السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الرواية العربية.. عثرات وانتصارات

معرض الكتاب
معرض الكتاب

- التقنين العلمى للظواهر والرصد الدال لتجلياتها يستلزم وعيًا بالمنهج والنظرية النقدية ذاتها وتحولاتها

- الرواية تبدو فى تجل من تجلياتها إدراكًا جماليًا للواقع ومحاولة للتماس مع الداخل الثرى فيه

حين تتخلى الرواية عن جاهزيتها، وتمارس لعبها الفنى باستمرار، واضعة قدمًا فى قلب النوع الأدبى، وقدمًا أخرى فى الخروج عليه، فإنها تقترب كثيرًا من أن تكون ممثلة لغواية متجددة، هى شغف الفن، وقوته، حيث غواية الرواية، ودقة النقد ووهجه باعتماده المعرفة والخبرة بالنوع الأدبى، وتراكماته الفكرية والجمالية. 

كل شىء صالح للحضور فى النص الروائى، لكن صلاحيته مشروطة بالتوظيف الجمالى، والتخييل، والجدة، والابتكار.. من هنا سيكون النص الروائى مفتوحًا على الذات، والحياة، والعالم، متسعًا باستمرار. وستكون الرواية- بحسب ميلان كونديرا- ابنة «التعقيد والتراكم». 

يمكننا ونحن نتحدث عن مستقبل الرواية أن نبدأ من بعيد، ومن قريب أيضًا، من مفردة الإبداع ذاتها، التى تعد المفردة الأساس التى يمكن أن ننطلق منها هنا، حيث الإتيان بشىء على غير مثال سابق كما فى المعنى المعجمى، وفى المعنى الاصطلاحى أيضًا بوصفها إدراكًا جماليًا متجددًا للذات والعالم، وللجدل القائم بينهما، للتفاصيل الصغيرة والمقولات الكبرى، للواقع والحلم، للبشر والأمكنة، للزمن والأخيلة. للدال والمدلول، للتقنية والجوهر.

تنفتح الرواية على مخزون هائل من الخبرات الحياتية، والهواجس، والأمانى، والأحلام، تقنع بالشرط ولا تقع فى إساره. تتخذ صيغًا متعددة، وأشكالًا مختلفة، ومن ثم فلا يمكن حصرها فى سياق ولا تقييدها بمسار. تحتفى بالفن، والجمال، والحرية. والحرية روح الروائى والرواية، وجوهر النقد وقلب الناقد.

والنقد والرواية يحتفيان بالمنطق الديمقراطى للسرد والقراءة، فالنص بوصفه جماعًا لنصوص سابقة أفاد منها، وتفاعل معها وتجاوزها كما تعلن جوليا كريستيفا، والخطاب بوصفه قراءة لا نهائية تتجدد بتجدد التأويل، واختلاف القراءات النقدية. 

الرواية تحوى صيغًا مختلفة والنقد يحمل مستويات متعددة.

إن ثمة دورًا مسئولًا، وتاريخيًا يجب على النقد أن يمارسه الآن، بوصفه عطاء من عطاءات الواقع الرحبة، مدركًا أنه لا نص ينمو فى الفراغ، وإنما هو ابن لسياقاته السياسية، والثقافية، وبما يؤكد أن ثمة انحيازًا للفنى والجمالى بالأساس.

تنفتح الرواية على جملة من الاقتراحات السردية المختلفة، التى لا تبقيها فى خانة واحدة، ولا تطرح صيغة أحادية لها، بل إنها تبرز بوصفها مجلى لعشرات التصورات عن العالم، والصيغ الجمالية، والبنائية المتعددة، فالرواية ابنة التنوع، والاختلاف، وترميز دال على ذلك المنطق الديمقراطى للكتابة. وربما يشكل انفتاح النص الروائى على مجمل الخبرات الحياتية، والأحلام، والانكسارات، والهواجس، والإخفاقات هاجسًا للكتابة، وملمحًا من ملامحها الحاضرة.

إن الرواية العربية فى سعيها المتواتر لتدشين نفسها بوصفها عطاء جماليًا فى مجرى الرواية العالمية، يبدو أنها قد التفتت إلى تخليق خصوصيتها التى تميزها، وهنا يصبح ما بذله الآباء المؤسسون والمطورون للفن الروائى وفى مقدمتهم الكاتب الروائى العالمى نجيب محفوظ، حاملًا دلالة مهمة على إنجاز نسبى للرواية العربية، يتجدد عبر جملة من النصوص الروائية المغايرة التى ترفد السردية العربية، والتى لا يمكن على الإطلاق أن نصنع حصرًا لها، أو أن نتعامل معها بوصفها كتلة واحدة، ومن ثم نصبح أمام تمثيلات جمالية للسردية العربية الراهنة، من جهة، ومن خلال نماذج روائية خلاقة من جهة ثانية. حيث إن النصوص هى ما يبقى وهى ما يجب أن يكون هاجسنا الوحيد. 

الصفحة الرابعة عشر من العدد العشرين لحرف

إن الرواية بوصفها فنًا له مواضعاته الجمالية البارزة، تبدو فى جوهرها بحثًا أصيلًا عن الوجود الإنسانى، والرواية الأوروبية مثلًا، وبحسب «س. أنا ماريا» قد «واصلت بإحكام تحولاتها المتسارعة فى ملامحها الداخلية والخارجية، إذ إن هذه التحولات من حيث النظرة إلى العالم وصورة العالم هى من مستتبعات تغيرات أخرى مستجدة، فابتداء من النصف الثانى من هذا القرن أخذ عدم الاقتناع يتزايد فى مواجهة النظام الرأسمالى، كما أخذ الإحساس بملامح القسوة والعدوانية للعالم البرجوازى يتزايد على الصعيدين الشعورى والعقلى». 

غير أن التحولات التى شهدتها الرواية العربية ربما بدت أكثر من صدى لجملة التحولات الاجتماعية المربكة التى حدثت بدءًا من هزيمة الصيف السابع والستين، ثم عقد السبعينيات الذى شهد الانتصار الخالد فى حرب أكتوبر المجيدة عام ١٩٧٣، واتفاقية كامب ديفيد، ثم معاهدة السلام عام ١٩٧٩، وفى السبعينيات أيضًا رأينا حضور المد المتأسلف، لنصبح أمام عالم يتشكل على أنقاض عالم قديم. وحظيت التسعينيات بتحولات أخرى، حيث تعزز فيها الالتحاق بمدونة رأس المال العالمى، ثم كانت التحولات السياسية، والثقافية فى العقدين الأخيرين من مطلع الألفية الجديدة. 

تبدو العلاقة بين الرواية والواقع ذات طابع جدلى، ولذا فإن الرواية تبدو فى تجل من تجلياتها إدراكًا جماليًا للواقع، ومحاولة للتماس مع الداخل الثرى فيه، ولذا فإن الروائى يتعامل مع الواقع بوصفه مادة خامًا تحمل من الاتساع والتنوع ما فى الواقع ذاته من خصوبة واختلاف، ومن ثم فهو يختار منه ما يشاء، وفقًا لمنحى الاختيار- المنحى الأصيل فى عملية الكتابة- ثم يعيد تشكيل هذه المفردات وتطويعها وفقًا لرؤيته للعالم، هذه الرؤية التى تحدد للكاتب موضوع فنه، وهى لا تحدد له الموضوع فحسب، ولكنها تحدد له أيضًا الزاوية التى يتناول منها هذا الموضوع. وذلك على اعتبار أن موقف الفنان- بحسب د. شكرى عياد- «يظهر فى طريقة معالجته لموضوعاته أكثر مما يظهر فى موضوعاته نفسها». 

تتنوع مسارات الخطاب النقدى وتتعدد، فمن كونه تمييزًا ما بين الجيد والردىء، وهو أحد المفاهيم المركزية الكلاسيكية للنقد الأدبى، إلى كونه استجلاء لجماليات النص الأدبى، وكشفًا عن جوهره الثرى، وصولًا إلى محاولة تلمس العصب العارى داخله، بحيث يصبح الخطاب النقدى ذاته إبداعًا موازيًا للنص من جهة، ورؤية للعالم من جهة ثانية، وربما شهد نقد الرواية تحولات كثيرة، ليس عبر المناهج النقدية الراسخة، أو مداخلات النقد الجديدة فحسب، ولكن أيضًا عبر إجراءات التحليل السردى الجديد، وما تحمله من نزوع علمى واضح، وإن ظلت مساحات التأويل حاضرة دومًا، شريطة اعتماده على أساسات نصية وليس محض تأويل فى الفراغ.

فالتحولات التى صاحبت النظرية النقدية فى العالم، والانفتاح الذى شهدته الثقافة العربية على مثيلتها الأوروبية ربما ستدفع بأفق التلقى للنظرية النقدية إلى مناحٍ أخرى أكثر رحابة، كما أن الأنواع الأدبية المختلفة قد شكلت سياقاتها النقدية المستقرة، من اصطلاحاتها إلى مناهجها إلى أدواتها الإجرائية.

وفى نقد الرواية كنا أمام سيل من النظريات الحديثة، التى منحت هذا المفهوم المستقر معانى مختلفة، وأشكالًا متعددة، فمن تطوير خطابات الماركسية والاستفادة من الاتجاه الاجتماعى فى نقد الرواية إلى البنيوية بتنويعاتها، والتفكيك بتجلياته، والنقد الثقافى بالتماعاته، وصولًا إلى آليات التحليل السردى الجديد.

يقدم الخطاب النقدى الجديد للنص الروائى إمكانية نظرية لانفتاح مذهل على جميع الفنون والعلوم الإنسانية، وهذا الانفتاح بدا جزءًا من الممارسة الإبداعية ذاتها، غير أن التقنين العلمى للظواهر، والرصد الدال لتجلياتها يستلزم وعيًا بالمنهج والنظرية النقدية ذاتها وتحولاتها، فضلًا عن خبرة جمالية تستكشف ما وراء النص، وتعيد الاعتبار للعناصر الأكثر فنية داخله.

حيث يطرح النص الأدبى منهج التفاعل النقدى معه، فمن البنيوية التوليدية إلى التفكيك إلى الاهتمام بأدوات التحليل السردى الجديد، حتى التصورات المستقرة فى البحث العلمى مثل المنهجين النفسى والتاريخى يمكن أن تخوض غمار هذا التفاعل الخلاق.

ثمة أسئلة جمالية تخص مستقبل الرواية، منها ما يتصل بغياب المعيار، وإشكاليات الخطاب النقدى ذاته، فليست لدينا حركة نقدية متكاملة، وإنما لدينا آحاد من النقاد البارزين والفاعلين فى المشهد الثقافى الراهن، وإذا أضفت إلى ذلك غياب الفلسفة، وعلم الجمال عن كثير من الأطروحات النقدية بوصفها إطارًا معرفيًا، ستقف على جوهر الأزمة، ومن الأسئلة الجمالية أيضًا ما يتصل بالتباس التصورات حول مفاهيم الرواية الجديدة، والسرديات العابرة للنوع، وتراسل الأنواع الأدبية، وغيرها.

تتقدم الرواية حين يتسع داخلها مدى التخييل، إن ضمور الخيال وشحوبه إشكالية حقيقية تواجه تطور الرواية، فاللجوء للسرديات الجاهزة، والخضوع لشروطها نقيض للفن، وضد الرواية بامتياز.