السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

خطايا السيد الرقيب والعضو المنتدب

فيلم يادنيا ياغرامي
فيلم يادنيا ياغرامي

- ما زال «موظفو» الرقابة يتم تعيينهم دون أى شروط أو مؤهلات

مرة أخرى أبدأ مقالى بموقف «شخصى».. عندما صنعت أول أفلامى «يا دنيا يا غرامى» من إنتاج الأستاذ الكبير رأفت الميهى.. جاءنا خطاب من الرقابة بعدد من الملاحظات على بعض مشاهد الفيلم.. وطلب منى الأستاذ رأفت محاولة الحديث مع د. درية شرف الدين التى كانت وقتها تشغل منصب مدير الرقابة، وعندما جاءنى ردها على التليفون كان أول ما قالته: إيه يا أستاذ الفيلم الجميل ده؟ ولما لم أكن أعرفها فقد أصابتنى الدهشة والفخر وأبديت استعدادى لتنفيذ ملاحظات الرقباء المحترمين طالما هذه «العقلية» هى رئيستهم، وهو ما لم يحدث، إذ طالبتنى بتجاهل الملاحظات، وأنها سوف تصرح بعرض الفيلم كما قدمناه..

دائمًا أتذكر هذا الموقف مع مواقف أخرى للأستاذ على أبوشادى ومدكور ثابت وقبلهما طبعًا الأديب الكبير نجيب محفوظ الذى لم يستنكف أن يتولى هذا المنصب الذى رأى فيه وسيلة لمساعدة المبدعين، وليس قمعهم، وحصار أفكارهم بالوأد حتى قبل الولادة.

على ابو شادى

أدرك كل هؤلاء ظروف مجتمع يقاوم التخلف على كل المستويات، ويرتع فيه الجهل ويسهل فيه خداع الناس والبسطاء بشعارات جوفاء ظاهرها الحفاظ على قيم المجتمع وتراثه وتقاليده.. إلخ وباطنها تكريس عبادة الفكر الأوحد الذى يخدم مصالح تجار الدين والسياسة.. أدرك هؤلاء أن الأصل هو الإبداع.. هو الطموح إلى تغيير القائم إلى ما هو أفضل وأرقى وليس «تثبيت» الواقع، أو الارتداد إلى الخلف بوهم العودة إلى مدينة فاضلة لا توجد إلا فى خيالهم، وعبر تزوير التاريخ واحتكار الحقيقة المطلقة.. دور الرقيب إذن ضرورى فى مثل هذه الظروف، ولكن فهم طبيعة هذا الدور باعتباره «وسيطًا» بين المبدع والدولة.. يحقق غاياتها الكبرى فى التقدم والتنمية والولوج إلى عالم جديد، ولكن عبر احترام المبدع والوصول إلى «صيغة» تحقق هذا التواؤم لحين وصول المجتمع كله إلى مرحلة يراقب كل مبدع ومسئول نفسه بروح مدركة ودون سيف مسلط للعقاب والمصادرة.. وهو الأمر الذى وصلت إليه كل المجتمعات الغربية فتقدمت كل صناعات الإبداع، وسيطرت بالتالى على كل المجالات المرتبطة بهذه الصناعات، وأخرجت كل من تمسك بفكرة القمع من تاريخ الفن والصناعة على السواء.

الصفحة السابعة من العدد العشرين لحرف

وللأسف لم تنجح مثل هذه النماذج التى أشرنا إليها فى تكريس مفهوم محترم لدور الرقيب التابع لوزارة الثقافة والمنحاز إلى المبدع بالطبيعة فى مواجهة عشوائية بعض تيارات الردة الفكرية والإنسانية المستترة بدواعى الأمن وحماية الآداب العامة.. تيارات تسللت حتى وصلت لكثير من النقابات المهنية والمجالس الشعبية، بالإضافة طبعًا إلى المؤسسات الدينية والحزبية.. إلخ.. فمنذ القانون الذى سنه الوزير جمال العطيفى رقم ٢٢٠/١٩٧٦ الذى عاد بمفهوم الرقابة إلى الصيغة الأمنية والعبارات العامة التى يسهل تأويلها لمنع أو مصادرة أى عمل إبداعى، والأمر يستفحل حتى وصلنا إلى الوضع الذى نعانيه الآن.. والغريب أن الدكتور العطيفى برر للكاتب صلاح عيسى قراره بأن «مشايخ» المساجد وجعوا دماغنا، وأن هذا القرار لإرضائهم.. وهو ما حدث فعلًا.

ورغم أن السيد الرقيب العضو المنتدب ظهر فى أكثر من مناسبة مطالبًا بإلغاء الرقابة واستبدالها بـ«التصريح» العمرى، ولكن واقع الأمر يفصح عن تدهور كبير فى مفهوم الرقابة وأهمية حماية المبدع المنصوص عليها فى المادة ٥٧ من الدستور الحالى التى تدعو إلى ضرورة حماية المبدع وتشجيعه.. ورغم أن المادة ما زالت تعطى «النيابة» العامة حق «الحسبة» التى كانت للأفراد يشرعونها فى وجه كل جديد ومختلف، إلا أن السيد الرقيب ما فتئ يذكرنا بقانون ٤٣٠/١٩٥٥ الذى صاغه صلاح سالم، والذى يتعامل مع المنتج الثقافى فقط من المنظور الأوحد، وهو حماية الأمن والنظام العام والآداب العامة.

هشام سليم وليلى علوى 

فالسيد الرقيب توقف عن ممارسة دوره المحورى والأساسى فى الوصول إلى صيغة تحقق انطلاق الإبداع، وبالتالى انتعاش الصناعة والفن فى مجال كانت مصر تملكه بالكامل فى المنطقة، وتكاد تخسره بالكامل أيضًا لصالح كيانات لم نتخيل يومًا إمكانية ظهورها.

وهذا بعض ممارسات السيد الرقيب: 

١- أصبح يعلن صراحة عن أن الرأى النهائى فى أى عمل فنى هو رأى «جهة» أخرى وليس رأيه أو رأى جهازه الرقابى، وبالتالى يعمل على تشويه صورة الدولة التى أتاحت له إمكانية الحوار الإيجابى مع المبدعين، للوصول إلى صيغة تحقق أغراض الدستور دون الاعتداء على مجموعة القيم التى نص عليها هذا الدستور نفسه، وهى عدم الدعوة للعنف أو التمييز أو القذف أو تناول الحياة الشخصية.. فالأصل فى وجود الرقيب هو حماية المبدع.. وفى ظل وجود مثل هذا المرتعش فلا حماية، فالرفض جاهز منذ مراحل الكتابة الأولى، و«النفخ فى الزبادى» هو الشعار المرفوع تفاديًا «لوجع الدماغ»، وطبعًا استماتة فى الاستمرار فى المنصب.

٢- رغم المطالبات المستمرة ما زال «موظفو» الرقابة يتم تعيينهم دون أى شروط أو مؤهلات أو حتى حد أدنى من الثقافة العامة التى تتيح لهم قراءة بل و«الحكم» على أعمال المبدعين من كتاب ومخرجين وموسيقيين وشعراء.. وحتى الآن لم يشرع حتى فى عمل دورات لهؤلاء توفر هذا الحد الأدنى، فامتلأت الرقابة بعقول ضيقة أو موظفين تابعين يختبئ وراءهم السيد الرقيب حين يريد، ويتجاهلهم حين يرغب «حسب الظروف والأوامر».

الهام شاهين وليلى علوى وهالة صدقى

٣- الإلغاء الفعلى لـ«لجنة التظلمات العليا» التى كانت تنظر فى قرارات الرقابة، والتى «رغم تحفظنا على تشكيلها بقرار وزارى» كانت تنظر فى كثير من الحالات بواقعية وبمنطق قانونى.

٤- امتداد التعسف الرقابى لضرورة منح تصاريح للأفلام «التجارية وغيرها» التى تعرضها الجمعيات الخاصة، مثل النقاد والأسابيع الخاصة غير الهادفة لأى ربح، وفى الغالب يطلب مقابل للتصريح بالأفلام حتى فى المهرجانات المستقلة الصغيرة بالمخالفة لأى قانون أو عرف.. ومعظم هذه الأفلام تكون معروضة وحاصلة على تصاريح عرض عامة.

٥- ابتدع السيد الرقيب تحصيل رسوم على «القراءة».. لمجرد قراءة مسلسل يدفع المنتج مبلغًا عن كل حلقة كمكافأة لقارئها الذى هو معين فى منصبه ليفعل ذلك.. وبمخالفة للقانون الذى يحظر تحصيل أى رسوم ليست منصوصًا عليها وبموافقة وزارة المالية.. خاصة أننا لا نعرف كيف يتم صرف هذه المكافآت وعلى أى قاعدة.. وللأسف هذا يتم أيضًا فى عمليات التصريح بالأغانى والرقصات.. إلخ فى عمليات تغيب عنها كل شروط الشفافية والإعلان.

٦- يتحايل السيد الرقيب على القانون الذى يلزم بالرد الرقابى فى زمن معين بإرسال خطابات شكلية «تجدد» المدة تفاديًا باتخاذ موقف مما جعل كثيرًا من المبدعين عاجزين حتى عن رفع دعوى على جهاز الرقابة المراوغ الذى يهوى بفن السينما والمسرح والموسيقى إلى القاع.

لك الله يا مصر.. ولنا الصبر.