الإثنين 20 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أسامة ريان يكتب: مرآتي اللعوب

أسامة ريان
أسامة ريان

أغلَقَتْ باب شقتهم خلفها برفق . . سارحة فيما حدث، بتلقائية اعتادتها مؤخرا، تركت الكيس الصغير على مائدة الصالة وأراحت عصاها الأبنوسية إلى ركن الباب، تغمغم في حيرة، تبرر خفقان دقات قلبها المفاجئ "غريبة ، ولم أنهج من الخمس درجات بالرغم من إسراعي . . !" تضحك بميوعة "أهرب منه . . ونسيت أبلع أقراص دواء الصبح" . سحبتها قدماها إلى غرفتها –غرفة البنات- وقد خلا المكان من الأحباب وأيضاً زوجها، رحمهم الله، واستقل عيالها، وجدت نفسها أمام المرآة كعادتها بعد أن تعود من مشوار المعاش. هذه المرة سارحة لا تنظر، تكمل غمغمتها: "قال عايز يبوسني ابن ال…"، تعالت ضحكتها، صمتت فجأة عندما طالعتها من المرآة عينان مكحولتان، وقحتان بحاجب أيسر مرتفع، مزجج بدقة مثل أخيه، تحتهما تتحرك شفتان مثقلتان بزبدة كاكاو وردية حديثة الاكتشاف، فرنت في أذنيها ضحكة ناعمة تخللها همس: "يا بت . . طيب عيني في عينك؟ بذمتك ما كنتيش ها ترمي نفسك في حضنه زي زمان؟ وتلفتي حولكما، واختشيتي من شوية عيال كانوا ع الناصية هناك ؟ طيب أفكرك بليلة خطوبتك على المرحوم ؟ " تلفتت حولها فزِعة، عادت عيناها إلى المرآة، تبينتها الآن بضفيرتيها السميكتين تتخللهما الشرائط الحمراء نارية، وكحل يثير المشرفة في طابورالصباح في ثانية ثانوي، تنهرها بينما تقفل لها أزرار البلوزة، وصوتها يرد على المشرفة بنعومة :" ده رباني يا ميس ، وأصلا الزرار  هيطق . .؛" لتتعالى ضحكات البنات، تتلفت حولها، لا أحد، تلمّست خطوتين إلى الأريكة بالجوار، مستغربة ثبات خطاها، جلست وعيناها على هذه اللعوب في جيبتها الرمادية، التي ضاقت فجأة مسببة حيرة أصابت الشارع كله، في عودتها من المدرسة برفقة زميلتها جارتهم عزة، محتضنة حقيبتها تسمع غناء بأصوات قبيحة حول ذلك الغزال الذي" يسبب زلزال". . يهتز برفق وحنية ! وتغمز لها عزة الناشفة بعينها اليسرى، تذكرها بما قالته لها الست الناظرة أثناء معاقبتها عقب طابور الصباح، وتفحُص البنات لبلوزتها وتعليقاتهن المصحوبة باللمسات عقب عودتها إلى الفصل. تمددت تريح ظهرها، سارحة بعينيها في السقف المرتفع، تشعر هنا بالراحة في بيتهم القديم ، بين الأرواح والحكايات ، ثم يظهر هذا الذي أطل عليها هذا الصباح فجأة بينما تستعد لعبور الشارع على مهل، لاتذكر ماذا قالت له ردا على تحية الصباح الهامسة وقد مال على أذنها، يقبض على كفها وعيناها تلتهمانه، لا ترى نظارته السميكة ولا صلعته المفاجئة، شاعت حولها رائحة عرقه بعد ماتش الكرة الشراب، تراقبهم يلعبون من شباك غرفتها بالدورالأرضي، كانت الشوارع هادئة، تهرع لفتح باب الشقة بعد أن ينتهي من لعب الكرة ، ومعها المكنسة، تهدده بأنها ستثير الغبار، فيحتضنها  خطفا هي والمكنسة ، ثم يتركها ويجري صاعدا إلى شقتهم بالدور الثالث .  تتأمله .. لكن فجأة سحبت يدها من كفه واستدارت تجري إلى مدخل بيتهما تغمغم "يا لهوي ، يا لهوي . . " فقد قال لها بنفس الصوت "لازم أبوسك . . ". 

التفتت رأسها ، لاتزال اللعينة تحملق فيها من المرآة ، بطبقات أكثف من زبدة الكاكاو ، وكانت اختراعا جديدا حينها ، بإعلان في التلفزيون الأبيض وأسود ، تغمز لها :"يا بت . . ده ياما لهط منهم زبدة الكاكاو ، وانتِ عاملة نفسك بتهربي ، وانت شابطة فيه ، وأكيد وحشته زبدتك بعد السنين دي كلها..". 

أدارت رأسها عن هذه الجميلة الشرسة ، تنظر إلى المائدة الصغيرة حيث كانت تجلس لتذاكر، تعلم أن بالدرج الوحيد عدة مجلات منذ تلك الأيام ، تركتها هنا لم تأخذها مع جهاز العروسة ، كان يواظب عليها “ونقرأ فيها معاً أحياناً على سلم السطوح ، ثم يتركها لي على أن أعيدها له ، ومرة في ساعة مغرب كنت أنشر غسيلنا ، لحقني ومعه المجلة فيها صور فيلم كليوباترا ، وبص لي وبسرعة أمسك بيدي . . رفعها وباسها ، وانا اترعشت وأخذت طبق الغسيل ونزلت جري ..".  

لم تهتم عندما أخبرتها أم أمل –بوابة البيت- أن أحد ورثة الشقة في الدورالثالث يحضر بانتظام ، فقد وصفته بأنه أصلع بنظارة سميكة، ودائما يرتدي بذلة ويحمل حقيبة ثقيلة ، لا تعرفهم أم أمل ، فقد جاءت والمرحوم زوجها لبوابة البيت بعد مغادرتهم ، وتحكي لي دائما عن دهشتها من هذه الشقة المغلقة دائما ، وتسبب لها المشكلات عندما يتعطل دفع فواتير الماء والكهرباء ، لكنها تحب التسلل إليها عندما يكون هناك صيانة، أو تصليح لمواسير المياه، أو أعمال نظافة كل عدة شهور. تتأمل بدهشة اللوحات على الجدران ، ومؤخرا قالت لي إن أحدهم جاء ليقيم فيها لفترات طويلة ، يترك لها الباب مواربا عندما تحضر له طلبات ، فتجده يقلب في الكتب الكثيرة في أرفف تغطي الجدران . استغربت عندما حكيتُ لها عن تفاصيل في هذه الشقة . 

سخرت مني عزة الناشفة عندما قلت لها تاني يوم في المدرسة "ده باس إيدي . ." ، رقعت ضحكة ، وشدت ازرار البلوزة وغزّتني بصباعها في جنبي :"ده باين عليه خيبان يا بت ، يسيب كل الحاجات دي ، ويبوس إيديك !" وبانت نظرات عينيها الصفرا . . ومن يومها وهو شابط في الحاجات دي . . في الطالعة والنازلة ، وبالليل لما اقول لأمي :"طالعة أجيب بلوزة المدرسة من الغسيل" ، ألاقيه قاعد ع السلم جنب باب السطح ومعاه المجلات ، وأنسى نفسي وهو بيحكي عن الروايات والأفلام وأشعار عجيبة ، يشرحها لأني مش فاهمة . . أتوه والاقيه حاضنني لأني كنت ها أقع ! جاء صوتها هامساً من المرآة :"وإيه كمان يا بت ، نسيتي ؟ يوم خطوبتك كان فوق منتظرك ، وأمك شايفاكِ لما قمتِ من جنب العريس ، وطلعتي جري تجرجري فستانك الابيض ، عشان تقولي له : خلاص . . إنسى !" . 

قامت متمهلة لتعد فنجان القهوة ، ولتبتعد عن هذه الشرسة التي تقلب عليها المواجع ، حتى التلفزيون القديم ينطق صباح اليوم ! تنظر إليه في مكانه على جدار الصالة الوسيعة والسجادة العتيقة ، وصوت المذيع "كابتن لطيف" يصف المباراة، يحب أبوها كرة القدم ويستضيف اولاد الجيران والأصحاب وفرقة الكرة الشراب ، يقنع أمي بلهجة اعتذار بأنهم سيجلسون على الأرض ، ويجلس معهم ليشعر انهم في مدرجات الملعب . كان يأتي معهم ، لكن عينه لا تفارقني . قال لي إن أباه يرفض التلفزيون، يقلده وهو يحتد مشيراً بيده إلى أرفف الكتب "ومن سيقرا كل هذا ؟" . وفي هاف-تايم ماتش الأهلي والزمالك مشيت بينهم ، أوصل الشاي لأبويا ، دس في يدي ورقة : ها نروح السينما بكرة الصبح ، في عماد الدين، وأول مرة أزوغ ، بس قلت للناشفة تقول إني تعبانة .

كان فيلم ابيض واسود قديم هو بيحبه ، حافظ القصة لأنه قرأها ، لفت نظري إنه بيقلد الفارس الشاب اللطيف في الفيلم ، في مغامراته بالسيف –مع ثلاثة فرسان عواجيز- وفهمت حكاية ان الفارس دائما "يبوس" إيد الجميلة ، هو كمان كان يبوس إيدي في الظلام كل ما الواد يبوس إيد واحدة ، وكنت متغاظة لأنهم كانوا كتير !. 

عادت متمهلة بفنجان القهوة على الصينية ترقب "الوش" حتى لا يهتز فيفسد مزاجها الذي راق ، حانت منها التفاتة ، لازالت الشيطانة هناك ، صاحت فيها :"ندمانة انك قلتي له لأ ! دول شوية عيال أصغر من أحفادكم ، واحد عجوز بيبوس واحدة عجوزة ، ولا ها يهتموا . . أنت الخسرانة " أعرَضَتْ عنها وجلستْ متجاهلة إياها ترتشف" الوش" وتخطط لصباح الغد ومشوار المعاش .

وجدت في الدرج مجلة قديمة عليها اليزابيث تايلور في دور "ترويض النمرة" وبجوارها صباع زبدة كاكاو قديم ،غمغَمتْ "لم يجف تماما . ." . لم تنم بعمق تلك الليلة ، بدون كوب الشاي بلبن الصباح. ارتدتْ ملابس الخروج متخففة من "قمطة " شعرها مطلقة سراح عدة خصلات بيضاء ناعمة ، وقفت امام المرآة  تكثف من بقايا زبدة الكاكاو مع لمسات خفيفة ، نزلت الدرجات الخمس بدون العصا وفي كتفها الحقيبة بداخلها الكيس، متمهلة تخطو إلى نفس المكان ، وقفت غير عابئة بشوية عيال يلهون على الناصية.