السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«دولاب مريم».. مساءلة الأيديولوجيا ومشاكسة الواقع الثقافى

حرف

- تعتمد «دولاب مريم» على آلية التوالد الحكائى حيث تتناسل الحكايات من بعضها البعض

- هناك إشكالية تتعلق بعدم اكتمال بعض خطوط السرد ومساراته داخل الرواية

- الأستاذ سالم كان يعلم أن جارته الشابة تستقبل عشيقها فى السابعة صباحًا

الصفحة الخامسة والعشرين من العدد الحادى والعشرين لحرف

تبدو الكتابة فى تجلٍ من تجلياتها استجابة جمالية وموضوعية للواقع، وليست انعكاسًا آليًا أو ميكانيكيًا له، فهى ليست كاميرا فوتوغرافية تسجل لنا الواقع مثلما تراه، لكنها المرآة الموضوعة بزاوية معينة؛ وعين الكاميرا التى تلتقط ما هو جوهرى ودال من وجهة نظر كاتبه. ومن ثم ليس شرطًا أن ترصد القضايا الكبرى، أو الإشكاليات المركبة، لكنها تعاين الواقع من زاوية مختلفة.

وربما هذا عين ما يفعله القاص والروائى فهمى عبدالسلام فى روايته الجديدة «دولاب مريم»، والصادرة فى القاهرة حديثا عن «دار الأدهم». 

رواية دولاب مريم

بنية الرواية

وتتشكل «دولاب مريم» على المستوى البنائى من ثمانية وعشرين فصلًا سرديًا، وتتبع فى أسلوب بنائها تكنيك المقاطع السردية المرقمة ترقيمًا عدديًا «١،٢،٣،..».

وتصحبنا عين الكاميرا Camera. Eye التى تعتمد على تكنيك الراوى الرئيسى الذى يستخدم ضمير الغائب فى الحكى، وبطريقة تشى بأن هذا الراوى الرئيسى قريب من الحكاية، ويبدو هذا بارزًا فى استئناف الحكاية كلما انقطع مسارها الروائى من جهة: «لا بد أن نؤكد وقبل من كل شىء أن السيدة سامية، التى تنتظر عشيقها فى تلك الساعة المبكرة جدًا من الصباح، من ناحية الجمال والشكل، فهى امرأة عادية، عادية إلى أقصى درجة، وإذا ما رآها أحد تسير فى الشارع فلن يلتفت إليها، فمثلها متوفر بشدة فى كل مكان، فى الطريق والمدارس والنوادى والبنك.. إلى آخره، باختصار لن يخطر على بال أحد أن هذه المرأة العادية جدًا قادرة على كل تلك التدابير الجهنمية، إنها امرأة أميل إلى القصر والامتلاء، لها بشرة داكنة بعض الشىء، وفم واسع وشفاه غليظة وأنف أفطس قليلًا، ويفتقر جسدها إلى العنق إذ تندك رأسها على كتفيها مباشرة، ولها شعر قصير أجعد وأميل للخشونة، أما عيناها وإن كانتا ضيقتين غائرتين قليلًا، إلا أنهما تتميزان ببريق نافذ يعكس ذكاءها الحاد وذهنها اليقظ المتقد على الدوام، فهى تفهمها وهى طايرة». 

وتبدو الرؤية من الداخل للراوى الرئيسى أيضًا عبر غوصه فى سيكولوجية الشخوص من جهة، وقيامه بالوظيفة التحليلية للسلوك الإنسانى لدى شخوصه من جهة ثانية. 

ويشتمل الاستهلال الروائى على لحظة القص الرئيسية التى تنطلق منها الرواية، وتلوح فيها شخوصها المركزيين «سامية/ فاروق المازنى زوجها/ مريم ابنتها/ حسام البنان عشيق سامية». 

ويبدو الاستهلال الروائى بمثابة التقديمة الدرامية للرواية، والممثلة للمدخل، والإطار السردى للحكاية. ومن متن هذه الحكاية الأم تتفرع عشرات الحكايات الفرعية.

فهمى عبدالسلام

التوالد الحكائى

تعتمد «دولاب مريم» إذن على آلية التوالد الحكائى، حيث تتناسل الحكايات من بعضها البعض، معتمدة على تكنيك السخرية الذى يمثل مركز الثقل فى الرواية، وتعقيبات السارد الرئيسى، الذى يلجأ كثيرًا إلى توظيف تكنيك كسر الإيهام فيما يتصل بالتلقى. 

ويعد مثلت «الزوج/ الزوجة/ العشيق» سردية جاهزة رأيناها فى الأدب غربه وشرقه؛ وهى تخرج من جاهزيتها هنا بانتقال سامية الكيلانى إلى عشاق آخرين، وهى الواصلة بين مكونات السرد المختلفة، وشخوصه المتنوعين. 

ويعد «دولاب مريم» أداة الاختباء، فيلجأ إليه حسام البنان هربًا من الزوج الباحث عنه فى جنبات الشقة، بعد الاتصال التليفونى الذى يتلقاه من مجهول/ معلوم «الكاتب الفاشل المتصابى سالم الحوفى»، والطامع فى سامية التى أثارته، ثم تخلت عنه، وتبدو العلاقة بين سامية وسالم الحوفى مركبة وملتبسة، وسالم نفسه شخصية إشكالية، يقدمها فهمى عبدالسلام على دفعات، وتتداعى الملامح الساخرة فى التعبير عنها منذ البداية: «عندما كانت سامية تقف فى الشرفة تودع مريم وفاروق وتنظر ناحية الكشك وتضع السلة البلاستيكية الخضراء فى إفريز الشرفة، لم تكن تعرف أن هناك من يتطلع إلى الشارع مثلها، ففى الشرفة المواربة الشيش والمجاورة لنافذة سامية كان هناك رجل يرقب الشارع باهتمام شديد، إنه الأستاذ سالم الحوفى الذى يسكن فى الشقة المجاورة لها، والأستاذ سالم قبل أن نعرف لماذا يرصد ما ترصده جارته سرًا، لا بد أن نعرف أنه (كاتب)، وتلك مسألة لا يمكن تجاهلها، لكن السؤال، وما هى علاقة الكاتب أو فنون الكتابة بالتلصص على الجيران؟. الإجابة ليست بسيطة، فالموضوع معقد، باختصار أن الأستاذ سالم كان يعلم أن جارته الشابة تستقبل عشيقها فى السابعة صباحًا، ويعلم أن الرجل الواقف فى الشارع عند الكشك هو حسام بك البنان، عشيق سامية، لقد وقف الأستاذ سالم فى شرفته يرقب فى تلصص باب العمارة وحركة حسام بك، أما عن علاقة سامية وجارها الكاتب المسن فهى علاقة ملتبسة بها الكثير من المفاهيم المغلوطة وسوء النية وسوء الفهم كما سيرد فى حينه، المهم أن الأستاذ سالم ظل طيلة الليل ساهرًا حتى هذه اللحظة وقد بيت نية خطط لها طويلًا وجاء الوقت ليضرب ضربته، لقد وقف وقد تحول إلى كتلة من الانتباه ليرى بالضبط متى سيطلع العشيق»، وينتقل الكاتب فى المقطع ذاته من السرد الخبرى والتحليلى إلى استعمال تكنيك المونولوج الداخلى على لسان سالم الحوفى نفسه، وعلى نحو ساخر لا تخطئه عين:

«أريده فقط أن يطلع، كل يوم يطلع لها، لكنه سيطلع اليوم ولن ينزل، فليس طلوع الحمام مثل الخروج منه يا حسام بك يا جلاد الشعب.. دقت ساعة العمل الثورى، ها هو يدخل والحمد لله والخيرة فيما اختاره الله».

هكذا جرت أفكار الأستاذ سالم الذى ظل لابدًا خلف النافذة متأهبا للعمل فورًا. 

ويؤشر العنوان أيضًا على تلك المفارقة بين حالة الطهر التى تمثلها الصغيرة «مريم»، والوقاحة التى تتسم بها أمها سامية، وما تحويه دلالة الاسم هنا فى الوجدان العام من إحالة على البراءة والملائكية والطهر المطلق. 

ويلوح من جديد سالم الحوفى الكاتب المقموع فى الندوات الأدبية، الذى يهرف بكلام مجانى وعبثى فى الوقت نفسه، من قبيل «لقد تزوجت الكتابة»، وبالأحرى «لقد تزوجت القصة القصيرة»، «القصة القصيرة تكتبنى ولا أكتبها». 

زخم الشخصيات

ثمة زخم فى الشخصيات، وخيوط متعددة للسرد، فهناك مؤسس جماعة البراندى الصباحية فى مقهى «ريش»، المخرج عزت فتحى، الذى لم يخرج سوى فيلم وحيد، ظل بعده عاطلًا عن العمل، وحاملًا لقب «مخرج»، ومعه الصيدلى سعيد طاهر، والطيار سابقًا، والناقد اليسارى يونس عوف.

وهناك فى زاوية أخرى يقف عصام برهان، رئيس النيابة المفصول من العمل؛ والعائد بحكم قضائى، ومعه الصحفى الفارغ فريد الشاذلى، وقد فرغا من معاينة كل حانات وسط المدينة، حتى استقر بهما المقام فى العقار الذى يحتفظ فيه سالم الحوفى بشقة فى بيت «أم حسين» فى الظاهر، ولأن البواب يخشى من عصام برهان، يفتح له شقة أم حسين كى ينام فيها للصباح، وفى اللحظة ذاتها يتصل بسالم الحوفى كى يصرفهما من شقة المرأة قبل عودتها، ليصب سالم الحوفى غضبه على الجميع، بطريقة هزلية:

«ارتدى الأستاذ سالم ثيابه على عجل، وشعر براحة ما لأنه سيغادر مسرح الأحداث، ليرى (المصيبتين) اللتين فى شقة الظاهر، وتساءل: كيف يطلب جان بول سارتر من عبدالناصر عندما جاء إلى مصر، أن يفرج عن عصام برهان وأمثاله من الشيوعيين المعتقلين؟ هل يعلم سارتر أن عصام سيشرب ويصبح طينة ويدعو مأفونًا آخر ليناما فى شقة أم حسين؟ ما هو التحليل المادى الجدلى لتلك (النطاعة)؟ سيذهب إلى شقة الظاهر بأسرع ما يمكن، وسيفتح عليهما الشقة وسيلم ثيابهما ولن يجعلهما يرتديان ثيابهما فى شقة أم حسين، سيرتديانها عنده فى شقته، وبعدها سيطردهما فورًا لكى يعود إلى سليمان الحلبى، هناك سوف يرى ماذا نجم عن وشايته، شعر بالارتياح لأن مغادرته شقته فى سليمان الحلبى أتاحت له الفرار بعيدًا عن مسرح الأحداث المشئومة وعن المصائب المنتظرة، فى سليمان الحلبى تتم الآن مواجهة رهيبة بكل المقاييس، الزوج المخدوع الآن يواجه العشيق المخادع متلبسًا ووجهًا لوجه، هذه الأفكار جرت فى عقل سالم، أطفأ الأباجورة وتسحب وخرج من الشقة فى هدوء».

ثمة إشكاليتان فنيتان فى الرواية، تتعلق الأولى بالترميز بالحروف الهجائية فى سياق الحديث عن إحدى شخصيات الرواية «س. ح»، فلم يكن لها من مبرر درامى أو سردى على الإطلاق، أما الإشكالية الثانية فتتصل بعدم اكتمال بعض خطوط السرد ومساراته داخل الرواية، خاصة مع الزخم الهائل من الشخوص والحكايات. 

وتأتى النهاية مشغولة بأحد أبطال الرواية المركزيين «عصام برهان» الحالم، والمرتبك فى الآن نفسه، شأن أبطال آخرين فى رواية تسائل الأيديولوجيا، وتتماهى معها فى الآن نفسه، على نحو يسخر من الواقع الثقافى، ويشاكسه.