الخميس 09 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«قميص غزة» .. مُنظر الجهادية التكفيرية يحاكم حماس وحزب الله وإيران بكتابه

الدمار في غزة
الدمار في غزة

شنت إسرائيل عدوانها على قطاع غزة يوم السبت الموافق 27 ديسمبر 2008 ثم أعلنت عن وقف إطلاق النار من جانبها يوم 18 يناير 2009م، وقبل ثلاثة أيام من وقف إطلاق النار أعلنت جريدة الشرق الأوسط عن انتهاء د. فضل «السيد إمام عبدالعزيز شريف» من كتابه قميص غزة!، كما أعلنتْ عن حصولها على حق نشر الكتاب. وسوف أقوم فى هذا الموضوع بعرض أهم ما جاء فى هذا الكتاب الذى يحمل فى طياته كثيرًا من الصدمات والحقائق الموجعة للكثيرين، بينما سيكون تعليقى على ما جاء به فى الفقرات الأخيرة. وأعتقد أن أهمية عرض الكتاب الآن هو ما تمر به المنطقة منذ هجمات السابع من أكتوبر 2023م وما تلاها من عدوانٍ غاشم على قطاع غزة. فمن هو المؤلف، ولماذا كتب كتابه هذا؟!

قصف غزة

كتاب عام 2008م الذى يحكى قصة اليوم

د. فضل هو الاسم الحركى للسيد إمام الشريف الذى يحمل لقبًا جهاديًا هو عبدالقادر بن عبدالعزيز. أحد أهم الأسماء فى تاريخ الجماعات الإرهابية التكفيرية التى أطلقت على نفسها مسمى «الحركات الجهادية الإسلامية» فى أكثر من نصف قرنٍ. فهو من وجوه الصف الأول من «المنظرين» لهذا الفكر، وكانت بعض مؤلفاته مراجع جهادية فى مراكز تدريب مقاتلى القاعدة وغيرها. ويكفى أن نشير إلى عناوين بعض مؤلفاته تلك حتى نعرف عمن نتحدث! «الإرهاب من الإسلام، ومن أنكر ذلك فقد كفر»، «العمدة فى إعداد العدة!» إذن فنحن نتحدث عن أحد أعمدة الفكر التكفيرى الملهم للحركات والجماعات التى اكتوت بنيران جرائمها دول الشرق الأوسط، وفى القلب منها مصر!. 

ثم تحول ليصبح أحد رموز ما يسمى بالمراجعات الشرعية منذ عام ٢٠٠٧م تقريبًا حين أصدر «وثيقة ترشيد العمل الجهادى!».

حركة حماس

يبدأ د. فضل فى مقدمة كتابه بذكر السبب الذى دفعه إلى كتابة هذا الكتاب الشائك فى وقت العدوان على غزة عام ٢٠٠٨م وطبيعة كتابه «هذه أمورٌ تواردت على خاطرى مع الهجمة الإسرائيلية على قطاع غزة بفلسطين، وكان الباعث لى على كتابة هذه الخواطر ما رأيته من الخلط بين الحق والباطل، وما رأيته من انسياق الجماهير وراء العواطف والشعارات بغير بصير.. فأردتُ أن أبدى رأيى فى هذه الأمور من منظور إسلامى».

 الجميع يريد أن يقاتلوا إسرائيل حتى آخر جندى مصرى وآخر جنيه مصرى

فى البداية كان ضروريًا أن يفسر فضل معنى عنوان كتابه «قميص غزة» تفسيرًا مدعمًا بالأحداث التاريخية.. فيرجع بالفكرة إلى أصلها الأول فى تاريخ المسلمين فيقول: «كان بداية رفع القمصان فى أمة الإسلام لتبرير ما عليه الإنسان من الخطأ ولترهيب مخالفيه: عندما رفع معاوية بن أبى سفيان قميصَ عثمان بن عفان – الذى قُتل فيه ظلما وعدوانا – لتبرير خروجه (أى معاوية) على على بن أبى طالب وقتاله له، وقد سقط بسبب هذا القميص آلاف القتلى من المسلمين لم يُقتل مثل عددهم فى كل معارك المسلمين قبلها مجتمعة منذ ظهور الإسلام وحتى فتوحاته فى الجزيرة العربية وبلاد فارس والروم».

ثم يستعرض كيف تم استغلال فكرة القمصان عبر تاريخ المسلمين.. ويحدد واجبًا على علماء الدين القيام به.. «ثم تتابعت القُمُص بعد ذلك فى تاريخ الأمة، ومعظمها كان سببه المنازعة على الملك والسلطان... ثم كان آخر هذه القُمُص هو قميص غزة، حتى رفعه فى هذه الأيام من لا شأن لهم بغزة أو فلسطين من قريبٍ أو بعيدٍ لتوزيع الاتهامات والتخوينات هنا وهناك».

«ومع رفع القمصان التى لها قدسية عند الجماهير يتم إرهاب المخالف لإسكاته، ويستمر المخطئ فى خطئه، وتضيع الحقيقة بين الناس، وهنا يأتى دور من لديه شىء من العلم لكشف الحقائق وتمييز الحق من الباطل.. وليس من واجب أهل العلم بالدين مجاراة أهواء الناس، بل تمحيصها وبيان ما فيها من حقٍ أو باطل. فلا يجوز لمن أتاه الله شيئا من العلم بالدين أن يجارى الناس ويقول إن فلسطين هى أم القضايا، إلا إذا كانت هى كذلك فعلًا بعد بحثٍ وتدقيق..والحقيقة التى لا تحتاج إلى كثير بحث، هى أن فلسطين ليست أم القضايا!».

تبدأ صدمات فضل حينما يحدد بعض ضحايا ما سماه «أكذوبة أن فلسطين هى أم القضايا»..يقدم سردًا تاريخيًا لاستغلال قميص فلسطين، ويوضح كيف دفع الفلسطينيون أنفسهم ثمن هذا الاستغلال.. «وقد كان أول ضحايا هذه الأكذوبة – فلسطين أم القضايا – هم أهل فلسطين أنفسهم. فبسبب (أم القضايا) أعطى ياسر عرفات لنفسه حق التدخل فى شئون الآخرين، وقبول ما يشاء ورفض ما يشاء، وتخوين من يشاء لأنه صاحب القضية، فجلب هذا على الفلسطينيين الويلات. ابتداءً مما ارتكبه الفلسطينيون فى الأردن من أفعال مشينة – بعد نزوحهم إليها بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية – فوقعت مذابح أيلول ١٩٧٠م قتل فيها آلاف الفلسطينيين ثم طُردوا من الأردن إلى لبنان. وفيها كرر عرفات الأخطاء نفسها لأنه (أبو القضية) والكل ينبغى أن يكون طوع أمره، فكانت مذبحة تل الزعتر ١٩٧٦م ثم مذبحة صابرا وشاتيلا سقط فيهما آلاف الفلسطينيين. عندما شرع عرفات فى مفاوضاته مع إسرائيل وظهر مشروع الدولة الفلسطينية، قيل لعرفات هل تستطيع أن تحكم دولة؟ فقال (كيف لا وقد كنتُ أنا الذى أحكم بيروت؟) ثم تسبب عرفات بعد ذلك فى طرد آلاف الفلسطينيين وقطع أرزاقهم بسبب موقفه المساند لصدام حسين فى احتلال الكويت عام ١٩٩٠م».

كل قطرة دم سالت من الفلسطينيين منذ عام 1978م سواء فى فلسطين أو لبنان هى فى رقبة عرفات

«ولأنه صاحب أم القضايا، فقد رفض عرفات الحكم الذاتى الكامل للضفة الغربية وقطاع غزة – قبل أن يكون فيهما أى مستوطنات – الذى قدمه له الرئيس المصرى أنور السادات على طبقٍ من ذهب بدون جهدٍ منه بمقتضى اتفاقية كامب ديفيد ١٩٧٨م. ومازلتُ أذكر كلمة الرئيس المصرى التى كررها عن هديته للفلسطينيين، فكرر بالإنجليزية – فُل أوتونومى – أى حكم ذاتى كامل، فاستكبر عرفات وغيره ورفضوا الهدية، ثم ذهب عرفات بنفسه إلى كامب ديفيد الثانية بعد عشرين عامًا ولم يحصل على شىء حتى مات محسورًا محصورًا فى بيته عام ٢٠٠٥م. جاءت الفرصة الذهبية لعرفات فرفضها، ولم تأت الفرصة مرة أخرى.. كان عرض السادات فلتة أظنها لن تتكرر، لهذا فإننى أقول إن كل قطرة دم سالت من الفلسطينيين منذ عام ١٩٧٨م سواء فى فلسطين أو لبنان هى فى رقبة عرفات».

قادات حركة حماس

هؤلاء ليسوا أمناءً على شعوبهم

يتهم مؤلف الكتاب زعماءَ حركة حماس وحزب الله بأنهم ليسوا أمناء على شعوبهم ويجب أن تُعقد لهم محاكمات شرعية تحاسبهم على عبثهم ومغامراتهم واستهتارهم بشعوبهم! يضع فضل ما قامت به حماس عام ٢٠٠٨م بصفتها حاكمة قطاع غزة فى ميزان الشرع الإسلامى. فتحت عنوان «التصرف مع العدو بحسب القدرة لا الواجب» أفاض المؤلف فى توضيح رؤيته لدور حماس فى العدوان الإسرائيلى على القطاع فى ذلك العام فيقول «مع بداية مأساة غزة الحالية طالب قادة حماس – حكام غزة – أهالى غزة بالصبر والثأر، وأنهم لن يستسلموا ولو تمت إبادة غزة كلها. وهذا الكلام ليست له أى صلة بدين الإسلام الذى سيحاسبنا ربنا على أساسه. فلا يجوز إجبار الناس على ما لا طاقة لهم به. ثم تحميل الآخرين تبعات ذلك، وتوزيع الاتهامات بأن هذا خان القضية وهذا باع القضية».

قادة «حماس» أعلنوا أنه لا مانع لديهم من إبادة غزة.. والله سيحاسبهم على الدماء

ثم يدلل د. فضل على رؤيته هذه بمواقف من سيرة النبى «صلى الله عليه وسلم»، وعرض لحال المسلمين من الجيل الأول للصحابة فيقول نصًا «وقادة حماس الآن يأمرون أهل غزة بما لم يأمر به النبى عليه الصلاة والسلام أصحابَه وهم خير أمة الإسلام. ففى حياة النبى (ص) وجدت عدة مجتمعات إسلامية فى أماكن وظروف مختلفة، وعمل كلٌ منها باختيار شرعى بحسب ظروفه، من دون نكير من النبى على أحدٍ. ومنها مسلمون متمكنون لهم منعة فى دولة مسلمة مجاهدون وهم النبى (ص) وأصحابه بالمدينة المنورة. ومسلمون مستضعفون مضطهدون تحت سلطة كافرة محاربة، وهم عاجزون عن الهجرة والجهاد وهم من بقى فى مكة بعد الهجرة، ولم يأمرهم النبى (ص) بالجهاد رغم تشريعه وعذرهم الله. ومسلمون مستضعفون غير مضطهدين وهم تحت سلطة كافرة مسالمة لهم، وهم المهاجرون بالحبشة وهؤلاء لم يؤمروا أيضا بالجهاد رغم تشريعه».

ما تفعله «حماس» فى غزة عبث فقد فرضت المعركة وهى عاجزة عن حماية الأهالى

ويخلص د. فضل إلى نتيجة.. «ولهذا لم يأمر النبى (ص) من بقى بمكة من المستضعفين بالجهاد، إذ كان ذلك يعنى هلاكهم. ولهذا أيضا انسحب خالد بن الوليد فى غزوة مؤتة. وحاصل ما سبق هو أن الجهاد أو مقاومة العدو ليس من المقدسات التى لا يجوز التخلى عنها، وإنما هو أحد الخيارات مع العدو بحسب مصلحة المسلمين التى يقدرها أهل العلم بالدين والواقع لا أهل الانتهازية السياسية الذين يتخذون المقاومة وسيلة لكسب شرعية أو شعبية ولو بالتضحية بالشعب».

جنود حماس

ثم يستكمل حديثه عن حماس قائلا: «ومما سبق نعلم أن ما تفعله حماس فى غزة اليوم هو عبث ليس له صلة بدين الإسلام. فرضت حماس المعركة على أهل غزة وهى عاجزة عن حمايتهم وتأمينهم، وليس لديها أى دفاعات جوية، وغزة ليست أرضا حصينة بل هى سهلٌ منبسط مكشوف بلا جبال ولا غابات. فلا يجوز الخلط بين عبث حماس ودين الإسلام، فما تفعله حماس مصادم للدين الآمر بالحرص على الرعية. ولكن حماس أعلنوا أنه لا مانع لديهم من إبادة غزة. إن الله سبحانه وتعالى سوف يسأل قادة حماس عن كل قطرة دم سالت فى غزة وعن كل خرابٍ وقع. ما يجرى الآن فى غزة ليس هو الهجوم المباغت للعدو على البلدة بغير إرادة أهلها، وإنما هو استفزاز العدو من جانب حماس ليهجم على البلدة عن عمد لأغراضٍ سياسية تريدها حماس على حساب الشعب. ولا يجوز للفلسطينيين طاعة قادة حماس فى عبثهم، فإن فعلوا ذلك فسقوا». 

 قادة حماس الآن يأمرون أهل غزة بما لم يأمر به النبى عليه الصلاة والسلام أصحابَه

يرى فضل - بناءً على ما قامت به حماس وقام به حزب الله، وبناء على تصريحات قادة كل من الحركة والحزب - أنهم ليسوا أمناءً على شعوبهم.. «أعلن زعيم حماس خالد مشعل انتهاء الهدنة مع إسرائيل وعدم تجديدها من الفنادق الفاخرة والملاذ الآمن فى دمشق، وهرب قادة حماس الداخل إلى سراديب غزة ومخابئها، وتركوا شعب غزة يدفع الثمن. قتلى بالمئات وجرحى بالآلاف، أى أنهم تترسوا بشعبهم وجعلوا شعبهم دروعصا بشرية تحميهم. هؤلاء ليسوا أمناء على شعوبهم. صنع قادة حماس الكارثة ثم استغلوها فرفعوا قميص غزة – الذى نقعوه فى الدماء بأيديهم – لإثارة الغوغاء وللشكوى والصراخ، ولتخوين الآخرين وتحميلهم المسئولية. هذا كله تلبيس للأمور وخلط للحق بالباطل. والصحيح أن مسئولية مذبحة غزة بدمائها وأشلائها يتحملها قادة حماس وحدهم. هذا هو شرع الله، فهم كانوا حكام غزة، وهم وحدهم قرروا إنهاء التهدئة بما يعنى بدء الحرب مع إسرائيل.. فى عام ٢٠٠٦ اختبأ حسن نصرالله زعيم حزب الله فى لبنان وتترس بشعبه حتى قُتل منهم أكثر من ألف إنسان وآلاف الجرحى ومليون مشرد وخراب واسع، وفى آخر عام ٢٠٠٨م كررها قادة حماس فى غزة. أمثال هؤلاء يجب أن تُعقد لهم محاكم شرعية تحاسبهم على عبثهم ومغامراتهم واستهتارهم بشعوبهم».

يتعرض د. فضل فى كتابه لنقطة هامة جدًا ويضعها تحت عنوان «كل إنسان مسئول عن تبعات قراره»: «إذا اختار إنسان أمرًا ما ثم حدث له ضرر بسبب اختياره، فلا تُقبل منه الشكوى من ذلك، ولا يجوز أن يتحمل غيره ضرره خاصة إذا نصحه الآخرون بأن الرشد بخلاف ما اختار وأن اختياره قد يضر» ويستفيض فى التدليل الدينى على رأيه هذا بوقائع حدثت أيام النبى (ص) وفى الصراع على الخلافة».

يقول فضل «وبهذا تعلم أن ما يفعله قادة حماس مع أهل غزة وغيرهم لا يجوز شرعًا، هم أصحاب القرار وعليهم تحمل تبعاته وحدهم، ولا يُلام أحدٌ على عدم مساعدته لهم. أما أن يتخذ قادة حماس قرار الحرب ويريدون أن يحارب الآخرون نيابة عنهم ويدفعون ثمن قرار حماس فهذا باطل ونوع من الاستغفال للآخرين وإرهابهم بقميص غزة. قادة حماس هم أصحاب القرار وعليهم تحمل كل تبعاته، وفى رقابهم كل قطرة دم».

ينتقل بنا د. فضل إلى نقطة أخرى عانت مصرُ منها كثيرا منذ توقيع اتفاقية السلام، وتم استخدامها ضد مصر بشكلٍ ظالم باطل.. يفاجئ فضلُ كل الذين خونوا مصر برأى يرى أنه يتسق مع الدين الإسلامى. وضع فضل لذلك عنوانًا هو (الوفاء بالعهد مقدم على نصرة الصديق) فيقول: «لو أن رجالًا أو دولة عاهدوا عدوًا على المسالمة وعدم الحرب فقد وجب الوفاء بهذا العهد. ولا يختلف أهل العلم بالدين على أن الوفاء بالعهود واجب مع المسلم والكافر. فإذا حارب هذا العدو قومًا آخرين، فلا تجب نصرتهم على من عاهدوا العدو على عدم الحرب» ويستدل بآية ٧٢ من سورة الأنفال وبواقعة حذيفة بن اليمان فى عدم المشاركة فى غزوة بدر.

ثم تأتى أهم فقرة من فقرات هذا العنوان.. «فلو أن قوما رأوا مصلحتهم فى الصلح مع إسرائيل ورفضه آخرون، فلا يجوز لمن رفض أن يُحمل تبعات قراره لمن صالحها، ولا يجب على من صالحها نصرة من رفض الصلح إذا دخل الحرب معها. كل إنسان يتحمل تبعات قراره. واليوم اختارت حماس الصدام مع إسرائيل، فليحاسبها شعبها على قرارها، ولكن لا يجوز تحميل الآخرين تبعات قرار حماس، فمن أشعل النار عليه أن يطفئها، ومَن كَسر جَبر».

قادة حماس

وضع أحد قادة حماس نظرية اتخاذ الشعب دروعًا بشرية أى التترس بالشعب ضد قنابل العدو

يرى د. فضل أننا - ولكى نفهم سلوك وسيرة وطريقة عمل حماس بشكلٍ صحيح - يجب أن نرد الفروع إلى أصولها، فحماس التى تحكم غزة اليوم ما هى إلا فرع من جماعة الإخوان التى نشأت بمصر عام ١٩٢٨م. وأن هذه الجماعة تسببت فى العديد من الكوارث لشعوب المنطقة العربية خلال القرن العشرين. وضع فضل عنوانًا لهذه الفقرات هو «كوارث الإخوان المسلمين على المسلمين من حماة إلى غزة». ويبدأ حديثه بعبارة صادمة لكل الذين ساندوا ما يسمى بجماعات الإسلام السياسى، فها هو أحد كبار منظرى تلك الجماعات يعترف أخيرًا بهذه الحقيقة التى – وبكل أسف دينى ووطنى – لا يزال ينكرها بعض من يعدون أنفسهم من المثقفين أو المدافعين عن الإسلام! قدم فضل هذا الاعتراف عام ٢٠٠٨م، ثم قام ملايين المصريين بتجريع مصر هذه المرارة فى انتخابات عام ٢٠١٢م!

يقول فضل فى اعترافه «إنه لا توجد جماعة إسلامية من المعروفين فى الدنيا اليوم قد وضعت قدمها بعدُ على بداية الطريق الصحيح لنصرة الإسلام وإعزازه، كلهم – ومنذ قرن من الزمان – يجربون أفكارهم فى المسلمين ويعملون من أجل مصالح محدودة، فجلبوا الكوارث على المسلمين بسبب تقديم الرأى والهوى على الشرع.. وكان من أكبر من جربوا أفكارهم فى المسلمين وتعددت كوارثهم جماعة الإخوان المسلمين فسببوا الخراب للمسلمين فى بلادٍ كثيرة!».

يبدأ د. فضل فى استعراض موجز لبعض كوارث جماعة الإخوان فى بعض البلدان العربية والإسلامية قبل أن يصل لفرعها فى غزة.. يبدأ أولا بلفت الانتباه لقوة التنظيم الدولى للإخوان الذى تكون بعد خروجهم من مصر وبعد أن منحهم حكام بعض الدول – نكاية فى عبدالناصر – الجنسيات وكونوا ثرواتٍ طائلة..

ثم يبدأ فى عرض بعض جرائم الإخوان «لعل أقرب الكوارث الإخوانية على المسلمين مشابهة لما يحدث اليوم فى غزة هو ما فعله إخوان سوريا أيام رئيسها حافظ الأسد فى مدينة حماة التى تجمعوا فيها وسيطروا عليها وأعلنوا التمرد على الدولة عام ١٩٨٢م وذبحوا طلاب مدرسة المدفعية ونفذوا حركة إعدامات بالمدينة ثم تترسوا بالشعب. كان لهم قادة يديرون هذا التمرد من العراق هم عدنان سعد الدين وسعيد حوى وكانوا يقيمون عند صدام حسين العدو اللدود لحافظ الأسد. كانت لهم معسكرات تدريب فى العراق لتدريب الشباب السورى والدفع بهم للقتال فى حماة. وكما انتهت مغامرة حماة بكارثة بشعة، ففى غزة كارثة بشعة من بدايتها، لكن حماة اعتبرها الناس شأنًا داخليًا فلم يشتهر أمرها إلا لدى الخاصة، أما غزة فمسألة دولية كأمها فلسطين أم القضايا!».

«فكيف انتهت مأساة حماة الإخوانية؟ حاصرتها القوات السورية بالدبابات فتحولت لسجنٍ كبير ثم قصفتها بالطيران فقتل فيها عشرون ألف إنسان تحولوا إلى أشلاء ودماء».

أفرد فضل مساحة لتصريحات بعض قادة حماس.. «قال قائد حماس فى غزة إسماعيل هنية لن نستسلم حتى لو أبادوا غزة.. الأهرام ٣١ ديسمبر ٢٠٠٨م. وكرر ذلك خالد مشعل من ملاذه الآمن بدمشق ٢ يناير ٢٠٠٩م حيث قال إن قصف طيران إسرائيل لغزة طيلة الأسبوع لم يسبب إلا خسائر طفيفة فى البنية العسكرية لحماس. فهل يقول هذا الكلام إنسان عاقل؟».

اثار القصف فى غزة

فى الحروب لا بد من مراعاة الحسابات المادية لا انتظار الكرامات. أما المغامرات فلا تجلب إلا الكوارث ولا يتحمل مسئوليتها إلا من اتخذ قرارها كما هو الحال فى مغامرة حماس التى لا يعير قادتها الحسابات المادية أى اعتبار، وهذا مخالف لشريعة الإسلام. وفى مقال د. حسن أبوطالب قال (حين يقول قائد بحجم مشعل إن حساباته وحسابات منظمته تقوم على حسابات المزاج وليس حسابات العقل والمنطق، فإننا نكون أمام نموذج سياسى لا يقيم للحقائق المادية أى اعتبار. الأهرام ٣١ ديسمبر ٢٠٠٨م).

«فعندما حاصر كفار مكة وحلفاؤهم المدينة تجهز النبى (ص) للدفاع عن المدينة بحفر الخندق حولها ونهى عن استفزاز الكفار المحاصرين للمدينة حتى لا يقتحموها وأرسل حذيفة بن اليمان ليندس وسطهم وقال له ائتنى بخبر القوم ولا تذعّرهم علىّ – أى لا تهيجهم ولا تستفزهم. أما أفعال حماس فكانت بخلاف هذا كله، فاستفزوا إسرائيل بصواريخ القسام بمجرد انتهاء التهدئة فأعطوا إسرائيل ذريعة للحرب، وليس لديهم أى دفاع جوى ولا عمق استراتيجى. فكانت أفعالهم من باب العناد والمغامرة على حساب شعب غزة المكشوف، ولا بد أن يؤدى ذلك إلى كارثة إخوانية فى غزة بسبب سوء تقدير الأمور والاستهتار بالشعوب إلى أبعد مدى من أجل التمسك بالسلطة».

يلقى د. فضل بمفاجأة قاتمة.. «وبلغت المغامرة والاستهتار بالشعب إلى حد أن وضع أحد قادة حماس نظرية اتخاذ الشعب دروعًا بشرية أى التترس بالشعب ضد قنابل العدو، وذلك بالتخفى بين الناس. وبهذا المبدأ يتم قتل الناس فى غزة اليوم، ومنهم واضع هذا المبدأ وهو نزار ريان الذى قتلته إسرائيل بصاروخ على منزله هو و١٤ فردا من أفراد عائلته أول يناير ٢٠٠٩م». 

«وهذا كله يخالف سنة النبى (ص) الذى بلغ من حرصه على النساء والأطفال أن وضعهم فى حصنٍ بالمدينة فى غزوة الأحزاب بعيدًا عن جيش المسلمين حتى لا يؤذيهم العدو.. وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يكره أن ينقل المجاهدون ذراريهم – نساءهم وأطفالهم – إلى الثغور المخوّفة أى نقاط التماس الساخنة مع العدو حتى لا يصيبهم العدو، فجاء حزب الله وحماس وأطلقا صواريخهما من وسط النساء والأطفال ليصنعا لنفسيهما بطولات على حساب هؤلاء، ثم صرخا «أغيثوا غزة.. غزة منكوبة».

إيران وقميص غزة.. وحماس تحرم أهل القطاع من الحج

يقول فضل نصًا.. «مع قرب حلول عيد الأضحى الماضى الذى وافق ٨ ديسمبر ٢٠٠٨م ظهرت إعلانات فى وسائل الإعلام المصرية تدعو للتبرع بالأضاحى لصالح أهل غزة، وبأسعار مبالغٍ فيها وتم جمع مبالغ طائلة لهذا الغرض. وهنا عدة ملاحظات أولها محلية الصدقات. حدد الله لمن تُعطى الصدقات وحدد رسول الله (ص) أين تعطى الصدقات. فلا يجوز نقل صدقات المصريين إلى غزة وغيرها إلا بعد سد حاجة فقراء مصر، ولا يجوز دفع الصدقات أو الزكاة أو ثمن الأضاحى لمن أعلن أنه سينقلها إلى غزة. وحقيقة ما حدث فى موضوع نقل أضاحى المصريين وغيرها من التبرعات والأدوية إلى غزة هو أن الإخوان المسلمين فى مصر يجاملون الإخوان المسلمين فى غزة حماس ويحلون مشاكلهم على حساب فقراء مصر وبهذا يكسب إخوان مصر الشعبية وتكسب حماس شعبية فى غزة على حساب ظلم فقراء مصر بحرمانهم من أضاحى وصدقات المصريين، كما تم استغفال أغنياء مصر بجمع أموالهم وإنفاقها فى غير المكان الذى حدده الرسول (ص) وتم هذا كله بقميص غزة».

ثم يتحدث د. فضل عن كواليس واقعة مهمة حدثت فى ذلك العام وهو قيام حماس بمنع أهل القطاع من الحج.. «وإخوان غزة حرموا مسلمى غزة من الحج لأغراض سياسية، وهذا نموذج للتلاعب بأحكام الدين من أجل المصالح الشخصية والسياسية من المتحدثين عن الإسلام. فلماذا منعت حماس الحجاج من الخروج من غزة للحج؟ حاولت حماس الحصول على شىء من الشرعية من جانب مصر والسعودية من طريق إرسال الحجاج ببطاقات منها دونما جوازات من السلطة الفلسطينية، وكان المراد بذلك الحصول على الاعتراف وإحراج مصر والسعودية. وسارعت السلطة الفلسطينية – أبومازن – للاعتراف بكل حجاج حماس، وهيأت للمساعدة على استقبالهم من الجهة المصرية، لكن حماس كان قد استجد لديها هدفٌ آخر يتمثل فى مهاجمة مصر والسعودية وبدوافع الاستجابة لإيران التى دعمتها ولا تزال تدعمها لتمكينها من الاستمرار فى تقسيم الفلسطينيين أرضا وشعبا.. وبهذا صارت فريضة الله الحج لعبة وورقة سياسية عند الإخوان المسلمين – حماس – للتمسك بالسلطة ولتصفية حسابات سياسية. ولم ينكر عليها هذا التصرف لا إخوان مصر ولا قادة حماس فى دمشق ولا مرشد الثورة فى إيران ولو بتوجيه نداء لإطلاق الحجاج المحصورين عندها. كلهم سكتوا وتواطأوا على الباطل».

يفصل فضل الدور لإيرانى فى استغلال «أم القضايا» قائلا.. «ونظرا للنفور القديم بين السنة والشيعة فقد لجأ الخمينى إلى عدم الكلام فى الخلافات بينهم ثم أراد الإمساك بورقة قضية إسلامية مهمة تجمع حوله المسلمين سنة وشيعة. ولم يكن هناك ورقة أفضل من فلسطين أم القضايا.. وهى نفس الورقة التى لجأ إليها بن لادن كما قال تابعه أيمن الظواهرى نصا فى كتابه فرسان تحت راية النبى (ص) الذى كتبه قبل أحداث سبتمبر ٢٠٠١. يقول الظواهرى فى كتابه «إن الحقيقة التى يجب التسليم بها هى أن قضية فلسطين هى القضية التى تلهب مشاعر الأمة المسلمة من خمسين عامًا. لذا يجب على الحركة الإسلامية المجاهدة أن ترفع شعار تحرير المقدسات الإسلامية الثلاثة الكعبة المشرفة والمسجد النبوى الشريف والمسجد الأقصى المبارك، بهذا تجتمع لها أزمّة قيادة الأمة المسلمة وتلتف حولها قلوب المسلمين فى بقاع الأرض» فقضية فلسطين عندهم ما هى إلا شعارات للوصول إلى قيادة الأمة المسلمة.

قادة حماس فى ايران

أما كيف فعلت إيران ذلك؟ فيجيب فضل فى فقرات مطولة.. «وكان مما فعلته إيران للإمساك بورقة فلسطين.. الاستيلاء على السفارة الأمريكية فى طهران عام ١٩٨٠ واحتجاز دبلوماسيين بها كرهائن وهذا التصرف مخالف للشريعة الإسلامية التى تنهى عن التعرض للسفراء بأى أذى. ولما قدم رسولا مسيلمة الكذاب على النبى (ص) قال لهما لولا أن الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما». ثم سلمت إيران السفارة لياسر عرفات لتكون سفارة لفلسطين فى طهران وقالوا لعرفات كما سلمناك هذه السفارة سنسلمك مفاتيح القدس، أى أنهم صاروا هم أصحاب قضية فلسطين.. ثم حدثت جفوة بين ساسة إيران وبين عرفات، فقد كانوا يريدونه تابعًا لهم وبذلك يكونون أوصياء على فلسطين وقادتها فى حين كان عرفات يريد أن يخدمه الكل وينفذوا طلباته لأنه أبو القضايا فلم تستمر العلاقات بينهما. فلجأت إيران إلى المنظمات الشعبية للالتفاف على الحكومات ولتكون بيدها أوراق سياسية تتدخل بها فى الشئون الداخلية والخارجية لدول المنطقة. ومن هذه الأوراق حزب الله اللبنانى .منظمة حماس. منظمة الجهاد الإسلامى الفلسطينى. تنظيم الشباب المؤمن أو الحوثيون بشمال اليمن..».

 «حماس» تتلقى التعليمات من إيران وتريد أن يسدد شعب مصر فاتورة مغامراتها

يصف فضل ما تفعله إيران مع هذه التنظيمات «لقد قامت إيران بدعم هذه المنظمات الشعبية الموالية لها دعما سخيا حتى صارت على درجة من القوة تناطح بها حكومات بلادها، ففى لبنان حزب الله يناطح بقوته حكومة لبنان، وفى فلسطين حماس تناطح حكومة أبومازن.. واليوم حماس تتلقى التعليمات من إيران وتريد أن يسدد شعب مصر فاتورة مغامرتها وتطحن شعبها فى غزة».

أسهب فضل فى تعرية حقيقة الدور الإيرانى المزعوم فى مساندة القضية الفلسطينية فى فقرات عديدة حتى قال «.. هذه هى المواقف الرسمية الإيرانية الحقيقية. ولكن لا مانع لديهم من المتاجرة بقميص فلسطين وقميص غزة، والموت لأمريكا والموت لإسرائيل شعارات لا تكلف شيئا إلا مظاهرة وميكروفون وحرق علم».

يوجه فضل جزءًا من كتابه لمخاطبة الشعوب العربية تحت عنوان «الشعوب العربية وقميص غزة» ولا أجد أفضل من بعض تلك العبارات القاطعة الموجعة لكى أختتم بها هذا العرض الموجز لهذا الكتاب..

يقول د. فضل: «مع بدء مأساة غزة الحالية هاجت بعض الشعوب العربية وخرجت فى مظاهرات تصب غضبها على مصر فقط، كلهم يريدون أن يقاتلوا إسرائيل حتى آخر جندى مصرى وآخر جنيه مصرى».

«حماس انفردت بالقرار وعليها وحدها تحمل التبعات لا أن تستغفل الآخرين بقميص غزة وتحملهم التبعات والأخطاء.. وبعد مضى أسبوع على بدء الحرب فى غزة بدأ الحديث عن إعادة إعمار غزة، فأقول: إذا ما استقرت الأمور فإن المسئول عن إعمار غزة هو حماس وحدها فمن كَسَر جَبَر. أما إذا قام أحمق بتخريب بيته وبناه الناس له فسوف يكرر التخريب، وكل إنسان مسئول عن تبعات قراره.

قادة حماس

تعليقًا على بعض ما ورد بالكتاب

لنبدأ بنقطة فاصلة حتى نغلق أى بابٍ للمزايدة على إنسانيتنا جميعًا فأقول.. إنه لا يوجد شخصان طبيعيان على هذا الكوكب يمكنهما أن يختلفا فى المشاعر الإنسانية أو أن يكون لأحدهما رأىٌ يبرر به قتل إنسانٍ واحد برىء، فما بالك بكل هذه الدماء الطاهرة لآلاف الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ! 

ولعل هذه الدماء تحديدًا تكون هى الباعث الحقيقى لاستعراض ما كتبه فضل وصدمنا به حين نقارن موقف النبى «ص» فى حماية النساء والأطفال بما شاهدناه وسمعناه على الهواء مباشرة من بعض قيادات حماس.. فأحدهم قال صراحة إن الأنفاق هى لحماية المقاتلين أما أهل القطاع فهم لاجئون تقع مسئولية حمايتهم على قوات الاحتلال! لقد تركوا الأسر فى العراء واختصوا أعضاءهم بالأنفاق!.

أحد قيادات «حماس» قال صراحة إن الأنفاق هى لحماية المقاتلين أما أهل القطاع فهم لاجئون

احتوى الكتاب – انطلاقًا من شخصية كاتبه وخبراته السابقة – تفسيرات حقيقية لبعض الأحداث التى كان الناس يجهلون خلفياتها وقت حدوثها مثل تفصيل ما حدث فى حماة السورية، ومثل تتبع الدور الإيرانى مع المنظمات الفلسطينية وغيرها. لذلك فللكتاب أهمية وثائقية رغم أن كاتبه لم يقصد ذلك وإنما كتبه بغرض تقييم المسارات السياسية لتلك التنظيمات من منظور شرعى دينى!. 

وهذه هى الملاحظة الأولى لى على الكتاب. فالشيخ فضل لم يبرأ أو يتبرأ تمامًا مما كان يعتنقه من أفكار! هذه هى الحقيقة الساطعة من بين فقرات وأسطر الكتاب! ورغم أنه كان أحد رموز ما يسمى بالمراجعات التى تبنتها بعض قيادات الجماعات التكفيرية، لكن ما يصل للمرء من القراءة العميقة لهذا العمل أن فكرة د. فضل التى تبناها هى أن تلك الجماعات قد وقعت فى أخطاء شرعية على رأسها عدم تقدير قوتها والزج بالشعوب فى كوارث بناء على هذه التقديرات الخاطئة. وأن هذه الجماعات لم تضع قدمها على الطريق الصحيح بعد وأنها كانت تُجرب فى الشعوب فى القرن الماضى!.

كلامٌ فى منتهى الخطورة ويستدعى أن نراجع بدقة ما يسمى بكتابات المراجعات! وأنا أرد على د. فضل بأن الخلاف معه ومع جماعاته كلها هو خلاف مبدئى على شرعية وجودها فى الأصل لا على مسلكها من حيث اتباعها أو خروجها على الشرع! لأن الأساس الذى تقوم عليه الفكرة باطل ويتناقض مع فكرة الدولة الدستورية! فلا دول داخل الدولة.. ولا شرعية لأية منظمات على أرض مصر غير شرعية الدستور المصرى!

حين نفى د. فضل أن تكون فلسطين هى أم القضايا استطرد كثيرًا ووصل إلى القول أن أم القضايا هى غياب الخلافة الإسلامية وغياب الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية! قرأتُ عباراته عدة مرات من فرط دهشتى وذهولى مما كتبه أحد رموز المراجعات! وأقول له إن الخلافة لم تكن سوى فترة تاريخية وصورة من صور الدول الكبرى وليست جزءًًا من الدين ذاته! فكرة عودة الخلافة كانت هى القميص الذى نقعته جميع الجماعات التكفيرية فى دماء المصريين المراقة فى القرن العشرين، وكل جرائم الجماعات التكفيرية على الأرض المصرية إنما كانت بسبب وهم وقميص عودة الخلافة! اتفقوا جميعهم على رفع هذا القميص واختلفوا فقط فى الطريق والطريقة، فبعضهم استباح دماء رجال المؤسسات الوطنية فقط من قوات مسلحة وشرطة وقضاء ورجال سياسة ومفكرين، بينما استباح البعض الآخر دماء جميع المصريين! هذه هى الحقيقة البائسة!

استكمالًا لإيمانه بوهم عودة الخلافة فقد خصص د. فضل بعض فقرات كتابه للدفاع عن الاستعمار العثمانى للدول العربية. واتهم تلك الدول والشعوب بأنها – بمقاومتها لهذا الاستعمار العثمانى – كانت السبب فى ضياع فلسطين! فكرة بائسة بالية غرستها فى عقولنا عبر عقود القرن الماضى كل تلك التنظيمات الإرهابية وساندها فى ذلك كثيرٌ من علماء الدين الذين خدعوا الناس بحديث مكذوب عن بطولات وصفحات ناصعة للخلافة الإسلامية العثمانية فى الدفاع عن الإسلام! ولو أنهم كلفوا أنفسهم بجهد البحث العلمى وقراءة تاريخ بلادهم المصرية حق قراءته لخجلوا من هذا الحديث!.

أما الزعم بأن مقاومة الشعوب للاستعمار العثمانى هى سبب ضياع فلسطين فلا يقوَى على الصمود ومضة واحدة أمام حقائق التاريخ.. ولقد كتبتُ منذ ما يقرب من عام مجموعة مقالات عن أسطورة أرض الميعاد بها إجابة هذا السؤال.. كيف ضاعت فلسطين.

لا أتفق فى منهج د. فضل فى الكتاب بإخضاع السياسة للدين. فهذه الفكرة قُتلت بحثًا منذ قيام الخلافة الإسلامية الأولى وكانت سببًا للاقتتال وإراقة دماء مئات الآلاف من المسلمين بسيوف المسلمين – وهذه أرقام حقيقية وليست مبالغة منى – لأن الدين هو فكرة أو عقيدة دينية فى الصدور، وأخلاقية ينبغى أن تعلن عن نفسها فى السلوك الإنسانى بصفة عامة أفرادًا أو جماعات.. لكن أن تحصر معنى آية كريمة أو حديث منسوب للنبى «ص» بنسبة ما فى قانون سياسى أو موقف سياسى معين فهذا هو السقوط فى الهاوية وبداية امتطاء الدين لتحقيق أغراض سياسية. لكننى آثرت نقل ما كتبه مثل حرص النبى «ص» على أرواح النساء والأطفال فى غزوة الأحزاب لأن هذه أخلاقيات الإسلام لا تتغير بتغير ظروف حرب..هذه هى المسلمات الإسلامية الحقيقية، ومثل صيانة حياة ودماء السفراء وغيرها..هذه أخلاقيات إنسانية سبق وجودها وجود الديانات الإبراهيمية ذاتها ولدينا وثائق مصرية قديمة عمرها آلاف السنوات تؤكد ذلك. لقد نقلتُ فقرات كاملة للرد على من يشيعون بين الناس أن حماس ومن سار على سيرها هم التطبيق الحقيقى للإسلام وأخلاقيات النبوة.. أردت أن أثبت لهم على لسان أحد كبار منظريهم أنهم ليسوا كذلك!.

حماس انفردت بالقرار وعليها وحدها تحمل التبعات لا أن تستغفل الآخرين بقميص غزة وتحملهم التبعات والأخطاء

ولاية الفقيه التى تحدث عنها فى معرض حديثه عن إيران أو فكرة وجود رجل دين فوق أعلى سلطة سياسية فى البلاد يسيطر على مؤسسة الحكم ويأتمر رئيس الدولة بأمره ولا يتخذ قراراته بشكل مؤسسى دستورى وإنما بشكل إملائى منه أو من هيئة لها سمتٌ دينى ويرأسها رجل دين.. كل ذلك حدث بالفعل فى مصر فى عام حكم جماعة الإخوان!.

إننى أعتقد أن المراجعة الحقيقية أو التوبة الحقيقية لأسطون عقلى من أساطين الفكر التكفيرى هو أن يعلن إيمانه بفكرة الدولة الوطنية الدستورية وأن مؤسسات الدولة السياسية أو التكنوقراطية هى وحدها لها الحق الدستورى والقانونى فى أن يناقشها الرئيس ويستشيرها ويطلب منها المشاركة فى اتخاذ قراراتٍ تصب فى صالح الدولة وشعبها.. ديانة الدولة هى فكرة رمزية تعبر عن نفسها فى الدستور بمواد معينة، وفى الواقع بوجود مؤسسات دينية محلية لا تخرج على الدولة، وبحرية ممارسة الجميع لعقائده وشعائره، وباحترام عقائد وشعائر المختلفين معهم فى الديانة.. هذا هو التطور الحضارى وهو يتسق تماما مع شخصية مصر التاريخية، وهذا ما كنتُ أتمنى قراءته فى كتاب د.فضل لكننى للأسف لم أقرأه!.

حين أفاض فيما قدمته مصر من مساعدات لأهل غزة عام ٢٠٠٨م وقطعًا تتضاعف أهمية ما قاله بعد أن قادت مصر وفرضت على العالم تقديم المساعدات الإنسانية لأهل القطاع بعد هجمات السابع من أكتوبر، حين فعل ذلك نظر للموضوع من زاوية ضيقة جدا وهى ما رأى أنه الحكم الشرعى ووصل إلى عدم شرعية إرسال صدقات المصريين وزكاتهم إلى مكانٍ بعيدٍ..وسيتكرر هذا المشهد فى عيد الأضحى القادم.. لن أجادل فى أحكامٍ دينية لنفس السبب وهو أننا أمام قضية سياسية.

أما ما أختلف معه فى هذه النقطة، وكما ذكرت أنه نظر للمسألة من زاوية ضيقة محدودة.. لأن المصريين - هذا العام مثلًا – لم يقدموا ما قدموه لأهل القطاع من باب الصدقات والإحسان، وِإنما من باب الشهامة والواجب و«الجدعنة» المصرية رغم ضيق الحال بكثيرٍ منهم ورغم ما تواجهه مصر من مصاعب اقتصادية.. وهذا هو السمت أو الشخصية الحقيقية لمصر التى يجهلها للأسف د. فضل وكل أو معظم من اعتنق أفكاره.. أزمتهم أنهم لا يعرفون شخصية بلادهم الحقيقية!