المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

بلزاك.. إدمان الكتابة لمواجهة قسوة الحياة

بلزاك
بلزاك

مؤسس الواقعية الاجتماعية فى الرواية الفرنسية ومبتكر لعبة «عودة الشخصيات» فى أعمال أخرى

 درس القانون بناء على رغبة والديه اللذين أرادا له أن يعمل بالمحاماة

 عاش قصة حب تستعصى على الاكتمال مع أرملة بولندية

 فى الرابعة والثلاثين من عمره نشر بلزاك رائعته أوجينى جراندى التى بلغ بها قمة شهرته

بلزاك

فى كتابه «الحب فى التاريخ»، يذهب الكاتب والمفكر المصرى الراحل سلامة موسى إلى أنه «ليس فى القرن التاسع عشر من يفوق بلزاك فى فرنسا فى الفن القصصى»، مستندًا إلى معيار قربه من المزاج الروسى فى الإبداع الأدبى، خصوصًا فى ناحية معالجة الموضوع، والقدرة على اكتشاف أعماق النفس البشرية ودراسة نوازعها، «والبعد عن البهرجة اللفظية»، بل إنه يذهب إلى القول بأنه «ربما يمتاز بلزاك أيضًا على كثير من أدباء روسيا بتنوع أسباب العيش التى يعيش بها أشخاص قصصه.. نجد فى بلزاك «سمسارًا وعالمًا أثريًا ومهندسًا معماريًا، ومنجدًا وخياطًا وتاجر أهدام ووكيل تجارة وطالب صناعة وطبيبًا ومحاميًا»، وقيل إنه كان الكاتب المفضل لدى كارل ماركس الذى أشار إلى أعماله مرات عدة فى مؤلفه «رأس المال»، وقال شريكه الفكرى ورفيق دربه فريدريك إنجلز إنه تعلم من بلزاك أكثر مما تعلم من خبراء الاقتصاد والإحصاء والتاريخ، ويقال إن ليون تروتسكى انصرف مرة باهتمامه إلى قراءة رواية لبلزاك بينما كان يحضر اجتماعًا للجنة المركزية للحزب الشيوعى الروسى.. وقيل إنه عندما بدأ بلزاك مشروعه الأدبى كانت الروايات والقصص التى تلقى رواجًا لدى قُرّاء الأدب، وكانوا غالبًا من الطبقات الثرية والبرجوازية، تتوزع بين ثلاثة أنواع، هى الروايات الغرامية، وقصص الرعب والأشباح، ثم الروايات أو القصص الكوميدية الساخرة، فجرب حظه فيها جميعًا، وكثيرًا ما كان يمزج بين الأنماط الثلاثة فى رواية واحدة، كأن يروى تفاصيل قصة حب تدور أحداثها فى قصر مسحور وغامض، أو تتدخل فيها أرواح مجهولة لتعديل مسار الأحداث، لكنه سرعان ما أدرك أن الحياة الواقعية، بتفاصيلها وأحداثها التى تدور أمام عينيه وحوله، ربما تكون أكثر ثراءً وتعبيرًا عن الحياة التى يعيشها، خصوصًا أنه عاش حياة مأساوية على قِصرها، فهو الطفل الذى لم تحبه أمه، ولم ترغب فى رؤيته لارتباطه بزواج يبدو أنها لم تكن ترغب فيه، إذ كان أبوه يكبرها بأكثر من ثلاثين عامًا، وهو الذى عاش قصة حب تستعصى على الاكتمال مع أرملة بولندية لم تبادله الحب، ولم تسمح له بالابتعاد عنها، فعاش مربوطًا إليها بخيط دقيق مشدود دائمًا كشعرة معاوية، وعندما تزوجها لم تمهله الحياة أكثر من بضعة أشهر، رحل بعدها دون أن يكمل عامه الثانى والخمسين.

أن تحيا فريسة للحرمان العاطفى

لعلى لا أكون مغاليًا إذا ذهبت إلى أن الرواية الفرنسية الحديثة تنفرد دون غيرها باحتوائها على قدر كبير من العنف، والدموية، بالإضافة إلى السلوكيات غير النمطية، أو غير المتوقعة لشخصيات غارقة فى الفقر والديون ومرارة الاحتياج والظلم الاجتماعى، وهو ما أظن أنه ميراث عصور طويلة من القمع، وتركز الثروات فى أيدى قلة قليلة من «البارونات» والنبلاء والطبقات الحاكمة والفاسدة التى عاشت تخمة لا نهائية، فيما تركت بقية الشعب الفرنسى نهبًا لقسوة الأمراض الصحية والاجتماعية والاقتصادية، ما يمكن معه فهم الطبيعة الدموية للثورة الفرنسية على حكم عائلة «بوربون»، وهى الثورة التى تكاد تكون هى الأكثر دموية فى التاريخ الحديث، على أن ما مر به الروائى الفرنسى الأشهر أونوريه دو بلزاك فى حياته القصيرة يمكن أن يعطينا انطباعًا عن تلك الفترة الدموية فى التاريخ الفرنسى، خصوصًا فيما يتصل بعلاقته المشوهة بأمه، وغرقه فى الديون، وقصة حبه للسيدة إفيلينا هانسكا، التى كانت متزوجة من أحد الأثرياء، وكانت نظرتها إليه نظرة إعجاب بفنه، وهو ما يفصّله الكاتب الكبير سلامة موسى فى كتابه المشار إليه بقوله: «حقيقة الحال أن بلزاك كان يحبها ويشتهيها، أما هى فكان حبها إعجابًا وعطفًا فى الأصل ليس غير، فلما عرض عليها الزواج لم تجد فى نفسها تلك الدوافع التى تبعث فى المحبين الرغبة فى العيشة معًا، ودوام قرب أحدهما من الآخر».

ولد أونوريه دو بلزاك فى العشرين من مايو ١٧٩٩، فى مدينة تور الفرنسية، وكان والده برنارد فرانسوا بالسا هو الطفل الحادى عشر لعائلة فقيرة من الحرفيين فى الجنوب الفرنسى، قدم إلى باريس لا يحمل فى جيبه أكثر من عملة معدنية لا تسمن ولا تغنى من جوع، وفى أقل من عشرين عامًا نجح فى أن يصبح أمينًا لمجلس الملك، وتغيير اسمه إلى بلزاك الأكثر نبلًا، وهو ما تكرر مع ابنه الذى أضاف حرف النبالة «دو» إلى اسمه فيما بعد، وكانت أمه آن شارلوت سالمبييه تنتمى إلى عائلة تعمل بتجارة الخردوات، ويبدو أن ثروة العائلة لعبت دورًا فى تلك الزيجة، إذ كانت آن فى الثامنة عشرة من عمرها وقت الزفاف، بينما كان فرانسوا قد أتم عامه الخمسين، ويبدو أنها تزوجته رغمًا عنها، وهو ما يوضحه الكاتب والناقد الأدبى السير فيكتور بريتشيت بقوله: «كانت آن بالتأكيد على علم تام بأنها مُنحت لزوج عجوز مكافأة له على خدماته المهنية لأحد أصدقاء عائلتها، وأن رأس المال كان إلى جانبها، لكنها أبدًا لم تحب زوجها».

كان أونوريه هو الابن الثانى للعائلة، سبقه لويس دانيال الذى لم يعِش أكثر من شهر واحد، ومن بعده جاءت شقيقتاه لور ولورنس، ثم شقيقه هنرى، فعاملتهم الأم بقسوة وحدّة، حتى إن بلزاك وصفها فيما بعد باعتبارها الرعب والهول مجتمعين، والسبب الرئيسى فى أى معاناة مر بها فى حياته، وكتب عنها ما نصه: «لم أكن أمثل لها سوى طفل جاء نتيجة واجب زوجى عابر، هل كانت ولادتى مجرد صدفة كى أرسل إلى حاضنة فى بلدة بعيدة، ويتم إهمالى من أسرتى لمدة ثلاث سنوات؟!».. و«لم تكن لدىّ أبدًا أم كسائر الأطفال»، ويقال إنها دخلت فى علاقة عاطفية مع شاب يصغر زوجها بكثير، وإنها حملت منه وأنجبت طفلًا منحته حبها كله، وتناست أطفالها الشرعيين، فتم إرسال بلزاك بمجرد ولادته إلى «مرضعة»، ثم لكى يبقى بعيدًا عن البيت، ألحقته وهو فى الثامنة من عمره بمدرسة الرهبان اليسوعيين، حيث عاش ست سنوات قاسى خلالها من القمع والتخويف، وصولًا إلى الضرب من قبل رجال الدين المتشددين، لكنها على غير عادة أمهات العائلات البرجوازيات فى زيارة أطفالهن من وقت لآخر، لم تكن تشعر بالحاجة إلى زيارة طفلها إلا نادرًا، ما جعله يعانى من حرمان عاطفى مزمن، فراح يبحث عن الحنان فى أى امرأة يصادفها، ويواجه قسوة الحياة بإدمان الكتابة، والإنتاج الغزير، حتى إنه كتب عن طفولته تلك فى اثنتين من رواياته، هما «لويس لامبير»، و«زنابق فى الوادى»، كما كتب مئات الرسائل إلى أخته لور التى كانت تصغره بعام واحد، والتى اهتمت به وجاهدت لتعويضه عن حنان الأم بعد عودته إلى المنزل، وتألم بحرقة شديدة عند وفاتها المفاجئة بعد زواج غير ناجح.

مستودع عواطف «الكوميديا  الإنسانية»

بدأ بلزاك رحلته مع الكتابة الأدبية فى سن العشرين، فراح يكتب مع مجموعة من الأصدقاء قصصًا تحت أسماء مستعارة، وتوالت أعماله بسرعة، وقيل إنه كان يكتب يوميًا لما يصل إلى ثمانى عشرة ساعة، فى القصة والشعر والفلسفة والنقد، بل وقيل إنه ذات مرة كتب لمدة ٤٨ ساعة متواصلة، نام خلالها ٣ ساعات فقط، وإنه عرف بتبنيه أنماط نوم غريبة، خصوصًا فيما يتعلق بعمله لفترات طويلة خلال الليل، وإنه كان يكتب ويعيد قراءة عبارة أو جملة معينة عدة مرات حتى تصبح مثالية، وهو ما فتح له الطريق إلى علاقات غير متكافئة مع سيدات الطبقة العليا ممن كنّ يطلبنه، مثل غيره من الشعراء والكتّاب، كزينة لمجالسهن، بينما كان هو يبحث عن حب لا وجود له، فكان يكتب لهن رسائل الغزل، حتى إن إحداهن لعبت دورًا كبيرًا فى اتجاهه ناحية الكتابة القصصية، وهى السيدة بيرنى، فرغم أن القصص والروايات وقتها كانت تشغل موقعًا أدنى من الشعر والنقد، لكن قصصه كانت تصادف هوى فى نفسها، فشجعته على كتابة المزيد منهما.

فى الرابعة والثلاثين من عمره نشر بلزاك رائعته «أوجينى جراندى»، التى بلغ بها قمة شهرته، فتحسنت أحواله المادية، واعتبره النقاد واحدًا من رواد الرواية الواقعية الاجتماعية إلى جانب جوستاف فولبير، وهى الحركة التى سرعان ما سيطرت على الرواية الأوروبية، وجاءت كرد على التيار الرومانسى، فاتجهت إلى تصوير الواقع كما هو دون مثالية مصطنعة، ولجأت إلى اختيار مواضيع تصور حياة الطبقات المتوسطة والعاملة، فكانت درة أعماله فى سلسلة «الكوميديا الإنسانية»، التى قيل إنه كتبها ردًا على كوميديا دانتى «الإلهية»، ويعتبرها النقاد بمثابة مستودع للعواطف، تعكس الصورة الحقيقية للمجتمع الفرنسى، وتشرح التكوين الاجتماعى، وتشابكات العلاقات الإنسانية، وترصد الصراع بين الفلاحين والمُلّاك، وبين التجار والمستخدمين، متأثرًا بوالده الذى كان يراه مجرد متسلق مستغل، وهى السلسلة التى صدرت فى ٣٧ مجلدًا، وضمت ٩٥ رواية، وقصصًا قصيرة، ومقالات واقعية أو فلسفية، بالإضافة إلى ٢٥ عملًا مرسومًا، وتحتوى فى مجملها على ٢٢٠٩ شخصيات، لكل واحدة منها تصور مختلف وخاص عن الحياة، ولكل منها سلوكيات لا تتشابه مع غيرها، وطبائع بشرية مختلفة، وربما كان ذلك ما جعلها السبب الرئيسى وراء شهرة بلزاك، ليصبح بعد نشرها نجم الكتابة فى عصره، ليس فى فرنسا وحدها، بل وفى القارة الأوروبية كلها.. على أن أكثر ما تميزت به كتابة بلزاك إلى جانب غزارة الإنتاج، يمكن اعتباره فى التقنية التى يعد هو مبتكرها الأصلى، وهى تقنية «عودة الشخصيات» الروائية، إذ كثيرًا ما تعمد استعادة شخصية كانت رئيسية فى إحدى القصص لتظهر فى قصة أخرى كشخصية ثانوية، أو العكس، يقوم بكتابة قصة جديدة وكاملة بحيث يكون بطلها أو شخصيتها الرئيسية مجرد شخصية ثانوية أو حتى هامشية فى قصة أخرى، وهى الطريقة التى اعتبرها النقاد وقتها جريئة جدًا، إلى جانب كونها طريقة ذكية وصعبة، وتساعد على تحرير الذات من الرواية، كما تمنح الحياة والحركة لعالم خيالى كامل، ربما تظل شخصياته موجودة للأبد، إلى جانب اهتمامه البالغ بالتفاصيل، ووصفه الدقيق شخصياته ومحيطاتها، وهو ما عبّر عنه بقوله: «إن عظمة العمل الروائى تكمن فى التفاصيل»، وهو ما يفصّله الكاتب والناقد صلاح أحمد فى مقال بعنوان «بلزاك سارد الجوهر والتفاصيل»، والذى يذهب فيه إلى أن بلزاك كان يعتقد أن إغراقه فى نقل دقائق مسرح الأحداث وإسهابه فى وصف شخوصه مهمّان لنفخ الروح فى قصصه، مثلًا، شكل الغرفة، وأثاثها، وألوانها، وما إن كان المقعد يميل قليلًا لأن إحدى أرجله أقصر من البقية، وعلى أى هيئة كانت ثياب المتحدث عنه، وما إن كان خيط تائه يتدلى من كُم قميصه، وهى أمور لم تستلزم منه أكثر من أن يخرج إلى الطرقات وأن يراقب الناس ومجريات أمورهم ليعود بالمواد الخام لرواياته.

وكثيرًا ما يقارن بلزاك بتشارلز ديكنز من جهة التأثير الهائل الذى أحدثاه على الأدب الأوروبى والعالمى، فقيل عن بلزاك إنه «ديكنز الفرنسى» وعن ديكنز إنه «بلزاك الإنجليزى».

الغرام المستحيل

درس بلزاك القانون بناء على رغبة والديه اللذين أرادا له أن يعمل بالمحاماة، لكنه اتفق معهما على أن يسمحا له بتجريب العمل بالكتابة الأدبية لمدة عام واحد، لكنه أخفق فى العيش من قلمه، فحاول الدخول فى عالم التجارة والأعمال كناشر وصاحب مطبعة، لكنه فشل، وتعاظمت ديونه حتى بلغت ٦٠ ألف فرنك، وكانت خساراته فى مؤلفاته ناتجة عن شدة عنايته بتحريرها، إذ كان يتفق أحيانًا مع أحد الناشرين على مبلغ ما لطبع الكتاب، فإذا جاءته البروفات الأولى أعمل فيها قلمه تحريرًا وتغييرًا، فترتفع تكلفة الطبع عن مبلغ الاتفاق، ويخرج من كتابه بخسارة غير قليلة، ما اضطره إلى الكتابة لساعات طويلة لمواجهة قسوة الفقر والحاجة، والاعتماد على دعم عدد غير قليل من سيدات المجتمع ممن يكبرنه سنًا، ويحرصن على تواجده فى مجالسهن، إلى أن وصلته رسالة قرب منتصف العام ١٨٢٩، حتى غرق فى حب صاحبتها، فقد كانت الرسالة تشى بفهم بالغ لكتابته، مع شىء من النقد اللطيف، إذ أومأت الكاتبة إلى بعض عاداته فى الكتابة، وصار يكررها على غير وعى منه، فأخذ يقرأ الرسالة، ويعيد قراءتها وهو فى ما يشبه اللذة، وعندما توالت رسائل تلك الكاتبة التى كانت ترسل إليه تحت اسم «الغريبة»، عرف أنها بولندية تدعى إفيلينا هانسكا، تقيم مع زوجها النبيل المريض فى «نيوشاتل» السويسرية، فظل يبادلها الرسائل بانتظام على مدى ١٣ سنة، وسافر للقائها، وقيل إنها عند أول لقاء لها به أغمى عليها من فرط التأثر، ما زاد من تعلقه بها، حتى إنه عندما عاد إلى باريس لم يكد يمضى عليه يوم واحد حتى كتب لها يخبرها عن كل تفاصيل يومه، عن أتفه الأشياء وأقلها خطرًا، واستمرا على ذلك حتى مات زوجها فى ١٨٤٢، عندها ظن بلزاك أنهما سوف يتزوجان بالطبع، ولكنها لم تقبل الزواج به، على شدة حبها له وتعلقها به، وكانت تتحجج مرة بأولادها، وأخرى بأملاكها فى بولندا، أو بأنها غارقة إلى أذنيها فى المشكلات القانونية المتعلقة بإرثها من زوجها الراحل.. لم يتبدل الوضع إلا عندما جمع من المال ما يكفى لحل مشكلاته ومشكلاتها معًا، فتزوجها فى ١٤ مارس١٨٥٠، على أن زواجهما لم يدم لأكثر من خمسة أشهر قضى معظمها فى سرير المرض، وقيل إنه لما أحس بدنو أجله أصر على أن يستدعى الطبيب «بيانشون»، الذى اتضح أنه شخصية خيالية ابتدعها بنفسه فى روايته «الأب جوريو»، كما قيل إنه عندما توفى كانت هى فى غرفة مجاورة تداعب شابًا صغيرًا، وإنه وصف علاقته معها فى قصة صغيرة له بعنوان «سيرافيتا» ليست من أجود قصصه، لكن المؤكد أنه بعد وفاته تم العثور على كم كبير من المخطوطات لأعمال مكتملة أو ناقصة لم تنشر فى حياته، وتم نشرها فيما بعد.