الأربعاء 08 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مقبرة الجمـيلات.. لماذا تركنا شيرين سيف النصر سجينة الاكتئاب حتى ماتت؟

شيرين سيف النصر
شيرين سيف النصر

النفس البشرية هشة كخيوط بيت العنكبوت، يبدو من بعيد آية فى الهندسة والنظام والتنسيق، وما إن تقترب منه مبهورًا ومتأملًا حتى تكتشف هشاشته التى تصل لدرجة اهتزازه وتفسخه بفعل أنفاسك.

تذكرت قصر العنكبوت عندما قرأت البوست الحزين الذى أعلن فيه شقيق جميلة التسعينيات الأولى شيرين سيف النصر عن وفاتها بعد أن استقرت فى قبرها بساعات، حيث كانت تلك رغبتها، ألا يعرف أحد برحيلها إلا عندما تنزل تحت التراب.. وكأنها تهرب من حياة تعيسة مع أن تلك الحياة تبدو من بعيد حديقة غناء، حيث الشهرة والمال والجمال حتى وإن أفل قليلًا.

سعاد حسنى وجالا فهمى سبقتا شيرين سيف النصر إلى نفس النفق

قبل عامين فقط فوجئنا بسقوط قطعة أخرى من وهج التسعينيات وهى الفنانة جالا فهمى بنت المخرج الكبير أشرف فهمى، واللافت فى الأمر أن انصراف جالا جاء مشابهًا لانصراف شيرين، حيث حضر الموت بعد سنوات من العزلة القاتلة عاشتها كلتا السيدتين.. بعد حياة حافلة بالنجاح والانطلاق على مدار سنوات التسعينيات لم تشِ حينها أن صاحبتها ستسقط رهينة اكتئاب حاد يجعلها تهرب من الناس حية وميتة.

شيرين سيف النصر والزعيم وعزت أبو عوف

جالا فهمى اشتهرت أفلامها بالإفراط فى الخفة والضحك واللهو، مثل فيلم «طأطا وريكا وكاظم بيه» الذى مثلته منتصف التسعينيات مع كمال الشناوى ونجاح الموجى.. وظلت تلك هى صبغتها المحببة فى الأفلام التى قامت ببطولتها بعد ذلك، كانت كمن استنزف كل رصيده من السعادة فى تلك الأفلام اللاهية اللطيفة، ولم يبق لها شىء غير التعاسة المؤدية لا مفر إلى الاكتئاب.

ولماذا نذهب بعيدًا وننسى رمز الخفة والدلع سعاد حسنى أيقونة السعادة، هل كان يصدق من يشاهدها تتقافز على قلوب الملايين بضحكتها الآسرة وطبيعتها الخلابة أنها ستموت مكتئبة، وأغلب الظن منتحرة فى بلاد الإنجليز الباردة.

شيرين وجالا وسعاد جميلات وزعن على الدنيا كلها سعادة لم يمتلكنها على ما يبدو، ومتن غارقات فى التعاسة هاربات من كل البشر.. وتلك مفارقة تجعلك تتساءل: لماذا تموت الجميلات مكتئبات؟

شيرين سيف النصر 

الأم ليلى هاشم كلمة السر فى حياة فاتنة التسعينيات الأولى

نعود لشيرين سيف النصر بصفتها الفريسة الأحدث للاكتئاب، وهى الفاتنة التى ألهبت بموتها الصادم مشاعر جيل غارق فى الحنين والنوستالجيا.. ودليل ذلك نجده واضحًا فى شلالات الشير لتتر أيقونتها مسلسل «مين اللى ميحبش فاطمة».. هذا التتر الذى أبدعه ميشيل المصرى بكلمات جواهرجى التعبير سيد حجاب، وصوت محمد ثروت الحانى، ليسكن فى قلب وعقل كل من مر على حقبة التسعينيات.

موت الأم وانحسار الجمال أدخلاها فى نفق الاكتئاب المظلم

بالتقليب فى أوراق شيرين سيف النصر نجد حوارًا كاشفًا عن ذلك الوجه الفاتن الصاعد بقوة الصاروخ بداية التسعينيات، حيث حلت ضيفة على غلاف مجلة الموعد فى عدد فبراير ١٩٩٣ مع ملف كامل عبارة عن ٦ صفحات لحكاية تلك الشابة الجميلة، التى لم تكن أكملت الخامسة والعشرين بعد.. الأهم أن من تحكى الحكاية هى أمها السيدة ليلى هاشم، وتلك السيدة هى كلمة سر حياة شيرين، وعلى ما يبدو مماتها أيضًا كما سنرى من كلامها- الأم- فى حوار الموعد، ثم حوار الابنة بعد الاعتزال عنها.

محمد بديع سربيه تبنى شيرين صحفيًا وفتح لها صفحات الموعد

ليلى عبدالباسط والدة شيرين لم تكن امرأة عادية بسيطة، بل كانت تمتلك حياة عامرة بالأحداث والبشر والأصدقاء والأزواج أيضًا، حيث خرجت شيرين إلى الدنيا لتجد نفسها وحيدة أمها وأبيها، لكنها فى الوقت نفسه تمتك إخوة على الجانبين من ناحية الأم، ثم بعد ذلك من ناحية الأب، ليلى عاشت فى مصر جل عمرها لكنها من أصول فلسطينية، تزوجت أولًا من «على عطا الأيوبى» ابن عائلة كبيرة ومعروفة فى سوريا، وأنجبت ولدين هما نبيل وطارق، ثم بعد انفصالها تزوجت من الصحفى اليسارى إلهام سيف النصر، وكانت فى ذلك الوقت نجمة مجتمع وصديقة لأغلب الفنانين، مثل فريد شوقى وهدى سلطان ورشدى أباظة وغيرهم، والأهم صداقة وطيدة مع صاحب مجلة الموعد محمد بديع سربيه، الذى تبنى الوجه الجديد شيرين سيف النصر بعد ذلك.

شيرين سيف النصر 

أنجبت ليلى ابنتها شيرين من زيجتها بإلهام، ثم حدث الانفصال لتعيش الابنة مع أمها وتزداد علاقتهما توطدًا، فى نفس الوقت الذى تتباعد فيه المسافات مع الأب الذى صار له حياة وزوجة وأولادًا آخرين.

هجران الأب ووفاة زوج الأم الحنون كسرا شيئًا داخل الفتاة الجميلة فى بداية حياتها الفنية

هنا ظهر شخص آخر مؤثر فى حياة شيرين، هو زوج الأم الثالث المحامى المصرى سامى السيد، الذى أصبح هو الأب البديل بكل معنى الكلمة، حيث تولى رعايتها منذ الطفولة حتى صارت شابة يافعة ودخلت كلية الحقوق تأثرًا وحبًا له، بل أكثر من ذلك أنها كانت تكتب اسمها فى المدرسة شيرين سامى السيد، ما كان يحدث «لخبطة» فى الأوراق الرسمية المدرسية على حد حكى الأم ليلى للموعد.. وكانت شيرين تقول إن الوالد هو الذى يربى وليس الذى ينجب، وكان سامى يعتبرها ابنته الحقيقية ويدللها بشكل مبالغ فيه وصلت لإهدائها سيارة بى إم دبليو فى عيد ميلادها السادس عشر.

إذن نحن أمام بنت جميلة تعيش فى بيت مستقر فيه أُم حقيقية هى كل شىء لها، وأب بديل يحاول قدر استطاعته أن يسد الفراغ الذى صنعه الأب الحقيقى بانسحابه من حياتها.. وتلك حياة بالطبع حتى وإن بدت مرفهة رائقة؛ إلا أنها يشوبها خلل كبير بفعل غياب الأب.. ثم بعد ذلك تقترب صدمة الفقد الأولى فى حياتها بعد أن دخل زوج الأم الحنون المحامى سامى السيد فى طريق طويل من معاناة المرض العضال أفضى به إلى الاستسلام للموت، بينما كانت الفتاة العشرينية تخطو أولى خطواتها الفنية بعد أن لفتت طلتها الجميلة أنظار المنتجين والمخرجين أصدقاء الأم سيدة المجتمع الراقى.

شيرين سيف النصر وأحمد زكى

وقعت عين المؤلف والمخرج والفنان التشكيلى يوسف فرنسيس على بنت صديقته ليلى هاشم، ويقرر رسمها ثم يطلب منها أن تكون بطلة فيلم كان يجهزه حينها باسم حراس الوادى وطلب فرنسيس موافقة الأم ليلى التى طلبت بدورها مهلة لنيل موافقة الأب البديل سامى السيد، الذى كان يواجه المرض فى أيامه الأخيرة.. ولكن على أى حال وافق الجميع على دخول الابنة الجميلة عالم الفن، خاصة بعد أن قابلت الأم ليلى صديقها المقرب «محمد بديع سربيه» صاحب الموعد الذى حسها على الموافقة فورًا، خاصة بعد أن رأى شيرين مع أمها مصادفة فى باريس وانبهر بطلتها الجميلة.

فى الواقع أن فيلم حراس الوادى تأجل وخرج بعد سنوات وتحديدًا سنة ١٩٩٧ باسم البحث عن توت عنخ آمون، لكن بدون شيرين سيف النصر التى كانت حينها قد صارت من نجمات الصف الأول، وأخذت دورها فى الفيلم.. الاسم الثانى الذى ومض فى التسعينيات ثم هوى وهى جيهان نصر.

على كل حال كانت أعين شيرين وأمها قد تفتحت على طريق الفن ووقفت أمام الكاميرا لأول مرة فى فيلم «البلدوزر» مع المخرج الكبير حسام الدين مصطفى، وتحكى الأم ليلى عن تلك اللحظة فى حوار المصور لترسم طبيعة علاقتها بابنتها التى صارت بالنسبة لها هى كل شىء بعد وفاة الأب البديل سامى السيد، تقول ليلى بالنص: «ذهبت معها إلى منطقة فايد، حيث صورت الكثير من مشاهد الفيلم وأخذت معى كاميرا لكى أصورها وهى تخطو أولى خطواتها نحو النجومية، وبكيت من شدة الفرحة ودار فى عقلى شريط طويل منذ أن كانت تخطو خطواتها الأولى على أنغام الموسيقى حتى أصبحت نجمة سينمائية».

منذ تلك اللحظة لم تفارق الأم ليلى هاشم بنتها شيرين، وظلت هى المرجعية الوحيدة للنجمة الجميلة التى تقرأ لها السيناريوهات وترسم لها خطواتها بعناية شديدة، والأهم تقف وراءها فى الأزمات الكبرى التى واجهتها الفنانة الجميلة التى أوصلت اسمها أن يكون بطلًا من أبطال صفحات الحوادث لأيام طويلة فى نهاية التسعينيات.

شيرين مشيت على خطى أمها فى الزواج من ثلاثة رجال، لكنها لم تخرج سليمة من أى زيجة فيهم، حيث شاب الزيجات الثلاث مشاكل ولغط واعتزال ورجوع وأشياء من هذا القبيل بالتأكيد تسبب فى كسور وجروح كبيرة على جدار نفس الفنانة الفاتنة.

شيرين سيف النصر 

خفوت الأضواء.. وبداية العزلة

ملامح شيرين سيف النصر الفاتنة بعد ظهورها الأول جعلها محط أنظار كبار المرحلة، سواء فى السينما أو التليفزيون، حيث حلت بطلة لمسلسل «غاضبون وغاضبات» الذى كتبه كاتب بقيمة أنيس منصور، حيث أحدث المسلسل صدى معقولًا فى الشارع المصرى الذى كان يعتمد فى زخمه على التليفزيون بشكل كلى، وخطفت شيرين قلوب المصريين بطلتها الساحرة، ما زاد تسليط الضوء عليها بشكل كبير دخلت بعده بطلة أمام صلاح ذوالفقار فى مسلسل مذكرات شوشو، ومنه إلى المال والبنون الجزء الثانى، وهو المسلسل الذى امتلك على المصريين قلوبهم وتعلقوا به منذ عرض جزئه الأول.. هنا كان لا بد أن تنظر السينما لشيرين من بؤرتها الواسعة، حيث أحمد زكى وعادل إمام، طلبها الأول فى فيلمه «سواق الهانم» سنة ١٩٩٤، ووقفت أمام الثانى فى فيلم «النوم فى العسل» سنة ١٩٩٦، وبين الفيلمين كان كل المصريين والعرب يتساءلون باستغراب «من الذى لا يحب فاطمة»؛ ليظل هذا المسلسل أيقونة جميلة موضوعة فى مكان خاص فى قلب كل من عاصره منتصف التسعينيات.

توقف قطار الفنانة الشابة الفاتنة بعد النوم فى العسل سنوات بعد ظروف وملابسات كثيرة ومتشابكة، ثم زيجة سريعة اعتزلت خلالها الفن دون أن تعتزل الناس وعادت مرة أخرى من نفس الباب الكبير الذى خرجت منه، حيث وقفت بجانب النجم الأوحد عادل إمام فى مسرحيته الجديدة «بودى جارد»، ثم فى فيلمه «أمير الظلام» سنة ٢٠٠٢، وبعد هذا الفيلم أصبح ظهورها شحيحًا بعض الشىء عبر أدوار ليست على مستوى انطلاقتها الصاروخية قبل عشر سنوات.

شيرين سيف النصر 

ومع خفوت الأضواء رويدًا رويدًا كانت الطامة الكبرى التى أجهزت على دفاعات شيرين سيف النصر النفسية ودمرتها بشكل كامل، وهى اللحظة التى ماتت فيها الأم ليلى هاشم التى وصفتها شيرين بأنها كل شىء بالنسبة لها.

هنا كانت اللحظة التى دخلت فيها شيرين سيف النصر النفق المعتم ولم تخرج منه؛ على الرغم من محاولات إخراجها الكثيرة من قبل بعض الصحفيين عبر استنطاقها لترد على صورة متداولة لها تبدو فيها كهلة مسنة محنية الظهر، وقد نجحوا فى ذلك منذ أكثر من سنتين عندما نشرت صورة حديثة لها لترد على الصورة المزعومة، وجاء صوتها عبر الهاتف من خلال أحد البرامج لتعلن قرارًا لم تنفذه، وهو الرجوع للفن، وعند سؤالها عن السبب الحقيقى لاعتزالها وهى فى قمتها، جاء الرد المتوقع دون مواربة «بسبب موت أمى».. وقالت إن أمها كانت كل شىء لها وفجأة بموتها شعرت شيرين بأن ظهرها عارٍ ولم تجد إلا هذا النفق المفتوح، نفق الاكتئاب والعزلة الذى على ما يبدو كان يمنعها عنه هو وجود الأم وبموتها أصبح الطريق إليه مفتوحًا.

شيرين سيف النصر 

لماذا تموت الجميلات مكتئبات؟

نعود إلى ما بدأنا به هذا الموضوع.. ونتساءل: لماذا تموت الجميلات مكتئبات، وهل لو كانت شيرين سيف النصر قد عاشت حياة أقل أضواء ولم تر كل هذا الانبهار بجمالها فى عيون الناس هل كانت لتموت مكتئبة منعزلة بهذا الشكل؟؟

الإجابة بالطبع لا نملكها، فهى ملك لله فقط، لكن الذى يدعو للعجب كيف يقرر إنسان بكامل إرادته أن يترك الأضواء الباهرة حوله وينكفئ فى ركن مظلم سحيق منعزلًا لا يحب أن يرى أحدًا ولا يحب أن يسمع صوت إنسان؟.. وأذكر تصريحًا مؤلمًا للموسيقار عمرو سليم، وهو الأخ غير الشقيق للفنانة جالا فهمى، حيث قال بعد وفاتها إن جالا لم يكن لديها أى رغبة فى التواصل الإنسانى، ولديها شعور قوى بانكسار الخاطر وحاول عمرو أكثر من مرة إخراجها من عزلتها بحضور إحدى حفلاته فى الأوبرا، إلا أنها كانت تهرب منه.. وقال نصًا «إن جالا وصلت للنقطة التى لا يستطيع الإنسان الرجوع منها ويستسلم فيها تمامًا، وهى نفس النقطة السوداء التى تشبه برمودا تبتلع كل من يقترب منها».. وهو على ما يبدو ما حدث مع السندريلا سعاد حسنى سنة ٢٠٠١ وأغلب الظن ما حدث مع فاتنة التسعينيات شيرين سيف النصر التى قررت الهروب من البشر حتى بعد موتها بعد وصيتها لأخيها أن تكون الجنازة سرية هادئة لا يعرف بها أحد.. رحم الله الجميع وألهم كل نفس بشرية البعد عن تلك النقطة السوداء.