسم بغناه الإنسانى، وقدرته البديعة على رصد التفاصيل الدقيقة والصغيرة، بدءًا من مجموعته القصصية الأولى «بحيرة المساء» والصادرة عام ١٩٧١، وصولًا إلى مجموعته «حجرتان وصالة» ٢٠١٠، وفيما بينهما ثمة تنويعات جمالية مختلفة تبلور المشروع السردى لأصلان، هذا المشروع الذى لا يمكن التعامل معه بوصفه مجرد منجز مميز فى مسار كتابة جيل الستينيات فى مصر، ولكن بوصفه أحد أهم المشاريع الإبداعية فى مسيرة الكتابة المصرية، والعربية.

تنهض كتابة إبراهيم أصلان على تكنيك الصورة السردية، حيث يمكنك أن تتخيل المقطع السردى تخيلًا بصريًا ضافيًا؛ ولذلك قدم إبراهيم أصلان فى نصوصه الروائية إمكانية ضافية لتقديم عمل سينمائى جيد، وهذا ما تحقق بالفعل فى روايته «مالك الحزين»، التى تحولت إلى فيلم «الكيت كات» برؤية إخراجية للمبدع داود عبدالسيد، وقد حوت الرواية توظيفًا لآليات السيناريو، والتقطيع المشهدى، فضلًا عن الاتكاء على عدد من الحكايا البسيطة التى تصنع فى مجموعها كلًا متراكبًا، ينحاز إلى إنسانية الإنسان، ولا شىء سواها، فالشيخ حسنى أو «صائد العميان» بتوصيف النص فى أحد أهم مقاطعه السردية، يصبح دليلًا للعميان وهو الكفيف مثلهم، ويتعرف على فرائسه عبر عبدالله «القهوجى» دليله المؤقت، الذى يوقفه على عتبات الضحايا الذين يمكن أن يتواطأ أحدهم معه، أو يكمل طريقه للنهاية، أو يفر ولا يعود إلى إمبابة أبدًا. هذه الفخاخ الناعمة تكتب برهافة وشجن، وسخرية لامعة، وعبر عينى الراوى الرئيسى تتآزر خيوط السرد ومكوناته من منظورات متععدة، ورؤى متباينة لشخوص واقفين على عتبات الحلم، والمحنة، والملهاة اليومية أيضًا.

أما يوسف النجار فيعد نموذجًا على تلك الشخصية المركبة، التى تزاحم انفعالاتها النفسية، وصمتها، حركتها الخارجية، ويبدو يوسف علامة على ذلك الاغتراب الشامل الذى ينفصل فيه الإنسان الفرد عن البنية الاجتماعية المحيطة به، وعلاقته بفاطمة تبدو مركبة هى الأخرى، فالفتاة التعسة لا تملك سوى الغواية ليوسف المحبط، والهرم بائع المخدرات فى المنطقة، الذى يظهر ويختفى، وهناك أيضًا الأسطى قدرى الإنجليزى، الذى عمل طيلة حياته مع الإنجليز، حتى اعتقد أنه ينتمى إلى المجتمع الإنجليزى بالفعل، على الرغم من أنه يسكن فى أحد أفقر الأحياء الشعبية، فى مفارقة ساخرة ومأساوية فى الآن نفسه، ومن ثم يصبح قدرى الإنجليزى بعد الجلاء منفصلًا عن واقعه، أما المعلم صبحى فهو التاجر الثرى الذى ينتظر شراء المقهى وهدمها ليبنى مكانها عمارة سكنية، مع ما يحمله السرد هنا من دلالات خاصة مع مركزية المقهى فى حياة كثير من شخوص الرواية الآخرين.

وفى روايته «عصافير النيل» التى أخرجها للسينما المبدع مجدى أحمد على، التى تعد تعبيرًا جماليًا عن جدل الحياة والموت، عبر عينى راويها الرئيسى المشغول بتحولات الزمن وتغيراته، هذا التحول الذى يضمر داخله تحولًا آخر خاصًا بالبشر، أولئك الذين كتبهم أصلان وعبر عنهم دون أن يصبحوا أبواقًا، أو مجرد ممثلين لوجهة نظر الكاتب، بل كانت لهم حركتهم الديناميكية فى المكان والزمان السرديين، وبما يمكننا من القول إن أصلان كان قابضًا على ذلك المنطق الديمقراطى للسرد، فى احتفائه بالتنوع، وتعدد زوايا النظر تجاه العالم، والأشياء، خاصة مع توظيفه للمكان، وإجادته للعب التقنى معه، فحوله إلى فضاء نفسى يسع أحلام الشخوص وهواجسهم، فى ظل عالم مملوء بالأسئلة، ورافض لكل الأجوبة الجاهزة، سؤاله الأساسى الحرية، تلك التى ظل أصلان باحثًا عنها، ساعيًا إلى تلمس جوهرها الثرى، لا عبر خطاب أدبى محمل بعبارات تقريرية مباشرة، وزاعقة، ولكن عبر مس شفيف، أداته التقنية الاقتصاد والتكثيف اللغوى على مستويى الأسلوب، والحدث السردى، فضلًا- وهذا هو الأهم- عن إعادة إنتاج العالم عبر النظر إليه من خلال رؤية جديدة تجاه الحياة بصخبها، وعنفها، وتغيرها المستمر.

يتجه أصلان دومًا إلى أنسنة الأشياء والأمكنة، فيجعل من شارع «فضل الله عثمان» مثلًا كيانًا إنسانيًا حاويًا بشرًا متنوعين، ففى مجموعته القصصية «حكايات من فضل الله عثمان» يتعامل إبراهيم أصلان مع الحكاية الحياتية بوصفها مادة خامًا يعيد تشكيلها وتطويعها، مضيفًا إليها من نفسه الخاص، بدءًا من اختياره الدال لها، وانحيازه إلى دقائقها الصغيرة، وعنايته بدلالتها الكلية، وصولًا إلى تصويرها بوصفها مادة متعينة يمكن تلمسها، وتنسم رائحتها، ولعل هذا- وباختصار- هو مناط الجدارة فى أعمال إبراهيم أصلان الإبداعية جميعها: «بحيرة المساء/ وردية ليل/ يوسف والرداء/ مالك الحزين/ عصافير النيل/ خلوة الغلبان/ حكايات من فضل الله عثمان/ حجرتان وصالة»، حيث يجعل المتلقى أمام حالة مدهشة من الاكتشاف المادى، والكشف الروحى فى آن: «تركت ما جمعت. مشيت بيدين خاليتين. اتجهت إلى هناك وأنا أعول على ما سوف يظنه بى، حين رأيته أمامى والضوء يرتجف فى الشجر العالى. كان يعبر نهر الشارع، وقد تفتق الثوب عن جسده الطالع. كان يأتى بطيئًا، فى يسراه قليل من عشب الشاطئ، وفى مكان ذراعه الخالية بقية من قماش، وفى عينيه اللتين أعرفهما، مزيد من الزهو، والكبرياء».

ثمة نزوع إلى السخرية فى نصوص إبراهيم أصلان، تتجاوز المعنى الظاهرى إلى دلالة أكثر عمقًا، ربما تصبح وجهًا آخر من وجوه المغالبة لقسوة الحياة، فى محاولة لاستنطاقها من جديد، وجعلها أكثر بهجة: «اطلع يا عم اطلع. والحاج يترك المسبحة تنزلق على ذراعه، ويتعلق بيديه فى عمود السرير، وينام بصدره على المراتب وهو يبحث برجله اليمنى عن الملة لكى يطلع عليها، لكن السرير يأخذه وينهار فجأة من وسطه، ويلقى نفسه وقع، والمراتب انطوت عليه هى والفراش والمخدات وعبدالعظيم من فوقها، والأعمدة خبطت فى الجدران وكسرت زجاج الشباك». ويمكن أن نلحظ هنا اللغة الأدائية ببعدها البصرى، التى تغاير اللغة الكلاسيكية العتيقة، حيث تتسم لغة أصلان أيضًا بتلك الرشاقة المنتظمة، وأفعال الحركة، التى منحتها حيوية خاصة من جهة، وأسهمت فى تكريس مفهوم المشهدية البصرية داخلها من جهة ثانية.

وبعد.. «أن تحكى شيئًا معناه أن تتوفر على شىء خاص لتقوله»، وهذا ما أدركه إبراهيم أصلان جيدًا، فكانت نصوصه السردية تعبيرًا خاصًا فى الأسلوب والتقنية والطروح الكامنة داخلها، وبما يجعلنا- وبجدارة- أمام قيمة فنية فى مسيرة السرد العربى، بوصفه أحد الذين أسهموا فى التكريس لسياق جديد من الكتابة، سياق مغاير، ومختلف، وحميم فى الآن نفسه.