السبت 05 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أثر الغيطانى.. ما الذى سيبقى من «صاحب» التجليات؟

جمال الغيطانى
جمال الغيطانى

عايش جمال الغيطانى «١٩٤٥- ٢٠١٥» صخبًا شديدًا، وخاض معارك فكرية وثقافية عديدة، لكن فى متن النقد الأدبى، فقد حاز جمال الغيطانى مشروعًا سرديًا خلاقًا، يخصه وحده، يعتمد فى جوهر بنائه على جدل التاريخى والجمالى، فكانت رحلته مع النص ارتحالًا فى التاريخ المصرى ذاته، قديمه، ووسيطه، فضلًا عن معاينة لحظات معاصرة، وقلقة من عمر الأمة المصرية؛ ومن ثم فإن استعادة جمال الغيطانى على صفحات «حرف»، فى ذكرى ميلاده « ٩ مايو»، تعد استعادة لجملة من قيم الثقافة الوطنية، ونحن هنا نضع المنجز الأدبى للكاتب الراحل فى «ميزان النقد» بعد سنوات خلت من الصخب، والمباعدة الزمنية. 

طرف من إبداع  الغيطانى

ثمة بداية لافتة للكاتب جمال الغيطانى، تمثلت فى مجموعته القصصية «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، وهى مجموعة تطرح أسئلة متجددة حول ماهية النوع الأدبى، خاصة فى بنائها المكون من مقدمة، وأربعة نصوص، تضع ثلاثة منها قدمًا فى التاريخ، وأخرى فى الواقع عبر تكنيك الإسقاط الرمزى، وتخوض واحدة منها «أيام الرعب» دراما الحياة اليومية، عبر مساءلة «سردية الثأر»، التى تجلب معها خليطًا مربكًا من مشاعر الخوف، والرعب، والإخفاق، عبر بطلها المركزى «محروس فياض سلامة» الذى تنفتح القصة على خطاب موجه إليه من جده «سيد أبوالغيط» : «ولدنا الغالى محروس فياض..». يحذره فيه من ثأر يطارده، وتنهض القصة على آليات التوتر الدرامى، وتصبح جدارتها فى استكشاف مساحات الخوف داخل النفس البشرية، واللعب على الوتر النفسى للشخصيات. 

أما المقدمة فهى تحيل على النكسة، التى يستذكرها شاب أنهكته الأيام، مثلما تحيل على مجاَوزتها، وكونها أضحت ماضيًا. تمثل المقدمة إطارًا سرديًا للمجموعة، التى تبدو فى تجل من تجلياتها بحثًا عن الأسباب العميقة لما حدث فى العام ١٩٦٧، ويتخذ هذا البحث إهابًا تاريخيًا، يتمثل فى القصص الثلاث: «المقتبس من عودة ابن إياس إلى زماننا/ هداية أهل الورى لبعض مما جرى فى المقشرة/ كشف اللثام عن أخبار ابن سلام». ففى «المقتبس من عودة ابن إياس إلى زماننا» يوظف الكاتب تكنيك الارتحال فى الزمن، عبر استعادة المؤرخ المملوكى الشهير ابن إياس، واستحضاره فى قلب المأساة الراهنة، وفى «هداية أهل الورى لبعض مما جرى فى المقشرة» ثمة استهلال قصصى يتكئ على حيلة تقنية مراوغة تتمثل فى عثور السارد الرئيسى على مخطوط نادر، يحكى فيه صاحبه «آمر السجن» عن بعض مما رآه، وعاينه، ويصبح المخطوط بمثابة عين الكاميرا التى تنقل لنا بعضًا مما دار:

«اطلعت على هذا المخطوط فى خزانة كتب أحد الجوامع القديمة بالجمالية، وأثارنى بغرابة موضوعه، إذ لا يمت إلى أى من المسائل المتعلقة بالفقه أو الشرع، حيث تضم هذه الصفحات ذكريات آمر السجن الذى عرف فى عصور المماليك الغابرة بالمقشرة، وكثير من صفحات المخطوط مفقود، غير أننى آثرت نشر ما وجدته لندرة مادته وغرابتها، ولم أتدخل إلا نادرًا؛ كذا لاحظت أن المؤلف لم يحدد عصر السلطان الذى تولى فيه إمرة المقشرة، غير إنى أرجح أنه كان زمن السلطان أشرف قايتباى، أو الأشرف قنصوه الغورى؛ آخر سلاطين المماليك.

ولعل القارئ أو الباحث يجد فى هذه الصفحات مادة مفيدة وصفحات هامة لبعض مما كان يجرى فى مصر خلال هذه الأزمان البعيدة، غفر الله لنا ما تقدم وما تأخر من ذنوبنا». تأخذ اللغة فى الانحراف عن مسارها المعاصر لتأخذ إطارًا تاريخيًا/ تراثيًا، يتواءم مع وعى السارد من جهة، والمروى عنه من جهة ثانية: «أما بعد..

فلما كنت توليت إحدى الوظائف الغريبة فى زمانى، التى أخدم بها مولاى السلطان، ونظرًا لما وقع لى من حوادث غريبة ونوادر قد تبدو للبعض أليمة وللبعض ظريفة، ولما كنت أقضى جل وقتى فى المقشرة، قلت لأخط شيئًا مما أراه وما أسمعه؛ ومن يدرى، ربما قرأ مولاى أشرف زماننا ما كتبته فيعرف إلى أى حد تفانيت فى وظيفتى وذقت فيها الألم، وكدت أرى منها الهلاك، عندئذ يرق قلبه، وينعم علىّ بتقدمة ألف أو ربما دنانير من بعض جوده، وأعلم غفر الله لنا أجمعين، أن السجن الذى أنا آمره، يقع بجوار باب الفتوح فيما بينه وبين جامع الحاكم بأمر الله، وسمى بالمقشرة لأنه أقيم فى موضع كان يقشر فيه القمح، والعامة والسوقة وجميع أهل مصر يقولون إنه من أبشع السجون وأشدها هولًا، يقاسى المسجونون فيه من الغم والكرب ما لا يوصف، والذين يقولون عنه هذا لم يروه من الداخل؛ فكيف بهم إذا دخلوه؟ ولو مر الرجال أو النساء من جواره لقالوا سرًا أو علانية وهم عن بنائه يبتعدون: اللهم عافنا شره وبلاءه، أسمعهم يقولون ذلك فأسخر منهم، ولا يستبعد واحد منكم نفسه عن المقشرة، ربما اليوم وسط عيالك وإلى جوار امرأتك؛ وفى الصباح فى أسفل طباق المقشرة.

فى بعض الليالى التى أقضيها هنا أضيق بوجودى وبنفسى، وفى النصف الثانى من الليل يكون الهدوء غويطًا كالموت والظلام مخيفًا حتى للذين ألفوه». 

تبدو سردية القسوة حاضرة بجدارة فى المخطوط/ النص الذى يمثل تنويعة على متن استحضار التاريخ من أجل مقاربة لحظة معاصرة «نكسة السابع والستين»، وتفعيلًا لفهم الحاضر عبر تفكيك الماضى ومساءلته. 

تلوح ثنائية السجين والسجان، وتنحو القصة صوب مقاربة سيكولوجية السجان الذى يجد ضالته فى «المقشرة/ السجن»، ويصبح الحوار السردى بينه وبين الشيخ مسعود دالًا، وكاشفًا فى الآن نفسه عن تعقيدات لا نهائية فى سيكولوجية «آمر السجن»:

«من ليالٍ؛ أوقفنى الشيخ مسعود عند حارتى بعد أن تركت بيتى، وقال:

ـ ألا تخاف الله يوم القيامة؟ قلت: أستعيذ به وإليه ألجأ، هل رأيتنى فاسقًا أو مقصرًا فى الفريضة أو أبلغك عنى الزعر أننى جدفت فى حق ربى؟ لا والله يا شيخ مسعود، قال: لا هذا ولا ذاك، لكنى أسمع أنك تذيق المحابيس صنوفًا من العذاب، وإنك تجمع الكثيرين فى موضع يضيق عنهم غير متمكنين من الوضوء والصلاة، وقد يرى بعضهم عورة الآخر.

قلت: كل عمل وله سوءاته وميزاته يا سيدنا، واعلم أن كل ما بلغك كذب من أوله إلى آخره، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، طلبت منه أن يدعو لى بالمغفرة، قال: اللهم احجب عنا بلاءك وشرك، فمضيت وبنفسى منه، كأنه يظننى آمرًا لبرج القلعة ولخزانة شمائل وسجن الديلم أيضًا أو العرقانة، ما ذنبى أنا؟ هل أنا الذى ابتدعت الحبوس؟». 

مثلت «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» حالًا من الإرهاص بولع ما لدى الغيطانى يتشكل صوب أنسنة التاريخ، والكشف عن المسكوت عنه داخله، هذا الولع الذى صار أكثر وهجًا وإحكامًا فى روايته الفاتنة «الزينى بركات»، والتى رصدت مرحلة فارقة فى مسيرة الأمة المصرية، وهى تنتقل من جلاد «الشهاب الأعظم زكريا بن راضى» إلى جلاد جديد «والى الحسبة الزينى بركات»، أو بالأحرى من الاستبداد المملوكى إلى الاستبداد العثمانى، وفضلًا عن التحولات التاريخية التى ترصدها الرواية على مهل، مستكشفة تفاصيل المكان والزمان الروائيين بلغة تنحاز إلى المحكى عنهم، وعصرهم ووقائعهم، فإن عالمًا تخييليًا يقيمه الكاتب ويشيده بروح شفيفة، فتلوح الحكايات الفرعية عن المخدوعين، والبسطاء، والثوار والمحبين لتضاف إلى المتن السردى فى مساءلته للقمع عبر تحرير النص/ تحرير التاريخ.

قدم الغيطانى نموجًا فريدًا فى جدل التسجيلى والتخييلى فى روايته «الزينى بركات»، حيث القدرة على خلق مسارات سردية يتقاطع فيها التوثيق مع المخيال، ويتجادل فيها الواقع مع الحلم.

إن الولع بالتاريخى لم يكن منشأ فى الفراغ لدى الغيطانى، بل كان مصحوبًا بوعى حاد بحركته، مرتبطًا على نحو آخر بسؤال المصير ذاته، أو ما يمكن أن يسمى «سؤال المآلات»، هذا السؤال الذى وسم نصوصه فيما بعد وخاصة فى «التجليات» التى بدت مغامرة فى الزمان، وضربًا فى فضاءات المجهول، فاتسمت بنزوع فلسفى غير منكور، والأهم استيحاء النص من التراث الصوفى، فى تماس ظاهرى مع «ابن عربى»، وإن ظلت للتجليات بأسفارها الثلاثة منطقها الجمالى الخاص، ونزوعها السردى الذى يتجادل فيه الذاتى مع الموضوعى، كما تتقاطع فيها الأزمنة، عبر لغة رهيفة تضع قدمًا فى التراث وأخرى فى الواقع، وتتسم بالتنوع فى التعبير عن المحكيات المتعددة فى النص، كما تتسم بالبعد الإشارى الذى يسم الإرث الصوفى جميعه، مثل: «تجلّ وتجلّ، إن النائم يرى ما لا يراه اليقظان».

ومن المنحيين التاريخى والصوفى إلى المنحى الواقعى الذى يعيد صوغ العالم جماليًا، فيرصد واقعًا مسكونًا بالقمع والخوف والوحشة فى «وقائع حارة الزعفرانى»، والتى حوت نزوعًا تحليليًا فى السرد أسهم فى تعميق الرؤية داخل نص شغوف بالحكى التقريرى والخبرى.

فى «دفاتر التدوين» نصبح أمام مشروع سردى ممتد: «خلسات الكرى/ دنا فتدلى/ رشحات الحمراء/ نثار المحو/ نوافذ النوافذ/ رِن/ من دفتر الإقامة»، يسعى صوب استجلاء العالم عبر أدوات الحدس، والتأمل الذاتى، ووصل ما كان بما هو كائن، وربما بدت الدفاتر الثلاثة الأولى: «خلسات الكرى/ دنا فتدلى/ رشحات الحمراء» حاوية نزوعًا جماليًا شفيفًا عن جعل الذات مرآة للعالم، فضلًا عن المراوحة بين الفنتازى والحقيقى، والتعاطى مع فكرة الزمن بوصفها فضاء وجوديًا ودلاليًا فى آن واحد. وما بين الاعتماد على المشهدية البصرية فى توصيف الأمكنة والأشياء، فى «دنا فتدلى»، حيث التوصيفات المدهشة للقطار، والاتكاء على تفعيل الذاكرة والغرق فى نوستالجيا الولع بالحبيبة الأولى، وامتداداتها فى الزمان والمكان عبر تفاصيل الحياة وحوادثها.

بدا الإرث الذى حمله جمال الغيطانى بوصفه مراسلًا عسكريًا شارك فى معارك الاستنزاف وفى حرب أكتوبر المجيدة ١٩٧٣، حافزًا مهمًا صوب التعبير الجمالى عن لحظات مفصلية فى عمر البشر والجنود، فكانت أعماله التى مثلت نموذجًا دالًا على ما يعرف بـ«أدب الحرب»، على نحو ما نرى فى عمله الأدبى «حكايات الغريب» والذى يعتمد على آلية التداخل بين الأزمنة ومن ثم نرى فيه رصدًا للحظات التى تسبق الحرب واللحظات التى تليها مباشرة، وإن ظل النص مفتوحًا على أفق لافت يتعلق بمجرى التحولات المجتمعية التى حدثت فيما بعد فى الواقع المصرى، أو حين يعاين بطولة المجموعة ٣٩ قتال، قائدها الملهم إبراهيم الرفاعى فى نصه «الرفاعى». 

إن التباينات المختلفة فى المنجز الإبداعى لجمال الغيطانى تكشف وبجلاء عن كاتب حقيقى، يملك سردًا يخصه، ومشروعًا دشنه باقتدار فى مسيرة السردية المصرية والعربية، وظل جمال الغيطانى مشغولًا بهويته المصرية والعربية، ولذا سنجد أن رؤية العالم فى نصوصه المختلفة تتبلور حول سؤال الهوية، وكان ولعه بالعمارة الإسلامية، والتاريخ المصرى القديم فى الآن نفسه تعبيرًا دالًا على كاتب يدرك غنى الموزاييك الحضارى المصرى بتنويعاته المختلفة، وروافده الثقافية المتعددة.

«لا خطر طالما نمضى، الخطر كله إذا توقفنا»، ربما يصبح هذا المجتزأ من «التجليات.. الأسفار الثلاثة» مفتاحًا آخر لمقاربة المنجز الإبداعى والفكرى لجمال الغيطانى. وهو ليس مقطعًا سرديًا كاشفًا عن سيكولوجية الراوى الرئيسى للعمل الفنى، قدر ما هو كاشف عن سيكولوجية جمال الغيطانى ذاته، الذى لم تكن كتابته وحركته داخل المحيط الثقافى العربى سوى مجلى لهذه الجملة الدالة؛ حيث كان التخطى والمجاوزة سمتين مركزيتين تظللان عطاء خصبًا، وممتدًا للكاتب الراحل، وبقدر اتساع جغرافيا السرد فى نصوصه الإبداعية، وترحاله فى الزمان، والمكان، وسفره فى الزمن الذى يعد أيقونة مركزية فى أعماله، وتجواله بين التراث الذى تماهى معه، والواقع الذى عاينه عبر زوايا نظر مختلفة، بقدر اتساع ذلك كله بقدر اتساع معاركه، وتعدد محبيه، وخصومه فى الآن نفسه. 

تلقى جمال الغيطانى

يمكننا أن نتحدث عن مفهوم الأثر، بوصفه دالًا ومعبرًا عن مدى التلقى للكتابة، وإذا كانت النصوص هى ما يبقى، فإن الإرث الذى تركه الغيطانى لا شك سيبقى أثره عبر الأعمال الأدبية العديدة التى أشرنا إلى بعضها، مع الأخذ فى الاعتبار أنه ليس ثمة صكوك جاهزة فى الكتابة، فقد يعلو الكاتب فى عمل، ويهبط فى عمل آخر، ومجمل النتاج الإبداعى للكاتب جمال الغيطانى يضعه بجدارة فى مصاف الكتاب المؤثرين فى مجرى السردية العربية، وربما يكشف عن ذلك رغبته الإبداعية فى البحث عن شكل روائى متكئ على التراث المصرى والعربى، وكذلك الأثر الذى يتجلى فى كتاب أفادوا من منحزه الروائى، فضلًا عن الترجمات المتعددة لأعماله، ونشر روايته العالمية «الزينى بركات» فى سلسلة بنجوين الشهيرة التى تنشر عيون الأدب العالمى، وسنجد أيضًا حضورًا موازيًا لأعمال جمال الغيطانى فى الدرس الأكاديمى، وإن اتسم غالبها بالنظر إلى استلهام التراث فى نصوصه الإبداعية.

وبعد.. بدت كتابات جمال الغيطانى نموذجًا دالًا على بحث الكاتب عن طريقة تخصه، ومنطق جمالى يصنعه وحده، وبما يعنى أن هاجس البحث عن مسار سرى جديد يعد جوهرًا فى روايات الغيطانى ونصوصه. والانتقالات ما بين مناح مختلفة فى الكتابة يعد من قبيل الولع بتطوير الشكل الروائى من جهة وإنتاج رؤية مركبة للعالم من جهة ثانية.