المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فى حوار عمره 33 سنة

فى ذكرى رحيله.. الأبنودي يعترف: «عطيات» كانت زواج الحياة العملية و«نهال» هى السكينة

عبد الرحمن الأبنودي
عبد الرحمن الأبنودي

هذا حوار عمره يزيد على ٣٠ عامًا، أجراه الكاتب الصحفى محمود الشربينى، ونُشر فى جريدة الوفد، بالتحديد فى أبريل عام ١٩٩١، وفيه يتحدث الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى بشكل مختلف عن المعتاد. كان صريحًا واضحًا بريئًا.

«حرف»، وفى إطار إحياء ذكرى رحيل «الأبنودى» الذى بدأته فى عددها السابق، تعيد نشر هذا الحوار غير المتوافر إلكترونيًا.

ما الذى قاله «الأبنودى» إذن لـ«محمود الشربينى»؟.. تعالوا لنقرأ معًا.

من وراء هذا النبع المتفجر شعرًا؟ هل هى أمه «فاطمة قنديل»، التى قادت سفينة حياته وحياة أشقائه الخمسة بعد انفصالها عن أبيه «الشاعر» إمام المسجد مدرس اللغة العربية... إلخ»- فى طفولته؟ أم أنها جدته التى غرست فى وعيه تفاصيل النصوص الشعرية والغنائية والأدعية والطقوس الدينية؟.. أم تراها «فلقة» الشيخ مبارك التى كانت تلهب أصابع قدميه وصبغة اليود الحارقة التى اكتوت بها ساقاه بسبب عشقه السباحة فى الترعة عكس أوامر شيخ الكتاب؟ أم أنها أبنود، تلك القرية التى صنعت تاريخها أمام الفرنجة حين أغرقت سفن ديزيه أمام شواطئها مما جلب عليها الخراب والدمار حتى إنها دفعت الثمن من عمرها مرتين؟.

هل هى البكائيات التى صدرت عن أمه فى لحظات الحزن أم أنه حرمانه.. واغترابه.. واشتغاله بالزراعة وجنى القطن ورعى الغنم.. أم أنه الشيطان الغيبى يتلبسه فيخرج شعرًا أسمر.. يافعًا طوله ثقافة، وعرضه حضارة وعمقه تاريخ؟..

الابنودى

من وراء عبد الرحمن الأبنودى

هل هو صوته المميز وسمرته الشهيرة.. أم أنها نهال كمال أم آية.. زوجته الحالية؟.. أم أنه أنور السادات وقانون العيب؟.. هل هى تلك التلال من الذكريات التى ناء بها قلبه فنضحت شعرًا. ونضجت سنبلة، حتى صارت أغنية؟ أم هى الأحلام التى أرقته والمواقف التى شكلته.. ليخرج علينا بين الفينة والأخرى بركانًا غاضبًا على الظلم، ونهرًا فياضًا من الأمل.. وأريجًا عطرًا من النضال.. ليغير وجه القبح الساكن فينا بفعل الزمن الردىء.

الأبنودى يروى الحكاية.. يتحدث عن نفسه.. منذ كان فى أبنود وحتى أخرج شيطان شعره ملحمة الليلة المحمدية والاستعمار العربى.

الابنودى فى شبابه

بطاقة شخصية

■ اسمك بالكامل؟

- عبدالرحمن محمود أحمد عبدالوهاب حسن عطية حسن عبدالفتاح عمران.

■ اسم طويل وغريب.. أليس كذلك؟

- لا.. ليس غريبًا.. فقد تعقبته بـ«الميراث». فمن قوانين الصعيد فى الماضى أن تحفظ «سلسالك» العائلى، ذلك أن فكرة أوراق إثبات الشخصية لم تكن عرفت بعد، وإنما اعتمد العرب على حفظ شجرة العائلة شفاهيًا.

■ وماذا- إذن- عن لقب الأبنودى؟

- نسبة إلى قريتى أبنود- محافظة قنا- فأنا من مواليد هذه القرية.

■ تاريخ الميلاد؟

- ١١ أبريل ١٩٣٨.

المؤهل الدراسى؟

- ليسانس آداب- جامعة القاهرة- دفعة ٨١ قسم لغة عربية.

■ وما هى ظروف تأخرك الدراسى حتى هذه السن؟

- حصلت على مؤهلى الدراسى وعمرى ٥٧ عامًا، والسبب فى تأخرى عشقى النشاط الثقافى والفكرى، الذى جعلنى أرتبط بالحياة الثقافية، منذ جئت للقاهرة عام ٥٨ أنا وزميلى وصديقى أمل دنقل. وكان ذلك على حساب الدراسة. ففشلنا فيها، ثم عدنا إلى قنا، وعملنا معًا فى إحدى المحاكم.. إلى أن عدنا للجامعة- والقاهرة- من جديد.

■ الحالة الاجتماعية؟

- متزوج من مذيعة التليفزيون «نهال كمال»، ولى منها ابنة وحيدة اسمها «آية».

ملامح الطفولة

■ ماذا يبقى فى ذاكرتك عن أبنود.. منذ طفولتك؟

- يبقى التاريخ..

■ حدثنا عن أهم ملامح طفولتك.. كيف كانت.. وكيف عشت؟

- أنا بين إخوتى عمود الميزان- فعندى شقيقان أكبر منى، وشقيقان أصغر منى، ولنا أخت واحدة هى «فاطمة» ونشأ والدى عصاميًا. أما والدتى فهى سيدة مقاتلة. عاشت فى انفصال عنه هو عمر طفولتى الأول. وقادت السفينة ببسالة، ولذلك عشت حياة الفقر وذقت حياة اليسر أيضًا.. فقد قضيت طفولتى- حتى التاسعة- فى قريتى ومارست كل أعمال الزراعة كجنى القطن وجمع سنابل الغلال ورعى الغنم. وذهبت بعد ذلك إلى قنا لألتحق بالمدرسة، وكانت أول مرة أرى فيها بيت والدى.. لكن على أى حال كنت أنتظر دائمًا حلول الصيف لأعود إلى أبنود وإلى أمى فاطمة قنديل و«جدتى» شيطان خيالى!.

عن الأسرة

■ قلت إن والدك نشأ عصاميًا.. فكيف كان ذلك؟

- كانت ظروف الحياة لا تسمح له «برفاهية» التعليم، فقد كان عليه أن يكسب قوت يومه مع أشقائه الأربعة؛ لذلك كان يعمل معهم فى طاحونة رجل قبطى. وكان جدى الذى لم ير يومًا مبتسمًا بشهادة أهل القرية «يتمم» عليه يوميًا.. وغالبًا ما يجده وقد تسلل للكتاب ليتلقى علوم القرآن والحديث، فكان يذهب إليه ويجره جرًا من قدميه ويجوب به حوارى القرية ويلقى به فى الطاحونة، ورغم ذلك خاض تجربته المريرة حتى أكمل تعليمه.

■ ثم...؟

- ثم نجح فى أن يصبح مدرسًا للغة العربية وأصبح شاعرًا- أيضًا- له دواوين مطبوعة وأختير مأذونًا شرعيًا وعين إمامًا لمسجد.. ولا تسلنى كيف أمكنه أن ينجح فى هذه الظروف!

■ عشت فى طفولتك حياة «بين.. بين».. فهل شعرت فيها بالحرمان؟

- عندما كنت أبحث فى مكتبة والدى «الشيخ» عن كتاب معين فلا أجده فيها؛ لأنه من ذلك النوع من الكتب التى لا يؤمن بها.. كنت أتضايق كثيرًا وأحس بالفقر الشديد والحرمان الأشد لأننى لا أملك ثمنها.

عن النقود

■ وماذا كنت تفعل؟

- لجأت إلى مشاركة أهل قريتى على بعض الدجاج والماعز.. فكنا نشتريها ويتولون تسمينها حتى تكبر وتتكاثر.. ونبيعها ونقتسم ربحها.. وأحصل على النقود فأشترى ما يلزمنى حتى أصبحت لى مكتبتى الخاصة.. التى لها فضل كبير فى تخريج عدد كبير من مثقفى بلدتى.

■ هل تعلمت فى الكتاب مثل والدك؟

- نعم.. وظللت فيه حتى حفظت سورة العنكبوت.. وأنا نادم لأنى لم أستمر فيه حتى أحفظ القرآن كله؟

■ هل تذكر أن «الشيخ» عاقبك يومًا وعلقك من قدميك فى فلقته؟

- نعم.. فـ«فلقة» الشيخ مبارك كانت مصدر إذلال لنا، لقد كان يمسك بشاكوش فى يمناه وزجاجة صبغة يود فى يسراه «بيبطح ويداوى».. وكان أيضًا يختم سيقاننا بختم معين.. لكى يمنعنا من السباحة فى الترعة.. وكان يكشف عليها كل يوم.. ويجلد من أزال ماء الترعة الختم من على ساقيه، وكأنه لم يكن يكفينا أب متسلط واحد.. لذا فالذين أكملوا الطريق قليلون جدًا.

عن الصداقة

■ من هو صاحب الفضل عليك فى طفولتك؟

- جدتى لأمى مازلت أدين لها بحساسيتى المفرطة وبأرق النصوص الشعرية والغنائية والأدعية والطقوس الدينية، هى مزيج من الفرعونية والقبطية والإسلامية، التى شكلت لدى الرؤية الشعرية، كذلك أدين بالفضل لأمى.. وصديقى - وابن عمى - مصطفى والشاعر أمل دنقل.

■ هل تغضب؟

- نعم.. إلى حد فقدان العقل.

■ مم تغضب؟

- من الأخطاء المقصودة.. التى يرتكبها أحبائى.. أو محاولة النيل من سمعتى أو كرامتى.

■ هل تعبر عن غضبك أحيانًا بالخروج عن حدود اللباقة؟

- أنا مازلت قادرًا على الشجار باليد وأؤمن بأخذ الحقوق باليد!

اتهامات بالجملة

■ أنت متهم بأنك ذاتى جدًا.. و.. و.. فما ردك؟

- حقًا.. كشاعر وكإنسان أنا كذلك.. ولا مسافة عندى بين الاثنين.

■ هل الشعر خوَّان؟

- بالقطع.. وكثيرون راحوا ضحيته.. فمن يخون الشعر مرة يخونه الشعر إلى الأبد.

■ أنت متهم بأنك غضوب.. ولا تحب أحدًا إلا الأبنودى؟

- قد يكون هذا انطباعًا تولد فى أذهان البعض.. لأنى أحيانًا أحب أن أؤكد الصورة التى يرسمها لى أعدائى«!!» فمثلًا هناك اعتقاد بأننى لا أحب من الشعراء إلا أنا، وحين أرى البعض يطلق هذا فأنا أسمى نفسى عبدالرحمن «الأحقودى»، تأكيدًا لكلامهم- وسرعان ما يلتقط تعبيرى أصحاب المواهب المبتورة ويطلقونه علىَّ.. على أساس أنهم قائلوه.. هذا كل ما فى الأمر.

■.. ومتهم أيضًا بالنرجسية؟

- لا.. لست كذلك.. وإن كنت أحيانًا أُعلى من نبرة الذات جدًا لأضع «السدود» أمام المتطفلين. والذين يهتمون بى أكثر من اللازم.

■ ومتهم بإنكار ما فى فؤاد حداد وصلاح جاهين من قيمة شعرية؟

- تقديرى أنه لا أحد يصبح شاعرًا كبيرًا على أنقاض شاعر كبير آخر، ولا أعتقد أننى يجب أن أجعل الآخرين أقزامًا لكى «أتعملق» أنا.. ولو كنت كذلك ما كنت ما أنا عليه الآن.

■ أنت كنت تغار منهما.. فى حياتهما؟

- بالعكس.. حتى فى حياتهما كان لدى إحساس بأننا جوقة. كل منا يعزف على آلته، لكى نخرج للناس لحنًا يليق بمجموعة كبيرة من الشعراء الكبار، ولم أحس أبدًا أننا فى حلبة منافسة..

■ لكنك تكره إلى حد التحريم الشاعر أحمد فؤاد نجم؟

- فؤاد نجم بدأ حياته بالهجوم علىَّ وانتهى بالهجوم علىَّ..! وكل ما أقوله إننى أرجو أن يبقى منه ما سيبقى منى بعد رحيلى.

■ هل شعرت يومًا بالاغتراب.. وأنت داخل الوطن؟

- مرتين.. أحسست بالاغتراب، بعدما التقيت السادات قبل صلح كامب ديفيد. ووقتها هاجت الدنيا وماجت وقاطعنى كل الأصدقاء دون أن يسألونى سؤالًا واحدًا.. «ورغم أننى فيما بعد كنت أول من يقبض عليه بحسب قانون العيب!» وأحسست بهذا الإحساس عندما تزوجت «نهال كمال».

■ لماذا.. وماذا حدث؟

- كف جرس التليفون فى بيتى عن الرنين ستة أشهر على الأقل!

■ ربما لتأخذ شهر عسل طويلًا؟

- واقع الأمر أننى أعدت ترتيب حياتى فى هدوء منتهزًا تلك الفرصة.. لكن لم يكن هذا قصد من ابتعدوا عنى بالفعل.. فقد تورطوا فى «اللغ» فى سيرتى وتصويرى بمظهر الدنىء، الذى طمع فى الفتاة الصغيرة الجميلة دون مراعاة لكبره فى السن.

فوارق

■ ما الفرق بين زيجتك الأولى.. والأخيرة؟

- تزوجت نهال فى يناير ٨٦.. والآن أستطيع أن أقول إن زيجتى الأولى كانت زيجة الحياة العملية.. أما الأخيرة فهى إطار للسكينة والإيمان بقيمة الشاعر- وليس الرجل- وهى الهرب من التسلط.. ونوع من نفض الأغلال، باعتبار أن ذلك واجب شرعى!

■ هل تزوجتها عن حب.. أم لجمالها وصغر سنها؟

- بل تزوجتها عن حب.. وقد أثبتت نهال أنها ليست مجرد إنسانة بسيطة وجميلة، وإنما هى «حياة كاملة» مكتملة.

هو.. هى

■ ما الذى أعطته لك؟

- استقرارى العاطفى وتفرغى للعمل.. فبعد زواجى كتبت «ملحمة» الموت على الأسفلت. وقصيدة «الإمام» عن الشاعر فؤاد حداد. وأوبريت أفراح النصر.. والليلة المحمدية وأخيرًا ملحمتى «الاستعمار العربى»، ناهيك عن أننى أنجبت «آية» ابنتى الوحيدة!

■ هل هى تغار عليك؟

- أحيانًا.. ولكنها تعالج هذا الإحساس بنفسها.

■ هل تغار أنت عليها؟

- أنا لا أغار.. فالغيرة إحساس غير جميل.. رغم أن البعض يقرنه بالحب.

■ ما تأثير فارق السن بينكما على حياتكما الزوجية؟

- المشكلة أن نهال لا ترانى كبيرًا فى السن، وإنما تعتقد أننى أكثر شبابًا منها.. وأننى عجوز فقط فى عيون الآخرين.. والواقع أن قضية السن تؤرقنى أنا وليس نهال.

■ ما أجمل ما فيها؟

- أنها هى.

■ وما أسوأ ما فيها؟

- أرفض كلمة أسوأ.

■ ما أهم عيوبها؟

- التصاقها الشديد بى، وأنها تتركنى أذهب للعمل على مضض.. ولكنى أذهب للعمل أيضًا وإن تألمت لألمها.

بسرعة

- أصحو من نومى فى الثانية عشرة ظهرًا. وزوجتى تقول لى إن أسوأ ما فىَّ هو نصف الساعة الأولى عقب استيقاظى، وأتناول كوبًا من القهوة مع الساندوتش وأنا أحب الغناء. ويعجبنى صوت نجاة الصغيرة وأحيانًا أغنى لنفسى. بل إن الكثير من أغنياتى المشهورة هى من تلحينى. أضعها جاهزة بين يدى الملحنين. ولا أسمح بلحن لأغنياتى لا أوافق عليه، ومثلما أحب الغناء المصرى أحب الغناء الخليجى فأعشق صوت أبوبكر سالم وغيره.. كما أحب فى الزهور الورد البلدى والياسمين. وأجمل خبر تلقيته هو حصولى على ميدالية ناجى العلى الذهبية، ولا أخاف فى حياتى سوى فقد الأصدقاء وأنا أدخن بشراهة كمية لا يمكن حصرها من الدخان. وأشترى ملابسى بالمصادفة. لأن علاقتى بالملابس ليست قوية.. وأؤمن بأن الناس تنظر إلى وجهى أكثر مما تنظر إلى سيقانى الرائعة. ولا أعتقد أن إنسانًا بكامل قواه العقلية قد يخرج من بيته قاصدًا محل أحذية ليشترى لنفسه حذاء مثلًا.. وليس لى حساب فى البنك.. وأملك منزلًا واحدًا ولدى سيارة مرسيدس موديل ٧٦ اشتريتها بعد ثلاثة أشهر من بيع سيارتى اللادا بعد أن كرهها أصدقائى وليس أنا.. وأود أن أقول فى النهاية: إننى لست أؤمن بالفصل فى الذمة المالية بين الزوجين فما يدخل البيت من مال هو للبيت.