الخميس 09 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

بخط يده.. نص كلمة محفوظ فى احتفال نوبل (صور)

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

فى البدء أشكر الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل التابعة لها، على التفاتها الكريم لاجتهادى المثابر الطويل، وأرجو أن تتقبلوا بسعة صدر حديثى إليكم بلُغة غير معروفة لدى الكثيرين منكم، ولكنها هى الفائز الحقيقى بالجائزة، فمن الواجب أن تسبح أنغامها فى واحتكم الحضارية لأول مرة، وإنى كبير الأمل ألا تكون المرة الأخيرة، وأن يسعد الأدباء من قومى بالجلوس بكل جدارة بين أدبائكم العالميين، الذين نشروا أريج البهجة والحكمة فى دنيانا المليئة بالشجن. 

سادتى

أخبرنى مندوب جريدة أجنبية فى القاهرة بأن لحظة إعلان اسمى مقرونًا بالجائزة ساد الصمت، وتساءل كثيرون عمن أكون؟.. فاسمحوا لى أن أقدم لكم نفسى بالموضوعية التى تتيحها الطبيعة البشرية. أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجًا موفقًا، أولاهما: عمرها سبعة آلاف سنة، وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما: عمرها ألف وأربعمائة سنة، وهى الحضارة الإسلامية. ولعلّى لست فى حاجة إلى التعريف بأى من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن فى مقام النجوى والتعارف.

وعن الحضارة الفرعونية لن أتحدث عن الغزوات وبناء الإمبراطوريات، فقد أصبح ذلك من المفاخر البالية التى لا ترتاح لذكرها الضمائر الحديثة والحمد لله. ولن أتحدث عن اهتدائها لأول مرة إلى الله سبحانه وتعالى، وكشفها عن فجر الضمير البشرى. فلذلك مجال طويل فضلًا عن أنه لا يوجد بينكم من لم يلُم بسيرة الملك النبى إخناتون. بل لن أتحدث عن إنجازاتها فى الفن والأدب ومعجزاتها الشهيرة الأهرام وأبوالهول والكرنك. فمن لم يسعده الحظ بمشاهدة تلك الآثار فقد قرأ عنها وتأمل صورها. دعونى أقدمها - الحضارة الفرعونية - بما يشبه القصة طالما أن الظروف الخاصة بى قضت بأن أكون قصاصًا، فتفضلوا بسماع هذه الواقعة التاريخية المسجلة. تقول أوراق البردى، إن أحد الفراعنة قد نمى إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع أن يجهز على الجميع فلا يشذ فى تصرفه عن مناخ زمانه. ولكنه دعا إلى حضرته نخبة من رجال القانون. وطالبهم بالتحقيق فيما نمى إلى علمه، وقال لهم إنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل. ذلك السلوك فى رأيى أعظم من بناء إمبراطورية وتشييد الأهرامات، وأدلُّ على تفوق الحضارة من أى أُبهة أو ثراء. وقد زالت الإمبراطورية وأمست خبرًا من أخبار الماضى. وسوف يتلاشى الأهرام ذات يوم، ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان ما دام فى البشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض.

وعن الحضارة الإسلامية فلن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية فى رحاب الخالق، تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها. فمِن مفكريكم من كرسَّه كأعظم رجل فى تاريخ البشرية. ولا عن فتوحاتها التى غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية، ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا. ولا عن المؤاخاة التى تحققت فى حضنها بين الأديان والعناصر فى تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد. ولكنّى سأقدمها فى موقف درامى ـ مؤثر ـ يلخص سمة من أبرز سماتها. ففى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردّت الأسرى فى مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد. وهى شهادة قيّمة للروح الإنسانى فى طموحه إلى العلم والمعرفة. رغم أن الطالب يعتنق دينًا سماويًا والمطلوب ثمرة حضارة وثنية.

قُدر لى يا سادة أن أولد فى حُضن هاتين الحضارتين. وأن أرضع لبانهما، وأتغذى على آدابهما وفنونهما. ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة. ومن وحى ذلك كله بالإضافة إلى شجونى الخاصة ـ ندت عنى كلماتٌ. أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة، فتَوجت اجتهادى بجائزة نوبل الكبرى. فالشكر أقدمه لها باسمى وباسم البناة العظام الراحلين من مؤسسى الحضارتين. 

سادتى..

لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجــد من فـراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص؟، وهو تساؤلٌ فى محله.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام فى آسيا من الفيضانات. ويهلك آخرون فى إفريقيا من المجاعة. وهناك فى جنوب إفريقيا ملايين المواطنين قضى عليهم بالنبذ والحرمان من أى من حقوق الإنسان فى عصر حقوق الإنسان، وكأنهم غير معدودين من البشر. وفى الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم. هبوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائى وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به. فكان جزاء هَبتهم الباسلة النبيلة - رجالًا ونساء وشبابًا وأطفالًا - تكسيرًا للعظام وقتلًا بالرصاص وهدمًا للمنازل وتعذيبًا فى السجون والمعتقلات. ومن حولهم مائة وخمسون مليونًا من العرب يتابعون ما يحدث بغضب وأسى، مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين فى السلام الشامل العادل. 

أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصًا؟ ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف. وكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلى عن التعساء. ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره. 

وفى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة، لا يعقل ولا يقبل أن نتلاشى أنات البشر فى الفراغ. لا شك أن الإنسانية قد بلغت على الأقل سن الرشد. وزماننا يبشر بالوفاق بين العمالقة، ويتصدى العقل للقضاء على جميع عوامل الفناء والخراب. وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعى، فعلى المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقى. فمن حقنا وواجبنا أن نطالب القادة الكبار فى دول الحضارة كما نطالب رجال اقتصادها بوثبة حقيقية تضعهم فى بؤرة العصر. قديمًا كان كل قائد يعمل لخير أمته وحدها معتبرًا بقية الأمم خصومًا أو مواقع للاستغلال. دونما أى اكتراث لقيمة غير قيمة التفوق والمجد الذاتى. وفى سبيل ذلك أهدرت أخلاق ومبادئ وقيم. وبرزت وسائل غير لائقة. وأزهقت أرواح لا تحصى. فكان الكذب والمكر والغدر والقسوة من آيات الفطنة، ودلائل العظمة. اليوم يجب أن تتغير الرؤية من جذورها. اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره بالمسئولية نحو البشرية جميعًا. وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة، يتحمل كل إنسان مسئوليته نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة. ولعلى لا أتجاوز واجبى إذا قلت لهم باسم العالم الثالث: لا تكونوا متفرجين على مآسينا ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دورًا نبيلًا يناسب أقداركم. إنكم من موقع تفوقكم مسئولون عن أى انحراف يصيب أى نبات أو حيوان فضلًا عن الإنسان فى أى ركن من أركان المعمورة. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل. آن الأوان لإلغاء عصر قُطاع الطرق والمرابين. نحن فى عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية. أنقذوا المستعبدين فى الجنوب الإفريقى. أنقذوا الجائعين فى إفريقيا. أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب، بل أنقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحى العظيم. أنقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة. وألفتوا أنظارهم إلى أن مسئوليتهم عن البشر يجب أن تقدم على التزامهم بقواعد علم لعل الزمن قد تجاوزه. 

سادتى..

معذرة. أشعر بأنى كدرت شيئًا من صفوكم ولكن ماذا تتوقعون من قادم من العالم الثالث. أليس أن كل إناء بما فيه ينضحُ؟ 

ثم أين تجد أنات البشر مكانًا تتردد فيه إذا لم تجده فى واحتكم الحضارية التى غرسها مؤسسها العظيم لخدمة العلم والأدب والقيم الإنسانية الرفيعة؟ وكما فعل ذات يوم برصد ثروته للخير والعلم طلبًا للمغفرة فنحن ــ أبناء العالم الثالث ــ نطالب القادرين المتحضرين باحتذاء مثاله واستيعاب سلوكه ورؤيته. 

سادتى..

رغم كل ما يجرى حولنا، فإننى ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف «كانت» إن الخير سينتصر فى العالم الآخر. فإنه يحرز نصرًا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذى لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم، وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء، وتعلن حقوق الإنسان. غاية ما فى الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبوالعلاء عندما قال: 

إن حـــزنًا ســاعـة المـــوت أضعاف سرور ساعة الميلاد

سادتى

أكرر الشكر وأسألكم العفو.

خطاب نجيب محفوظ بخط يده

1
1
2
2
3
3
4
4
5
5
6
6
7
7
8
8
9
9