الإثنين 20 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عبدالرحيم كمال: حسن الصباح أخطر مغامرة فى حياتى

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز والكاتب عبدالرحيم كمال

من هاجموا المسلسل حتى قبل أن يبدأ لديهم دائمًا تفسير سياسى مغرض للدين وللفن ولكل شىء ولذلك تعاملوا مع المسلسل كعادتهم بهذا التفسير

أنا كعبدالرحيم ضد الأباطيل بكل تصوراتها سواء أكانت تحت راية سنية أو شيعية نحن أهل الوسط فى كل شىء

 شخصية حسن الصباح بما فيها من دموية أقرب إلى شخصية سيد قطب من حسن البنا

 استخدام العامية فى حوار المسلسل كان اختيارى أنا والمخرج من البداية

 لم أقدم الحشاشين وفى ذهنى شخصية معينة أربط بينها وبين حسن الصباح

 لدينا اعتراف من الجميع بعظمة المسلسل ولدينا نقاد ثقاتلا يشكرون فى عمل بسهولة أشادوا به

 مع الحلقات الأخيرة وجدت من بين مَن تعجلوا القراءة يعتذرون لى على تعجلهم

 استعنا بالمراجعين التاريخيين حتى لا نقول كلمة ليست سليمة بداية من أسماء الأبطال والمدن وأسماء القلاع

الكاتب عبدالرحيم كمال

فى خلوته الخاصة، حيث تحيط به الكتب من كل مكان، جلست إلى عبدالرحيم كمال. 

وجدته كما هو رغم النجاح الأسطورى الذى حققه مسلسله «الحشاشين» ، فالنجاح الذى يصل إلى حدود السماء يزيده تواضعًا وخفضًا لجناحه مع من اعتاد عليهم واعتادوا عليه. 

رأيت عبدالرحيم كما قابلته أول مرة. 

كان ذلك أثناء مسلسله «الرحايا» الذى لعب بطولته وليه الدرامى الكبير الفنان نور الشريف، لم يتغير عبدالرحيم، يمتلك قدرًا هائلًا من البساطة الإنسانية الطاغية، تراها فى ضحكته المجلجلة، وقفشاته التى لا تنقطع، ونظراته الحائرة التى تبحث عن مرفأ آمن. 

رغم الجدل الهائل الذى أثاره مسلسل «الحشاشين» فإن عبدالرحيم لم يتحدث إلا قليلًا، طلته التى يعتز بها عزيزة، تحدث بالضرورى، ربما لأنه كان يوفر نفسه لحديث يطول بينى وبينه، وهو ما تعودنا عليه معًا بعد كل عمل يقتحم به الجميع. 

ما دار بينى وبينه لم يكن حوارًا أسعى من ورائه إلى الحصول على إجابات سريعة عن أسئلة عابرة، ولكنها كانت جلسة أقرب إلى الفضفضة النفسية حول ما كان وما سيكون، ولذلك لا تندهشوا إذا عثرتم على عبدالرحيم مختلف تمامًا عما تجدونه وهو يتحدث عبر البرامج التليفزيونية أو الحوارات الصحفية، فما بيننا يجعله يكشف الغطاء عن الأسرار التى تحيط بعمله. 

كريم عبد العزيز فى دور حسن الصباح من مسلسل الحشاشين

هذا حوار مختلف مع من يحمل مفتاح سر الإبداع.

يعتبر نفسه عبدًا فقيرًا إلى الله، يفعل ما عليه ثم يترك التوفيق للأقدار، فالفضل والمنة من الله، يرفع من يشاء ويضع من يريد.

بعد أن تداعت بيننا الذكريات، استوقفته، دخلت تحت جلد حالته الإبداعية، سألته مباشرة عن اللحظة التى توقف فيها عند جماعة الحشاشين، عند محطة حسن الصباح، عن أول احتكاك بينه وبينه الجماعة التى يعرف جيدًا أنها الأكثر دموية فى التاريخ، الملهمة لكل جماعات العنف والتطرف وسفك الدماء. 

قال: حدث هذا من فترة طويلة، أستطيع أن أقول لك إن الفكرة تجسدت أمامى منذ عشر سنوات على وجه التحديد، كان ما يشغلنى وقتها هو ما الذى يجعل إنسانًا يتحدث بلسان ربنا، ينطق بالعلم والفقه ويرتدى مسوح العلماء، وبدلًا من أن يكون سببًا فى هداية الناس، يتحول إلى أداة تضليل يلقى بمن يسيرون خلفه إلى الجحيم، هذه فكرة وقفت بى كثيرًا عند حافة الجنون. 

بوستر مسلسل الحشاشين

قلت له: هذا على مستواك الشخصى.. عما يشغلك أنت ويؤرقك.. لكن ماذا عن المستوى العام؟ 

أجاب: الشخصى هنا لا يبتعد عن العام كثيرًا، فأنا كعبدالرحيم الذى يعيش زمنه وفى مجتمعه كنت أسأل: كيف تتحول الأفكار المقدسة إلى أداة لتحقيق أغراض غير مقدسة؟ وبالبحث اكتشفت أن هذا تحديدًا يقف كسبب وراء الفتن الكثيرة التى مرت بالحياة على مدى التاريخ، والأمر لا يختلف رغم اختلاف الأديان والمذاهب والطوائف، وخذ عندك الأسماء من «راسبوتين» إلى «الحاكم بأمر الله» إلى «أوشو» الذى جاء بديانة جديدة وغير الدنيا كلها. 

الغريب أنك تجد ملامحهم تتشابه، سماتهم تتكرر، كلهم متشددون إلى الحافة، جميعهم يتحدثون باسم الله، يمتلكون جاذبية وكاريزما وتأثيرًا، فليس معقولًا أن يؤمن الناس بشخص ويضحوا بأنفسهم من أجله إلا إذا كانوا مقتنعين تمامًا به وبما يقوله، فحتمًا من يتصدر الصورة ليس تافهًا ولا بسيطًا، بل هو شخص يملك القدرة على فتنة الآخرين، وهذا أمر بالنسبة لى مرعب جدًا. 

جلست أتابع كل ذلك على مر التاريخ، فوجدت أن القصة المكتملة التى تتجسد فيها كل الأفكار التى وضعت يدى عليها هى قصة «الحشاشين» ومؤسسها «حسن الصباح». 

كانت لدىّ أسئلة كثيرة تخصنى، وأهمها كيف يكرر التاريخ نفسه بهذه الطريقة؟ 

وأدركت أننى عندما أجيب عن هذه الأسئلة فإننى فى الوقت نفسه يمكننى الإجابة عن أسئلة الآخرين، التى من المؤكد أنها تتشابه مع أسئلتى. 

كريم عبد العزيز فى دور حسن الصباح

قصة «الحشاشين» ليست سهلة، متشعبة، الذين كتبوا عنها بإعجاب كثيرون والذين انتقدوها كثيرون، المصادر متناقضة، والمعلومات متنافرة، والأحكام ليست مستقرة، وهو ما دفعنى لأن أسأل عبدالرحيم، كيف جمع القصة وسط كل هذا التيه؟ 

قال لى: الواقع أن القصة جمعها كان صعبًا جدًا، الأمر كان مرهقًا، فأنا أستطيع قراءة الكتب والمصادر التى تتحدث عن الحشاشين، لكن القصة ليست فى الجماعة، ولكنها فى حسن الصباح، كان علىّ أن أفهمه؛ أفهم تكوينه، ردود أفعاله، فكرته الكبرى، أهدافه، وجدت أن بينى وبينه ما يقرب من ٩٠٠ سنة، ولا بد أن أعيش معه كما كان. 

قرأت الكتب فوجدت أنها متناقضة، وأنا لم أقرأ فقط الكتب التى تنتقده، ولكنى قرأت كتبًا لمن كتبوا عنه من طائفته، وبالمناسبة هى كتب ساحرة فى لغتها، فالإمام «الكرمانى» مثلًا له كتاب عن الباطنية وعن علمهم وأسرارهم، ويستشهد بحسن الصباح كأحد العلماء الأجلاء، يتحدث عنه كإمام جليل بالفعل. 

قررت ألا أدخل إلى حسن الصباح وأنا متحفز ضده، ولذلك لم أسع إلى نسج الحكاية من طرف واحد، أردت أن أكون داخل الحكاية بكل أبعادها، فأنا مثلًا أحب عبدالناصر لكن إذا كتبت فيلمًا عن السادات فلا يجب أن أكون متحفزًا ضده من البداية، لأن هذا لن يكون فيلمًا، يمكن أن يحدث هذا وأنا أكتب مقالًا أو أؤلف كتابًا. 

أنت تتحدث هنا كدراماتورجى محترف.. قلت ذلك لعبدالرحيم. 

فقال: بالضبط هذا ما أقصده.. أنا لست مؤرخًا بل أنا كاتب درامى، وكل شكل له ما يلزمه، ولذلك قلت إن ما أقدمه من وحى التاريخ، والمعنى أننى أتوسل بالتاريخ.. أحترمه وأقدره ولا أخرج عنه، لكن لى خيالى الذى لا بد أن يكون حاضرًا، لا يوجد قرار نهائى فى التاريخ وهذه هى المشكلة الكبرى. 

عبد الرحيم كمال

دعنى أسألك عن هذه النقطة تحديدًا.. وجدت نفسك أمام بحر متلاطم من التناقضات، الكاتب الدرامى هنا كيف يقوم بالفرز والاختيار، ما الذى يستقر عليه من وقائع التاريخ وما الذى يستبعده، ما الذى فعلته أمام هذا الزخم الهائل؟ 

قال: كان قرارى أن أواصل القراءة، وبعد أن انتهيت من كتابات من يحبون حسن الصباح ومن يرفضونه من المعاصرين له على اختلافاتهم، بدأت فى قراءة متعمقة عمن يشبهونه، كل الذين أسسوا حركات مثله منذ ظهور الديانات المعتبرة المشهورة، وكان السؤال المحورى لدىّ هو: لماذا تظهر شخصيات على هذه الشاكلة؟ 

وجدت أنهم على شكل واحد، لديهم مشتركات من الكاريزما إلى الإحساس بالإلهام للسيطرة على الآخرين بالباطل. 

وبعد أن انتهيت من قراءة التاريخ المتناقض الذى لن يصل بى إلى شىء حقيقى وملموس كان لا بد أن يكون لدىّ قرار فنى، وتمثلت روح القاضى الذى لا بد أن يفصل فى قضية معروضة أمامه، وتحريت أن أكون قاضى عدل.. فأنا لا يحكمنى إلا ضميرى.. الذى كان فى هذه الحالة ضمير قاضٍ. 

وكيف تشكل وجدانك تجاه حسن الصباح برغم كل هذه التناقضات التى تحيط به؟

أجاب عبدالرحيم: لم يكن لوجدانى أن يستقر على شىء دون أن أستكمل مهمة القراءة، لا يمكن أن يستقر وجدانى دون قراءة أو التزام بما قرأت، وعندما بدأت العمل كان لدىّ وجدان مستقر وفى الخلفية كل ما قرأته. 

أنا دراماتورجى أولًا وأخيرًا، أحكى حكايات للناس عبر ٣٠ حلقة لا بد أن يكون فيها متعة وصدق فنى، أما عن التاريخ فقد عاهدت نفسى على الالتزام بما يستوجبه وحيه، التزمت بالتواريخ والشكل والملابس، حتى يصدقنى الناس فيما أقول، وأعتقد أن هذا هو دورى، ودون ذلك تحميل على المؤلف وتكليف له بما لا يطيقه. 

فهمت قصد عبدالرحيم بما يقوله عن تحميله ما لا يطيق، لكنى لم أستسلم له. 

كريم عبد العزيز مسلسل الحشاشين

قلت: فى رأيك من الأكثر شبهًا بالصباح من الشخصيات التى قرأت عنها عبر التاريخ؟ 

قال: الصباح فيه من كثيرين، وكثيرون فيهم من الصباح، يمكن أن تجد عنده من راسبوتين وأوشو وكاليجولا والحاكم بأمر الله. 

قلت له: أحد أساتذة التاريخ قال لى إن الذين يربطون بين حسن الصباح وحسن البنا لا يتحرون الدقة، فهو أكثر شبهًا بسيد قطب.. ما رأيك أنت؟ 

قال: والله أنا أرى أن ما قدمته هو عمل فنى، أنا لم أقدم الحشاشين وفى ذهنى شخصية معينة أربط بينها وبين حسن الصباح، لكن هناك تشابهًا طبيعيًا بينه وبين هذه الشخصيات جميعها، ولذلك فإن من هاجموا المسلسل حتى قبل أن يبدأ فعلوا ذلك لأسباب تخص ورطتهم الشخصية، فهم طول الوقت لا يجيدون التعاطى مع الفن كفن، ولا يجيدون التعاطى مع الدين كدين، لديهم دائمًا تفسير سياسى مغرض للدين وللفن ولكل شىء، ولذلك تعاملوا مع المسلسل كعادتهم بهذا التفسير. 

تقصد الإخوان.. سألت عبدالرحيم مباشرة. 

فقال: هم بالطبع.. وأتحدث عن المرتابين منهم وهم كثيرون. 

يضحك وهو يقول يمكن أن يكون التشابه فى الاسم حسن الأول وحسن الثانى، وهم لو قالوا إن التشابه بينهما حقيقى فلا يجب أن يغضبوا لأنه تشابه حقيقى، ولو أنه لا يوجد تشابه بينهما أكون أنا كاذبًا وينتهى الأمر ولا يجب أن يغضبوا أيضًا، لكن دعنى أقول لك إن شخصية حسن الصباح بما فيها من دموية أقرب بالطبع إلى شخصية سيد قطب من حسن البنا، وإن كان هذا لا ينفى التشابه بين مؤسس الحشاشين ومؤسس الإخوان. 

فى ضمير عبدالرحيم إذن أن الإخوان هاجموا المسلسل بسبب ورطتهم الشخصية، وهى الفكرة التى لم أفلتها، طلبت منه المزيد عنها. 

قال: الأزمة تخصهم هم بالفعل، فهم لا يجيدون التعاطى مع الفن بشكل فنى مجرد، يتعاطون معه على أنه ورطة أو سلاح موجه ضدهم، يقومون بتأويله تأويلًا يتناسب مع ما يعتقدون، وما لا يعرفونه بسذاجتهم أن المسلسل سيكون أبقى وأطول عمرًا من أزمتهم. 

حسن الصباح

لا بد أنك كرهت حسن الصباح، هو شخص يستحق الكراهية المطلقة بالطبع، لكن ماذا فعل عبدالرحيم كمال وهو يتتبعه فى أزقة التاريخ، كيف نجا من تأثيره؟ كيف حصن نفسه فلم يقع فى فخه؟ 

قلت له: ما الذى فعلته حتى تحمى نفسك من كاريزما الصباح وأنت تكتب عنه، أحيانًا يواجه الكاتب مشكلة طغيان الشخصية التى يكتب عنها عليه.. يمكن أن يتأثر بها، أن يصبح أسيرًا لها نفسيا، كيف نجوت.. وهل نجوت أصلًا؟ 

أجابنى: الحمد لله نجوت بالطبع، وحدث هذا بإدراكى العميق بعد القراءة والبحث، ليس هناك مانع أن أدرك أبعاد وأزمة شخصية مثل حسن الصباح، لكن ما قاومته ونجحت فيه هو أن أتوحد معها. 

سألته: فى رأيك: ما أزمة حسن الصباح الأساسية؟ 

قال: الصباح شخصية تراجيدية وليست ميلودرامية... فهو مثلًا ليس شخصًا مظلومًا فى حارة وفى آخر ثلاث دقائق ينتصر ليصفق له الجمهور، ولكنه شخصية تراجيدية بامتياز، لديه سقطة خاصة به، وهى ظنه بألوهيته، وأعتقد أنه كان يعانى من ارتباك ما، الخط الفاصل بين حقيقته كعبد وظنه أنه خالق ضاع منه تمامًا، وأظن أن هذا الارتباك جاء من أنه كان يعمل لتحقيق العدل الذى يعتقده فارتكب جرائم كثيرة. 

لم يسلم الصباح كذلك من الجنون، وهو ما صورته بحلمه وهو يرتقى سلمًا ليقضى على الجزء المسالم فى شخصيته، وهذا تحديدًا ما جعلنى لا أقع فى غرامه، أنا ككاتب لا أحبه ولا أكرهه، ولكنه كان أمامى مثل جثة فى مشرحة وأنا مطلوب منى أن أشرحه باحترافية وبلا تحفز ضد صاحب هذه الجثة. 

اعترضت طريق عبدالرحيم قليلًا، قلت له: أحيانًا معرفتنا بدوافع الأشخاص تجعلنا نتعاطف معهم. 

قال: مهمتى كانت أن أعرف مرض الصباح وأزمته، أن أبحث عن دوافعه، وصدقنى عندما عرفت دوافعه لم أحبها ولم أقدرها ولم تجعلنى أتعاطف معه أبدًا. 

الدكتور محمد الباز وعبد الرحيم كمال

قلت لعبدالرحيم: اسمح لى أنت لم تفلت من حسن الصباح عندما نسجت مشهد قتله لابنه لأنه قتل.. أحدهم قال لى: إنه رجل عادل ما الذى يعيبه وهو يقتص من ابنه، هل كان هذا من الأفخاخ التى وقعت فيها؟ 

أجاب: لا بالطبع، لم يكن المشهد فخًا بالنسبة لى، لقد واجهته زوجته وواجهه المقربون منه واعترض طريقه صديقه المقرب زيد بن سيحون، كلهم قالوا له فى وجهه إنه لم يقتل ابنه من أجل العدالة، ولكن لفرض سيطرته التامة على قلوب أتباعه، الصباح ضحى بابنه فى سبيل نفسه وليس لإقامة حد الله، فى هذا المشهد بدا كم أن الصباح يحب نفسه فقط، فلم يقبل أعذارًا قدموها له حتى يعفو عن ابنه، ولم يستخدم سلطته كولى أمر ليعفو ويسامح، ولكنه كان يقول لمن حوله أنا القوى العادل الذى أضحى بابنى فى سبيل دعوتى. 

الاعتراض الأقوى الذى استخدمته كان من زوجته «دنيا زاد» المرأة التى تعشقه وتراه إمامها وشيخها تقتدى به فى أمور الدين والدنيا، لو كانت تراه عادلًا لأقرته على ما فعله، لكن لم تنطلِ عليها حيلته.

على ذكر زوجة الصباح، وقفت مع عبدالرحيم عندما اعتبرته كان فخًا بالنسبة له، لقد جعل الصباح محبًا عاشقًا غارقًا فى الرومانسية حتى أذنيه، شعرت به فى مشاهد كثيرة وكأنه حسن العاطفى وليس حسن الصباح. 

قلت لعبدالرحيم: أرجوك لا تقل لى إن هذا لم يكن فخًا وإنك وقعت فيه؟ 

قال: ليس فخًا على الإطلاق أيضًا، أولًا المعروف عن حسن الصباح أنه لم يكن زير نساء ولم يكن سكيرًا، شهوته الكبرى كانت فى الحكم والسلطة، فحبه لامرأة واحدة مبرر بالنسبة لى، وكونها كانت أول سيدة فى حياته فهى بالنسبة له الدنيا، شهوته لم تكن فى التنوع، شهوته كانت فى حسن الصباح، ثم إنها كانت أول من آمن به كإمام، وفى النهاية هو إنسان يحمل الخير والشر فى داخله، لكن مشكلته أن الشر هو الذى كان يتغلب دائمًا، فحتى القتلة يحملون داخلهم عاطفة، ومارلون براندو فى «الأب الروحى» كان فى النهاية رجل عصابات قاتلًا، لكنه كان يداعب القطة ويلعب مع أحفاده، الإنسان ألوان متعددة، ومشكلته دائمًا فى اللون الذى يتغلب عليه فى النهاية. 

فتحى عبدالوهاب من مسلسل الحشاشين

انتقلت مع عبدالرحيم كمال إلى منطقة من المناطق التى التهبت على هامش المسلسل، سألته بشكل مباشر، تحدثت عن استخدامك العامية المصرية فى الحوار ردًا على الهجوم الذى أعتقد أنه كان يتجاوز المسلسل إلى العامية المصرية نفسها، هل يمكن أن أسمع منك شيئًا مختلفًا عن المبررات التى قلتها.. هل يمكن أن تطلعنى على الفكرة الفنية من استخدام العامية؟ 

أجاب ببساطة: استخدام العامية فى حوار المسلسل كان اختيارى أنا والمخرج من البداية، ولم يكن ذلك لأن أبطال المسلسل فرس وعليه فالعامية المصرية هى المناسبة أكثر، ولكن من وجهة نظرى لأنها عامية فصيحة، ويمكن أن تقول إن ٩٩ بالمائة منها لغة عربية، ثم إن العامية المصرية ليست لهجة خاصة بقرية أو كهف تحت الجبل يتحدث بها ٣٠٠ أو ٤٠٠ فرد، هى لهجة عربية فصيحة يتكلم بها ١٢٠ مليونًا ويفهمها أكثر من ٤٥٠ مليونًا، فكان قرارنا أن نحكى الحدوتة التى أصلها ليس عربيًا بالعامية المصرية لأنها الأقرب والأجدر والأكثر استحقاقًا. 

كان هناك سبب آخر لا يمكننى إغفاله، فقد أردنا أن نستعيد سلطان العامية المصرية فى المنطقة بعد أن فقدت كثيرًا من تأثيرها خلال السنوات الماضية. 

الأهم من ذلك والذى ربما أثار استفزازى قليلًا هو أن هذه المسألة انتهت تمامًا، الحوار حول اللغة أو اللهجة المستخدمة فى الحوار تقلص نهائيًا فى العالم، فيلم نابليون الأخير ينطق فيه البطل بالإنجليزية، ولم يعترض أحد أو يحتج على ذلك أحد، وأعتقد أن من أثاروا هذه القضية كانوا يصوبون سهامهم فى اتجاه معين، ورأوا أن هذه السهام يمكن أن تصل إلى أهدافها من خلال المرور عبر مسلسل الحشاشين. 

قلت لعبدالرحيم: ما الذى فعلته بالإمام الغزالى؟ لماذا حجمت دوره إلى هذه الدرجة؟ كان يمكن أن يكون معادلًا موضوعيًا لحسن الصباح، لقد أدنت مؤسس الحشاشين من خلال مواقف المحيطين به، لكن ألم يكن من الأجدى أن يظهر الإمام الغزالى فى مساحة من يرد ويفند ويصحح، لقد سمعنا كثيرًا من الصباح لكننا لم نسمع إلا القليل من الغزالى، لماذا كان الصباح طوال الوقت هو المسيطر والموجود، والغزالى متواريًا، من أدانوا الصباح لم يفعلوا ذلك من أرضية شرعية كما فعل الغزالى.. انتظر كثيرون تفنيد أفكار حسن الصباح على الشاشة، ويرون أنه كانت لديك فرصة من خلال الإمام الغزالى، لكنك أضعتها. 

لم يبد على عبدالرحيم أنه يوافقنى على ما أقوله، ولم يبد أيضًا أنه يرفضه كله. 

قال: وضع الغزالى فى مواجهة الصباح بالنسبة لى هو الميزان الأسهل والأبسط والأقرب، لكننى لو فعلت ذلك لكان المسلسل شديد الجفاف، كان سيتحول إلى محاضرة أو مناظرة بين الاثنين، نضع الصباح فى كفة والإمام الغزالى فى كفة، نقول للناس انظروا هذا هو التطرف وهذه هى الوسطية. 

هدفى كان أكبر من ذلك بكثير، كنت أريد وضع الحشاشين وحسن الصباح أمام الناس، لنرى معًا كيف يتم تدمير فكرتهم من داخل التنظيم نفسه وليس من خلال تفنيدات الغزالى، فهذا الرجل الذى سيطر على العالم من وجهة نظره لم يستطع السيطرة على مشاعره، لم يستطع الاحتفاظ بأولاده، لم يستطع الحفاظ على زوجته، فهو رجل مهدم من الداخل، رغم أنه يبدو محصنًا من الخارج. 

ما فعلته أفضل بكثير من وضع اثنين فى مواجهة بعضهما البعض، ثم إن الحقائق تقول إن الإمام الغزالى لم يكن فى مواجهة الصباح فى هذا العصر وحده، كان هناك عمر الخيام بكل أشعاره وأفكاره وتناقضاته وهناك سلطان سلجوقى وخليفة عباسى، ولم يكن من المنطق أن أخسر هذا التنوع كله، فالعصر لم يكن صافيًا لدرجة أن يكون هناك ميزان بين رجلين فقط، لقد كانت فتنة كبيرة ووقع فيها كثيرون. 

ولا يمكن أن نتجاهل أبدًا أن هذا النمط «المناظرة» بين شخصيتين حتى لو كانا فى وزن الصباح والغزالى سيكون أقل إمتاعًا، لأننا فى هذه الحالة كنا سنعمل بميزان، هذا يقول وهذا يرد عليه، وفى النهاية الناس تمل.. وساعتها تضيع الدراما.. وأضيع أنا أيضًا. 

عمر الخيام من مسلسل الحشاشين

قلت له: أعتقد أن كثيرين توقفوا عند شخصية عمر الخيام كما قدمتها، وسأكون صريحًا معك أنا كنت أراك أنت شخصيًا فى خيام الحشاشين، ولن أخفى عليك أن هناك من اندهش من جرأة الطرح على لسانه، لم يتعود الناس أن يكون هناك بطل درامى يفكك قضايا الخلق والماهية وجدوى الحياة والوجود ذاته، يسأل من أين جئنا وإلى أين سنذهب ولماذا وما الذى نفعله فى هذه الحياة.. أنت كنت تغامر وأنت تكتب شخصية عمر الخيام؟ 

كنت أراه يحاول أن يقاطعنى بعد أن وضحت فكرته، كان ما يريد أن يقوله يلح عليه. 

قال: المسلسل كله مغامرة، بل سأكون صادقًا معك عندما أقول إن حسن الصباح هو أكبر مغامرات حياتى فى الكتابة، لقد جازفت خلال هذه التجربة بأشياء كثيرة جدًا، وأطلقت بينى وبين نفسى صيحة: سأكتب وليكن ما يكون بعدها. 

أما عمر الخيام فأنا لم أستنطقه بشىء لم ينطق به، لكننى صغت ذلك بطريقتى، وأنا فخور جدًا بشخصية عمر الخيام لأسباب كثيرة جدًا، منها أنه نطق بأشياء نطق بها فلاسفة الغرب بعده بمئات السنين، تحدث عن الوجودية قبل أن يكتب فيها روادها وعلى رأسهم سارتر، ولذلك كنت فخورًا وأنا أقدم هذا الفيلسوف الذى يتأرجح ما بين الإيمان والكفر والوعى واللا وعى، لقد نطق بالحكمة قبل الآخرين ونطقها بقلب صادق، يعنى حتى ما يعتبره البعض تجديفًا، أعتبره لم يكن أبدًا سوء أدب، لكنه كان ترجمة لحيرة. 

إننى أقول دائمًا إن الأسئلة شريفة، ولا أخاف أبدًا من الأسئلة، أنزعج فقط من الإجابات المغرضة. 

نيقولا معوض في دور عمر الخيام

رأيت أن عبدالرحيم يحاول أن يتهرب منى، لقد قلت له بوضوح إننى رأيته فى شخصية عمر الخيام، فسألته مرة ثانية: أين كنت وأنت تكتب شخصية الخيام؟ 

قال: أعرف أن ما سأصرح به الآن يمكن أن يكون خطيرًا جدًا، لكننى بالفعل مدفوع لأن أقوله، الخيام بالفعل قريب جدًا من نفسيتى ومن وجدانى، أنا قريب منه بترددى، وبأفكاري التى تسعى ما بين اليقين الكامل والشك التام، ولا أعتقد أن شخصًا على وجه الأرض يخلو من عمر الخيام بنسبة أو بأخرى، الفارق أن نسبة عمر الخيام داخلى قد تكون أكبر من الآخرين. 

العاطفة الكبيرة التى تحدث بها عبدالرحيم عن عمر الخيام جعلتنى أسأله عن الانتقادات التى وجهت إلى الفنان «نيقولا معوض»، الذى جسد شخصية الخيام.. فهناك مَن يرى أنه كان الاختيار الوحيد غير الموفق من بين أبطال المسلسل.

كانت إجابة عبدالرحيم مفاجأة. 

قال: لقد تابعت كل ما قيل عن أداء نيقولا معوض، ولن أعارض من قالوا عليه ما رأوه، لكننى أتحدث عن نفسى ككاتب للعمل وكمشاهد له، لقد أرسلت رسالة شكر لنيقولا على أدائه الدور، قلت له فيها: أشكرك... لقد قدمت شخصية عمر الخيام كما تخيلتها بنسبة تكاد تكون مائة فى المائة. 

رأى دهشتى، فلم يمنحنى فرصة المقاطعة، كان يريد أن يكمل فكرته، قال: أعتقد أن من انتقدوا نيقولا معوض فى حاجة إلى مشاهدة المسلسل مرة أخرى، فالإعادة والتكرار سوف تكشف عن أشياء كثيرة، لقد كان أمامنا فى اختيار الممثل الذى يؤدى شخصية الخيام اختياران، الأول أن يكون أداء كليشيه لشاعر فنأتى بممثل يملك الإيقاع والأداء الذى يتناسب مع شاعر طبقًا لما يتصوره المشاهدون عن الشعراء، أو يكون الممثل قادرًا على أداء الشخصية بحيرتها وترددها والثقل الذى تحمله على ظهرها. 

قلت: الحيرة لم تكن نفسية فقط... أردتها ظاهرة عليه جسديًا. 

قال: هذا ما جرى بالضبط، وعلى الناس أن تتفاعل معه ظاهرًا وباطنًا، لقد اخترت الأصعب وهو ما نفذه نيقولا، رأيت عمر الخيام على هذه الصورة، لم أتخيله شخصًا آخر، المشكلة أن الناس ترسم صورة معينة للشخص، وعندما يأتى من يجسده بشكل مخالف لما تصوروه تحدث ربكة، لو استطعمه الناس بمنظورى أعتقد أن رأيهم سيختلف تمامًا، وسيجدون أن نيقولا كان موفقًا بنسبة مائة فى المائة كما أرى أنا. 

فتحى عبد الوهاب فى شخصية نظام الملك

من عمر الخيام انتقلت بعبدالرحيم إلى نظام الملك، الشخصية التى أداها باقتدار فتحى عبدالوهاب، قلت له: ألم تكن شخصية عظيمة تاريخيًا مثل نظام الملك تستحق أن تحتل مساحة أكبر من التى أتيحت لها، ألم يكن من حق الناس أن يروا منك ما كان عليه الرجل بالفعل؟ 

قال: نظام الملك فى التاريخ بالفعل هو أحد عظماء عصره، ومنسوب له أشياء كثيرة منها المدارس النظامية مثلًا، لكن أنا فى النهاية كنت أحكى حكاية الحشاشين من زاوية حسن الصباح وعلاقاته بالآخرين، فحافظت على مكانة نظام الملك لكن من أرضية علاقته بالصباح، وهذه معادلة صعبة جدًا فى الكتابة. 

يعنى مثلًا فى «شيخ العرب همام» على بك الكبير شخصية مرموقة فى التاريخ، ودوره أكبر من همام والمراجع التى تناولته أكثر، لكن عندما تناولته كنت أنظر إليه من خلال علاقته بشيخ العرب همام وليس بدوره فى التاريخ. 

لكل مؤلف قراءته الخاصة للشخصيات التى يقدمها، لكن هذا لا يمنع أن هناك قراءات أخرى.

قلت لعبدالرحيم: أعرف أنك تؤمن بنظرية أنك تقول كلمتك وتمضى، تقدم قراءتك وتترك للآخرين فرصة أن يقرأوا عملك كما يريدون، لا تمارس عليهم وصاية، لكن ما هى أكثر قراءة للمسلسل وجدت أنها بعيدة عنه تمامًا؟ 

قال: القراءات التى شخصنت العمل أزعجتنى جدًا، بعد أول حلقة وجدت من يقارب بين شخصيات المسلسل وشخصيات واقعية، ورأيت أن هذا استعجال ورؤية غير دقيقة للفن والدراما، هناك من بدأ يقرأ العمل من التترات، ومن بدأ يقرأ من الحلقة الثالثة، لكن مع الحلقات الأخيرة وجدت من بين مَن تعجلوا القراءة يعتذرون لى على تعجلهم، وهذا أسعدنى جدًا. 

لقد أرسل لى أحدهم بعد الحلقة الثانية وقال لى أنا يمكن أن أناقشك فيما كتبت، قلت له المسلسل ٣٠ حلقة يمكن أن نصبر مع بعض قليلًا، ولم أقل هذا تعاليًا لا سمح الله، لقد أزعجتنى القراءات التى فيها شطط أو ترجمة مباشرة، فالفن أوسع من هذا بكثير. 

قد تكون صورة ‏‏‏‏٩‏ أشخاص‏، و‏نصب تذكاري‏‏ و‏نص‏‏
كواليس مسلسل الحشاشين

قلت لعبدالرحيم: هناك واقعة محددة، فقد كتب أحد أساتذة التاريخ ممن راجعوا المسلسل وقال إنك لم تلتزم بالتعديلات التى اقترحها هو وفريق المراجعة، ثم كتب توضيحًا بعد ذلك أن كلامه فُهم بشكل خاطئ، لن أحدثك فى تفاصيل الواقعة ولا فيما جرى ودفعه إلى أن يقول ما قاله، ولكن سأسألك: ما هو الدور الذى قام به فريق المراجعة التاريخية؟ 

أجابنى: دور المراجعين التاريخيين كان محددًا، لقد استعنا بهم حتى لا نقول كلمة ليست سليمة بداية من أسماء الأبطال والمدن وأسماء القلاع، تمت مراجعة لكل ما هو فارسى وسلجوقى وتركى، كان لا بد أن يكون النطق صحيحًا، المراجعة انصرفت كذلك إلى الثوابت التاريخية. 

يعنى مثلًا التاريخ يقول إن حصار القلعة فشل، فلا يمكن أن نقول إنه نجح، لكن الحصار تم فى عهد من؟ هذه معلومة ولا بد من الالتزام بها، لقد نصحنى المراجعون بأن نستعين بالفلاش باك، لكنى رفضت، فهذا ليس دورهم. 

ومن بين ما أضحكنى كان اتصال من أحدهم، قال لى: لديك بعض الأخطاء التاريخية. قلت له: هل رأيت ما فعلته فى زيد بن سيحون؟ لقد جعلته يقوم بأشياء لم تحدث فى الواقع، وفى كتاب «الأخبار فى الأسرار» زيد بن سيحون مختلف تمامًا، ولما أقرنى على ما ذكرت، قلت له: هل تتخيل أن زيد بن سيحون شخصية خيالية من أولها إلى آخرها وليست موجودة من الأساس؟ فصمت ولم يرد. 

أحمد عيد في دور زيد بن سيحون 

أنا من اخترعت زيد بن سيحون وصهبان البلان لضرورات درامية. 

بمناسبة الحديث عن التاريخ، قلت لعبدالرحيم: لماذا قمت باستدعاء الحشاشين تحديدًا، لقد قلت لى إنك مشغول بها من عشر سنوات، فلماذا الآن؟ 

قال: أنا كما قلت مشغول بالقصة بشكل شخصى، لقد كتبت أكثر من مقال فى مسألة تجديد الخطاب الروحى، وعن ضرورة تصحيح مفاهيم كثيرة فى فكر الإسلام، لأن الإسلاميين كلهم فى أزمة كبيرة سببها المصطلحات والمفاهيم. 

وأنا بشكل شخصى كعبدالرحيم عشت فترة من العام ١٩٧١ وحتى العام ٢٠٢٤ فيها زخم كبير بسبب الخلل فى المصطلحات، وأنا عندى ٦ سنوات ولما دخلت القاهرة كان اغتيال الشيخ الذهبى، سألت والدى عمن قتلوه، فقال لى إن فيه جماعة إسلامية قتلته، وشغلنى سؤال كيف تكون الجماعة إسلامية وتقتل، وهل يقتل الإسلام؟ ثم وجدتهم بعد ذلك يقتلون الرئيس السادات الذى كان يقول إنه رئيس مؤمن، فهل تقتل الجماعات المؤمنين، ثم يقتلون بعضهم البعض؟، فزاد استغرابى لأنه مؤكد أنه هناك شىء غير مضبوط. 

وعندما حدث ما جرى فى ٢٠١١ وصعود الإخوان إلى الحكم وما صاحب ذلك من أحداث، ثم يصعد شخص اسمه أبوبكر البغدادى المنبر ويقول إنه خليفة المسلمين، ثم يبدأ «داعش» فى ممارسة أشياء خارجة عن العقل، وكنت أصرخ: يا جماعة الإسلام ليس هكذا، الإسلام الذى عرفته من أبى كرجل متصوف، والذى نعرفه كمصريين سواء متصوفين أو غير متصوفين، نقى وجميل، فحتمًا هناك مشكلة، كل هذا جعلنى أقف على حافة الجنون. 

بدأت أترجم ما أراه، فعلت ذلك فى «الخواجة عبدالقادر» و«القاهرة- كابول» و«جزيرة غمام»، وظل يراودنى خاطر أن أقدم عملًا فيه الحكاية كلها، أبين اللعبة التى يبيعون من خلالها الوهم للناس، بحثت عن السر، وسألت: لماذا يصدق الناس هؤلاء؟ كيف يقول أحدهم لشاب خذ حزامًا ناسفًا وفجر نفسك، ما هو الثمن الذى يقدمه له مقابل روحه؟ ولم يكن هناك ما جسد الحكاية كاملة فى قراءاتى إلا «الحشاشين»، من خلال حلم الجنة الذى اخترعه الصباح. 

قاطعت عبدالرحيم: أنت تعرف أن هناك خلافًا حول مسألة الجنة التى اخترعها الصباح، ومع ذلك اعتمدتها كأصل تاريخى... وهناك من قال إن هذا لم يحدث؟ 

خفف من أثر الإنكار وقال: أنا اعتمدتها فى المسلسل دراميًا، لأننى شعرت أنها تناسب شخصية الصباح، كان لا بد أن يكون هناك شىء ملموس يقدمه لمن يقتل نفسه، فكان حلم الجنة الذى يراه الشاب تحت تأثير المخدر، نحن لم نقدم الجنة كواقع ولكن كحلم، لأننى أؤمن بأنه لا أحد يملك الجنة إلا الله. 

ميرنا نور الدين وكريم عبد العزيز

لقد رأيت عبدالرحيم كمال فى هذا المسلسل أكثر من مرة، صحيح أنه حاول الهروب منى، لكنى كنت أمسك به، قلت له: الجماعات السنية المتطرفة كثيرة، لكنك لجأت إلى جماعة شيعية، بما فيها من حديث عن الأئمة وآل البيت.. ومن يعرفك جيدًا يعرف أن هذه مساحة كبيرة لديك... لا أتحدث عن الشيعة ولكن عن المتصوفة، ألم تتردد قليلًا حتى لا يحسبك أحدهم على الشيعة؟ 

فرح عبدالرحيم بالسؤال وكأنه كان ينتظره. 

قال: لما بدأت فى كتابة «الحشاشين» قابلنى صديق مقرب منى، قال لى «ما هو الفرق بينكم كمتصوفة وبين الشيعة؟». 

ظل هذا السؤال يشغلنى وأنا أكتب، كعبدالرحيم ضد الأباطيل بكل تصوراتها سواء أكانت تحت راية سنية أو شيعية، نحن أهل الوسط فى كل شىء، قد يأخذ البعض علينا كمتصوفة المغالاة فى حب آل البيت، لكننا نحب آل البيت كرامة لصاحب البيت الرسول، صلى الله عليه وسلم. 

ومن يعتقد أن المتصوفة يعبدون شيخهم أو يعبدون آل البيت، فأنا أقول لهم هذا ليس تصوفًا، ومن يفعلون ذلك ليسوا متصوفة. 

أنا ضد المغالاة والجلافة، أرفض تقديس غير المقدس، ولن أخفى عليك أنى وجدتها فرصة لأقول إن الحب والتصوف والرقى والإحسان كلها مقامات للدين الصحيح. 

قلت له: أنت ضد المغالاة والجلافة فى تفسير الظاهر، وضد المغالاة والجلافة فى تفسير الباطن. 

وكأنه وجد ضالته، قال لى: الله ينور عليك، هذا ما أردت أن أقوله تمامًا. 

بعد التاريخ والتصوف وعبدالرحيم نفسه بما يعانيه من قلق وجودى وجد متنفسًا له فى المسلسل، وصلنا سويًا إلى المسلسل كعمل فنى خالص. 

قلت له: لدينا اعتراف من الجميع بعظمة المسلسل، ولدينا نقاد ثقات لا يشكرون فى عمل بسهولة أشادوا به، عندك مثلًا طارق الشناوى وعصام زكريا، حدثنى عما لم نره وقادنا جميعًا إلى هذه العظمة التى شهد لها الجميع. 

قال: أنا أعتبر أن ما حدث لهذا المسلسل توفيق كامل من عند ربنا، من أول الفكرة والكتابة وجهود شركة الإنتاج التى وافقت على إنتاجه من البداية وفى هذا التوقيت، فالسوق لها مواصفاتها فى المسلسلات التى تريدها، وكان هذا أول توفيق. 

قد تكون صورة ‏‏شخصين‏ و‏نص‏‏
بيتر ميمي من تجيهزات الحشاشين

التوفيق الثانى كان فى المخرج بيتر ميمى، لأنه يقوم بأمرين فى منتهى الاحترام، فهو يحترم النص المكتوب جدًا ويصل به إلى أعلى صورة ممكنة، وقريب جدًا من الناس، وهذا شىء نادر، يمكن أن تجد مخرجًا قريبًا من الناس لكنه ليس محترفًا بما يكفى، أو تجد مخرجًا محترفًا لكنه لا يشعر بالناس أو يضعهم فى اعتباره، الدكتور بيتر لديه الحسنيان، ثم إنه متفانٍ بشكل مذهل، وهو مسئول عن الخلطة التى قدمنا من خلالها عملًا تاريخيًا وفى الوقت نفسه يحظى بمتابعة الناس فى البيوت، كأنهم يشاهدون عملًا يدور فى حارة شعبية، هذا غير الفريق الذى يعمل معه منذ فترة طويلة، ولذلك فالتفاهم بينهم كبير جدًا. 

لديك مثلًا مهندس الديكور أحمد فايز كان مبهرًا، فأنت تعمل فى عوالم لا نعرف عنها شيئًا إلا من خلال المراجع، فعندما نقدم عملًا عن مصر القديمة فهذا بلدنا، عن بغداد أو سوريا فنحن نعرف عنهما الكثير، لكن أصفهان فالمسألة بعيدة شيئًا ما، ولذلك كان هناك بحث وتدقيق وتصورات وخيال. 

لقد رزقنى الله بأن كل من عمل فى هذا المسلسل كان لديه خيال، مدير التصوير حسين محمد عسل، وهو دكتور فى المعهد، ذهبنا معًا إلى كازاخستان مرتين للمعاينة والتصوير، وكانت الأسئلة طول الوقت جادة، وكان الفريق سعيدًا، لأننا لم نقدم عملًا كهذا قبل ذلك. 

وجدت فريق العمل يسأل: هل كان حسن الصباح عاقلًا أم مجنونًا؟ شكل القلعة كيف يجب أن يكون؟ والجنة كيف سننفذها؟ وهل يمكن أن يصدقنا الناس؟ نقاشات مطولة لا علاقة لها بالنص المكتوب، لكن لها علاقة بالصورة وكيف ستكون، حوارات بينى وبين المخرج ومهندس الديكور ومدير التصوير وحسن مصطفى المسئول عن الملابس، النقاشات دائمًا كانت مفيدة. 

عبد الرحيم كمال وبيتر ميمى 

قلت لعبدالرحيم رزقك الله ببيتر ميمى... كيف تراه؟ 

قال: الدكتور بيتر ليس ديكتاتورًا.. لا يقول ملاحظات مباشرة، يشير فقط بذكاء ويترك لمن يعمل معه أن يفهم. 

قلت له: يمكن أن نعتبره ديكتاتورًا ناعمًا. 

ضحك عبدالرحيم وقال: هو كذلك بالضبط، يصل إلى كل ما يريده لكن بأدب شديد، يتحدث معك ولا يتركك إلا بعد أن تكون على يقين أنك لا بد أن تنفذ ما يريده. 

أعتقد أننا تأخرنا كثيرًا عن كريم عبدالعزيز. 

قلت لعبدالرحيم أعتقد أن كريم كان رزقًا خاصًا فى هذا المسلسل، وسألته: هل كان هو الترشيح الأول للدور؟ 

قال: كريم كان الترشيح الأول بالإجماع أنا والمخرج والشركة، لم نر أحدًا فى الدور غيره، وكل الممثلين فى الأدوار الأساسية كانوا الترشيح الأول، بعض الممثلين فى الأدوار الثانوية اعتذروا، لكن الأساسيين لا. 

دخل كريم إلى هذا المسلسل من أرضية مختلفة تمامًا، لم يشارك فى عمل تاريخى من قبل، سألت عبدالرحيم: كيف تم تجهيز كريم للدور؟ 

قال: المسلسل مبنى على أن حسن الصباح شخص له كاريزما وهيبة وملامح طيبة ولطيفة حتى تتم الفتنة بشكل كامل، فلو استعان بشخص مريب سنخسر من البداية، وكريم لديه هذه الصفات، وكنا نريد ممثلًا من العيار الثقيل وهذا يتوافر فى كريم أيضًا، ومع ذلك لم يكن الموضوع سهلًا، كريم كان قلقًا وكثير الأسئلة، وجلسنا جلسات كثيرة أعتقد أنها أفادت المسلسل كثيرًا، فمن البداية وهو يعرف أن الدور ليس بسيطًا والمهمة ليست هينة، ولذلك كان يسألنى كثيرًا، ودارت بيننا محادثات هاتفية كانت تمتد لساعات وجلسات كنت أشعر بأنها بلا نهاية، كان يريد أن يفهم الشخصية لأنها مركبة وليست سهلة، وأذكر ونحن فى كازاخستان اتصل بى هاتفيًا فى إحدى الليالى ٢٧ مرة ليسأل عن تفاصيل بعينها. 

وأجدنى هنا، وشهادة فى حق كريم، لا بد أن أقول إنه ملتزم بالحوار المكتوب وملتزم بتعليمات المخرج، وكان شرطه الوحيد هو أن يفهم.

قد تكون صورة ‏‏‏شخص واحد‏، و‏شِراع‏‏ و‏قارب‏‏
من مسلسل الحشاشين

قلت لعبدالرحيم: حسن الصباح مخيف، ألم يخشَ كريم أن يؤدى دور شخصية دموية بهذا القدر؟ ألم يخشَ على نجوميته مثلًا؟ 

قال: الحقيقة أن كريم خاف وحب، وكان يقول طوال الوقت إن هذه الشخصية ستكون مهمة جدًا فى تاريخه، كان يعرف أنه يؤدى شخصية جديدة، تكونت لديه رؤية كاملة عنها، ولذلك كان صبورًا جدًا ويشعر بالمسئولية. 

كلام عبدالرحيم عن كريم جعلنى أسأل عن مشهد قتل الابن بالتحديد... كيف استطاع كريم أن يظهر بهذه القوة، فحتى لو كان قاتلًا فهو يأمر بقتل ابنه؟ 

أجابنى: هذا المشهد تحديدًا سألنى عنه كريم قبل أن يصوره بشهرين، كان يحمل همه جدًا، سألنى: ما الذى يجب أن أفعله، هل أبكى أم أصمت؟ ووصل إلى أن الأفضل ألا يبكى، وكان هذا اختيارنا، شعرنا بأن هذا أقرب إلى الحقيقة، فلو أنه انهار أمام أتباعه سيضيع المعنى الذى يريد أن يبنيه، وهو لا يمكن أن يضحى بكل شىء فى لحظة. 

كانت لدى كريم طوال الوقت أسئلة وحيرة، وأعتقد أنه كان كذلك لأنه يريد أن يصل إلى التكنيك الأمثل، لقد تعاملت مع ممثلين كثيرين وبدأت بالأستاذ نور الشريف وبعده الدكتور يحيى الفخرانى، وأستطيع أن أقول لك إن كريم فيه منهما الكثير، وهو ما ظهر أمامنا على الشاشة.

كان لدى عبدالرحيم ما هو أكثر عن كريم عبدالعزيز، لكننى قررت أن أنتقل معه إلى الآخرين، سألته عن أحمد عيد. 

أحمد عيد من مسلسل الحشاشين

قال: أعتقد أن هذا المسلسل كان إعادة إنتاج لأحمد عيد، إذ كيف يتحول هذا الممثل اللطيف إلى هذا الأداء الجاد، ويفعل ذلك بشكل خرافى، أحمد كان اختيار الدكتور بيتر ولما أخبرنى به فرحت جدًا، لأنه كان أولًا خارج التوقع، وقبل أن نبدأ التصوير سألنى: عن زيد بن سيحون حتى يقرأ عنه، وكانت المفاجأة عندما قلت له لا يوجد ابن سيحون أصلًا، فقال لى: يعنى أنا أقدم شخصية ليست موجودة، فكيف أقدمها؟ قلت له: لك كل الحرية فى تصورها، ولا بد أن أقول إنه لو كان هناك ابن سيحون حقيقى فلن يخرج عما قدمه عيد. 

قبل الختام بقليل وجدتنى أسأل عبدالرحيم عن يحيى بن المؤذن، ليس عن الممثل الشاب أحمد عبدالوهاب فقط ولكن عن الشخصية نفسها التى تحولت فى النهاية إلى بطل شعبى، وكان ملفتًا أن متابعى المسلسل حزنوا حزنًا حقيقيًا بعد مقتله.

قال: أعتقد أن يحيى بن المؤذن كان هو المعادل الوطنى فى المسلسل، الجندى الذى يمثل فكرة الوسطية من ناحية، وفكرة الوطنية من ناحية ثانية، وأعتقد أنها كانت فكرة مهمة فى مواجهة حسن الصباح، الرجل الذى كان لا يعطى فكرة الوطن أى وزن، وكان أداء أحمد عبدالوهاب متميزًا، فهو يدرك معنى أن تكون فارسًا وطنيًا تواجه من هو أقوى منك، وأعتقد أن مشاهده مع الصباح كانت فى منتهى الصعوبة، لكنه أداها بجودة وإتقان بالغين. 

وحكاية البطل الشعبى التى تشير إليها حقيقية، فقد تابعه الناس بشغف وحزنوا عليه بصدق، أعتقد أن هذا لم يحدث منذ سنوات، أن يتحول بطل فى مسلسل درامى إلى بطل شعبى. 

وصلت بعبدالرحيم إلى محطة الختام. 

كواليس مسلسل الحشاشين

سألته: «الحشاشين» حقق كم فى المائة من طموحاتك الفنية؟ 

قال: «الحشاشين» حقق لى الكثير... دخلته وأنا أشعر بأنى مقبل على مغامرة كبيرة، ولم أكن متوقعًا رد الفعل الذى جاء كالشلال، شعرت فعلًا بالحراك والحوار والجدل حول المسلسل وكأنه شلال كسر الحدود، وأسعدنى أن المسلسل لم يكن للنقاد فقط ولا للجماهير فقط ولكن الجميع أشاد به، وأعتقد أنه على قدر المغامرة التى قمت بها كانت النتيجة مرضية، وصدقنى إذا قلت لك أنا طوال الوقت راضٍ بما يمن به الله علىّ. 

قلت له: لكن هذا النجاح مؤكد أنه مربك لك... الآن كما أعتقد تسأل نفسك عما ستقدمه بعد «الحشاشين»؟ 

قال: لست مرتبكًا ولا أفكر بهذه الطريقة.. أنا عندما أنجح أسكت وأسلمها لله، فأنا تعودت ألا أفرح حتى النهاية ولا أحزن حتى النهاية، فلو أن العمل لم ينجح أحاول طول الوقت أن أبحث عن أخطائى، ولو نجح لا أترك نفسى لفرحة شديدة، لأن الفرح الشديد يضر أكثر مما ينفع، والحزن الشديد أيضًا يمكن أن يعصف بك، أحاول دائمًا أن أكون متوازنًا، وعندما ينجح لى عمل أبعده عن عقلى تمامًا لأبدأ من جديد، وكأننى أتعلم الكتابة من الأول. 

قلت: معنى ذلك أنك لم تستقر بعد على عملك القادم بعد «الحشاشين»؟ 

قال: حتى الآن كلها أفكار.... ونسأل الله التيسير.